Friday, August 27, 2010

الحلم بالتغيير الحقيقى يبدأ بالمناضلين ومعرفة معنى النضال




هذا ليس زمن الكتابة، أكرر لنفسى هذا القول منذ سنوات ومع ذلك لا أزال أكتب! لعلها حلاوة الروح مثل انتفاضة الذبيح قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو لعله الخوف من الشعور القاتل بالوحدة وسط الزحام، فلا أجد مفرا من أن أهمس بالنداء فربما استأنست برجع صدى همساتى ... لكن المؤكد ياعزيزى القارئ أننى أدرك تماما أن كلماتى لن تغير فى الواقع الكئيب شيئا، لأن هذا ليس زمن الكتابة.
أعرف وأعترف أن هناك العشرات – بل المئات – من أصحاب الأقلام يملأون أعمدة الرأى، التى أصبحت "موضة" فى صحفنا جميعا دون أن تقوم هذه الصحف بمهمتها الحقيقية، ودائما هناك أعلى كل عمود صورة الكاتب مبتسما (لا أدرى لماذا) كما قد ترانى هنا، وتلك "موضة" أخرى تنفرد بها الصحف المصرية، لكن هل تساءلنا حقا إذا ما كانت كل هذه الكتابة تساهم ولو بأقل من القليل في صنع مستقبل أفضل؟ مستقبل أفضل للكاتب وحده؟ ربما، وأستطيع أن أدلك على مناضلين عديدين قفزوا إلى لجنة السياسات وأصبحوا أبواقا لها. لكن لمصلحة الوطن بحق؟ أشك. فى الماضى القريب كان من يكتبون يقرأون لبعضهم البعض دون أمل فى أن تصل كلماتهم للمرسل إليهم الحقيقيين، أما اليوم فقد توقفنا حتى أن نقرأ لبعضنا البعض، لكننا مستمرون فى الكتابة. إثبات موقف؟ يمكن. حلم بالتغيير؟ جائز. انتهاز للفرص ليحمل البعض اسم "كاتب"؟ لا شك. الدخول فى اللعبة لعل "البلية" تلعب ويحدث التغيير المستحيل فيجد الكاتب مكانا جديدا فى الواقع الجديد؟ عشم إبليس فى الجنة. اختلفت الدوافع، وكل من يشترك فى مولد الكتابة له حلمه الخاص، الخاص جدا، وهذا ما يؤكد مرة أخرى أننا لسنا فى زمن الكتابة.
هل تأملنا يوما وجوه الناس، ملايين الناس، المكدودة المتعبة فى كل شرائحها، وتساءلنا إذا ما كان هناك عشرة منهم قد قرأوا ما نكتب، وهل اقتنعوا بهذه الكتابة؟ ربما تجد جانبا من الإجابة فى تعليقات القراء على بعض المواقع الإلكترونية، وسوف تكتشف أن الكتابة الأكثر شهرة هى تلك التى تستغل – عمدا – قضايا ملتهبة لتزيدها التهابا (لقد أصبحت مدرسة هالة سرحان وتلاميذها وتلميذاتها هى الأكثر نجاحا!!)، ويفرح الكاتب بتكاثر عدد التعليقات التى يمسك بها القراء بخناق بعضهم البعض، فى حوار يفتقد إلى أبسط قواعد الموضوعية والفهم، ولن تدرى إن كان الكاتب قد حقق هدفه بهذه الطريقة، كما سوف تفاجأ بالأخطاء الإملائية والنحوية للقراء على نحو فادح فاضح يعكس غياب غياب الحد الأدنى من التعليم - فكيف الحال بالثقافة؟ - وإن أكثر من يسمون أنفسهم كُتَّابا فى الآونة الأخيرة لا يصيبهم الأرق أبدا لأنهم لا يعرفون اللغة العربية بحق، وإن نصبوا من أنفسهم أحيانا خطباء سياسيين فى موالد لجنة السياسات، أو وعاظا دينيين فى زوايا وكتاتيب الجرائد.
ومع ذلك فإن تلك الشريحة من قراء المواقع الإلكترونية ليست إلا نقطة فى بحر، هذا البحر العميق اللاهى عن أمثالنا ممن يلعبون على شاطئ الكتابة، وسوف أحكى لك تجربتى: إننى أذهب لمشاهدة الأفلام بحثا فى الأغلب عن الاستمتاع الفنى، وأحيانا أحب الكتابة عنها، لكننى أنظر حولى فى قاعة العرض وأبحث عن جمهور "حقيقى" فلا أجد، لقد جاءوا هنا للهو، ولاستكمال "فسحتهم" فى "المول"، إنهم يضحكون على ما لا أضحك منه (وربما أكشر أيضا!)، ويثرثرون عندما تكون هناك مشاهد تحتاج إلى تأمل، فهل لهؤلاء أكتب؟ ماذا أكتب؟ ولماذا؟ إننى لم أجد خلال السنوات الأخيرة اتفاقا فى الرأى بينى وبين هذا "الجمهور" ولو لمرة واحدة، وأنا هنا أضع كلمة الجمهور بين قوسين لأننى ما أزال أؤكد أن السينما لدينا ليس لها جمهور، فإذا كانت الإحصائيات (الصادرة بالمناسبة عن مؤسسات رسمية) تشير إلى أن معدل الذهاب إلى دور العرض فى مصر لا يتعدى مرة واحدة كل سبع سنوات (!!)، فهل نظل نتحدث بثقة أن لدينا صناعة سينما، بينما الحقيقة كلها أن لدينا أفلاما مصنوعة بالحد الأدنى من الفن، يطرحونها فى دور العرض لتحصد "الغلة" الأولى، ثم تباع إلى الفضائيات التى تعرضها فى أكثر الظروف سوءا، بشريط الرسائل النصية التى يتبادل فيها المشاهدون والمشاهدات عبارات الغزل، وبعشرات الإعلانات التى "تبهدل" أى بناء درامى، فيزداد ذوق "الجمهور" وعاداته فى المشاهدة سوءا، دون أن يعترض صناع هذه الأفلام على تلك الطريقة فى العرض، وإن كان "المخرج" المنتشر – بذكائه فى الإعلان عن نفسه بكل الوسائل وليس أبدا بأية موهبة يملكها – قد اعترض فقط على حذف إحدى القنوات للمشاهد الجنسية الصريحة من فيلمه.
إننى لا أفكر لحظة واحدة فى ألقى بالمسئولية على الناس، فهم لا يذهبون إلى دور العرض لأنهم لا يكادون أن يكملوا الشهر خبزا حافا، ولا يبقى لديهم ما يكفى لنوع من الترفيه مثل السينما، فى ظل الدروس الخصوصية، وصعوبة الانتقال التى تجعل المرء يحمد ربه على أنه وصل سالما – بالصدفة – إلى منزله ليستلقى أمام التليفزيون، ناهيك عن أن الأغلب الأعم من الناس يمارسون عملين أو ثلاثة فى اليوم الواحد حتى يستطيعوا توفير حد الكفاف لأسرهم. لا يمكن فى ظل هذه الظروف أن أطالب "الجمهور" بأن يرتفع ذوقه، أو يتنوع على أقل تقدير، قكل ما يبقى له من جهد ذهنى لا يكاد أن يكفى إلا أن يحملق كالمخدر فى شاشة التليفزيون، يتفرج على أكثر البرامج سفاهة، وأبشع التمثيليات تفاهة، فهل لهؤلاء أقول أن المسلسل الدرامى "سقوط الخلافة" عمل راقٍ بينما هم يرون فى فجاجة "عايز أتجوز" و"الكبير قوى" فنا رفيعا؟
السينما والتليفزيون – مثلهما مثل كل الفنون الأخرى – هما فى جانب منهما ظاهرة "اجتماعية" (وأقصد بهما أنها تشمل الأبعاد الاقتصاية والسياسية والثقافية والدينية)، ولا يمكن أن أفصلهما عن سياقهما، كما يجب علىّ أن أضع الكتابة الصحفية السائدة عنهما فى سياقهما أيضا، كتابة هى فى معظمها استهلاكية لا تختلف عن آراء هؤلاء المنومين مغناطيسيا أمام الشاشة، وهى بعض الأحيان دعائية إعلانية، صريحة أو خفية، أما القليل جدا منها الذى تنوى أن تكون كتابة جادة فهى لا تحمل العنوان الذى تريد أن تصل إليه، وإذا حملت عنوانا فإنه لا يستدل عليه!
هذا ليس زمن الكتابة، ليس لأن الناس غير مستعدين لأى حوار عقلى ووجدانى حقيقى مع الكاتب، ولكن لأن الناس غير مؤهلين لذلك بسبب ظروفهم، تلك الظروف التى لم يصنعوها لأنفسهم، وإنما مارسها "ضدهم" نظام يعمل منذ أكثر من ثلاثة عقود بنظرية "عوامل التعرية" التى تثلم كل يوم قليلا من وجدانهم وإحساسهم بالحياة والمعنى والهدف، نظام يريدهم ويريدنا قطعانا يسوقونها للحرث والحلب والذبح، ويضع على أعينهم قناعا يمنع عنهم النظر من حولهم ليدركوا أن العالم أكبر من الدائرة الخانقة التى يعيشون فيها، وأن فى هذا العالم إمكانات حقيقية للخروج من الأزمة، أية أزمة، باتباع المنهج العلمى وترتيب الأولويات، لكن المفارقة شديدة المرارة أن الشعب المصرى اليوم، فى ظل ثورة المعلومات الهائلة فى العالم كله، يعيش معزولا عما حوله، راضيا بجهله وربما فخورا به أيضا، ويكتفى بالقول الرائج الذى يروجه النظام بأن "مصر فوق الجميع"، بينما المصريون يعانون فى مجالات الصحة والتعليم والسكن والعمل والثقافة معاناة تجعلهم فى مرتبة أدنى من هؤلاء الجميع!!
لكننى لا أستطيع أيضا أن ألوم النظام وحده على هذه الجريمة، فنحن جميعا شركاء فيها. منذ أيام استمعت بالصدفة إلى صحفى لا تربطنى به إلا روابط الود، علا نجم صديقنا وأصبح فى الأعوام الأخيرة من "نجوم الإعلام" (أرجو أن يدرك القارئ أن مفهوم النجومية والإعلام لدينا له مواصفات متعلقة بالفلوس فقط). استطاع صديقنا الصحفى فى البداية استخدام علاقته الوثيقة بالفنانين والفنانات الذين أصبحوا ضيوفا على برامجه التليفزيونية، ثم انتقل لدور "الإله فوق الآلة" كما فى المسرحيات الإغريقية، يهبط من السماء فى نهاية المسرحية حاملا لواحد من "الغلابة" شقة أو بعضا من المال. قال صديقنا أنه لاحظ فى الآونة الأخيرة "تغيرا" سلبيا فى الشعب المصرى الذى أصبح عدوانيا، والدليل على ذلك كما يقول صاحبنا أنه عندما كان يمنح الفائز فى برنامجه خمسين ألفا من الجنيهات لإجابته على سؤال فى المعلومات "العامة جدا"، فإن "الجماهير" كانت تنقضّ على صاحب النصيب وكل منهم يصرخ: "عايز حقى"، ورأى الصديق أن ذلك يحتاج إلى عالم اجتماع ليفسر هذه الظاهرة.
وأنا أسأله بصدق: ألا تدرك التفسير حقا، أم أنك تتجاهله؟ إنك ياصديقى لست إلا أحد أدوات النظام فى تعرية هذه الجماهير من كل القيم الإيجابية. إنك لا تضيف لهم ببرامج الفنانين ما يجعلهم أقدر على فهم واقعهم والقدرة على تغييره، وأنت ببرامج الشقق والفلوس تزرع بداخلهم قيمة "الحظ"، وأن تحقيق الاحتياجات الأساسية لكل إنسان فى أى نظام ليس مسئولية الدولة والوطن والحكومة لكى يكونوا جديرين بهذه الأسماء، لكن النجاح يصبح مرهونا بفرصة فردية تماما، تعتمد على الصدفة أو التسول، أو كما يحدث الآن على العدوانية وانتزاع "الحق" بالذراع وربما بالسكين أيضا.
صديقى هذا يعرف أنه جزء من النظام، ويعيش عليه ويتعايش معه، ومع ذلك فإنه يعلن أنه ضد هذا النظام أحيانا، وهكذا يفوز بالحسنيين معا، مكاسب النظام وود المعارضة، تلك المعارضة التى تعارض النظام فى الصباح وتلتقى معه فى المساء فى حفلات الزفاف وأعياد الميلاد، كما تشهد صفحات "المجتمع" المستفزة والتى لا تخلو منها جريدة معارضة واحدة، دون أن تفسر لنا لماذا تنعم تلك "الصفوة" بما لذ وطاب بينما عشرات الملايين لا يجدون اللظى. وصديقى ليس وحده، فهو خيط فى نسيج كامل من الذين يطلقون على أنفسهم "الصفوة المثقفة"، الذين يطفون على السطح دائما فى كل الظروف مهما علا الفيضان، يعلنون نقدهم للوضع السائد بينما هم يستفيدون منه فى كل لحظة، وربما هم فى قرارة أنفسهم لا يرغبون فى تغييره حقا حتى لا تبور بضاعتهم، ولكى لا يتحلل هذا "الجيتو" الذين يعيشون فيه، يتبادلون فيه المجاملات، ويوزع أرباع الموهوبين ألقاب النجومية على أنصاف الموهوبين، فى السياسة والفن والأدب، وهى مجالات تشهد انحدارا حقيقيا حتى فى صفوف من يزعم أنه ضد النظام، بل إن بعضهم قد يركب موجة معارضة النظام لكى يستر نقص موهبته. هؤلاء هم "نجوم" عصرنا من بين الموالين للنظام ومعظم المعارضين له، نجومية الذى يستظل بالنعيم ويتحدث عمن يكتوون بالنار وهو يتعامى عن معاناتهم الحقيقية، وكيف له أن يعرف مرارة من لا يجد كساء يستر به جسده بينما "النجم" يظهر على شاشة التليفزيون فى بدلة تلمع تحت الضوء؟ لذلك لا تستغرب أن يتحدث هؤلاء بكلمات غائمة عائمة مثل "التغيير"، تغيير ماذا وإلى ماذا ولماذا (والأهم كيف) فهذا كله لا يهم، لذلك سوف يعتلى جمال مبارك كرسى السلطة ليس لأنه أقوى حقا بأنصاره من سماسرة السياسة ورجال الأعمال، وإنما لضعف الكثيرين ممن يعارضونه.
كنت أحلم منذ سنوات بجمعية وطنية تضم المئات من مثقفينا الحقيقيين فى كل المجالات، جمعية وطنية تقدم رؤية واضحة للوضع السائد وكيفية تغييره، على غرار ورقة الدكتور محمد غنيم التى يمكن أن تكون نقطة بداية ونواة لأجندة مثل هذه الجمعية، لكن "النضال" يدور الآن فى إطار عدد محدود لا أشكك فى صدق نوايا معظمهم، لكنهم بعيدون عن الجماهير، على مستوى العقل والعاطفة والفعل، وهذا "الفعل" النضالى الحقيقى والصادق هو الحل الوحيد فى زمن لم يعد أبدا زمن الكتابة.

1 comment:

Ahmed Gharib said...

الكاتب محمد حسنين هيكل كان قد استخدم تعبير "العربي التائه" في وصف أحوال الإنسان العربي فور وقوع أحداث 11 سبتمبر، معتبراً أن اليهودي استطاع كلياً هزيمة العربي، ليس عندما سلب أرضه، بل حين أدخله في التيه الذي خرج هو منه، فأصبحت كل أفعال العربي تخبطاً وتاه منه إدراك الأشياء والزمن وأبعاد العصر.
لا أعرف إن كان تعبير "المصري التائه"، بحمولته من إرث ومعان، سيمكنني من وصف تلك الحالة التي يعيشها الإنسان المصري، وتبيان معناها، لكني دون أي جلد للذات أشعر وألمس، وأرى مقارنة مع الآخرين من أبناء الحضارات الكبرى، أن المصري الحديث لا يرغب حقيقة في الانتماء إلى العصر الحديث، فهو قانع ومكتف بسكنه جوار آثار حضارية يرضي غروره بالحديث عنها، لكنه ممثلاً في شرائح طبقته الوسطى، التي نمت جزئياً خلال دورات التمدد الوطني في القرن العشرين تحت الاحتلال أو مقاومة له، وعماله الذين أدركوا أنهم استطاعوا القوف على عتبات عصر الصناعة وأبوابه، هذا الإنسان ممثلاً في هاتين الطبقتين أصاب قدراً من الوعي والفهم، ولو بالحد الأدنى، كان كافياً لجعله أكثر تمسكاً بمشروع وطني، وعدم السماح للحكام بالسير نحو التدهور إلى هذا الحد. وبالمناسبة هؤلاء الحكام يحسبون لهذه الطبقات حساباً مهما أظهروا غير ذلك، تكبراً. هذه الشرائح التي تعلمت شيئاً، وفهمت أبجديات التطور، لا يعفيها من المسؤولية أنها لم تنم وتترسخ قيمها الحديثة بدرجة كافية، ولا يعفيها أن طوفان التغيير منذ سبعينات القرن الماضي كان جارفاً.
المؤسف أن ما قدمته من نموذج المنتمي للنظام صباحاً، والصديق للمعارضة بعض الظهر، (وهو موجود في دول عربية غير مصر بشكل مضحك حيث يتقاضى بعض اليمنيين راتباً رسمياً من حزب الحكومة والمعارضة ويمارسون عملاً صحفياً متناقضاً في مؤسسات الطرفين)، هو نفس الإنسان الذي اختار أن يلتف على الحداثة بالدروشة الدينية، التي يتبرأ منها تراث الدين وحضارته وإمبراطوريته التاريخية العظيمة. التمسح في الدين في مصر، والمظاهر الكاذبة حتى الفجاجة، والتي لا تتطابق أبداً مع مجتمع غارق في الفساد كلياً، هي تواطؤ جماعي من أجل العيش داخل مخدر الوهم.
كنت أقرأ عن أحوال ذلك "المصري" في قرون سابقة، وجدت أن مستوى "التصنيع" في نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، تحديداً منذ عام 1590 وما بعده في مصر، لم يتغير، لم يتقدم سوى باستبدال التحريك اليدوي لذراع الرافعة لتحل الماكينات بأنواعها المتعاقبة مكانها، وذلك لإنجاز نفس مستوى التصنييع: تعبئة مواد أولية، بعضها قد يتم تنظيفه، مثل تقطيف نبات الملوخية قبل التصديره، ثم تتجه المراكب إلى العالم الغربي. لم يتغير شيء يا دكتور أحمد، بل للإنصاف، لقد استطاع المصريون في عام 1590 المجيد، أن يتغلبوا على الامتيازات الممنوحة من قبل الدولة العثمانية للتجار الأجانب، استطاعوا أن يقيموا قواعد تسويق لهم في مدن أوروبية، لتصل منتجاتهم للسوق الأوروبي دون المرور بالتجار الأجانب ذوي الإعفاء الجمركية العثمانية. كيف فعلوا ذلك، ونافست بضائعهم التي في حوزتهم، بضائعهم التي في حوزة التاجر الإيطالي والهولندي المُعفى جمركياً؟ عن طريق جودة "وكالات التعبئة" كما كانت تُسمَّى أي مصانع التعبئة. ومنذ ذلك الحين لم يتقدم المصري شيئاً في مجال الصناعة صوب العصر الحديث، تراجع، ثم استعاد له طلعت حرب المكانة السابقة نفسها تقريباً ووضعه على أول سلالم التصنيع. ثم تراجع، وفي الستينات حاول عبدالناصر التقدم قليلاً، ثم استكان المصري بعد أول هزيمة، مزيفاً انتصاراً لم يكن كاملاً.
سأترك لك الحديث عما جرى في صناعة السينما التي كانت بوابة إلى الحداثة والعصر الحديث، وكلي ثقة أن حديثك سيأخذ من الشجون شحنة تكفي لتحليل ضروري، وعيناي تراقبان "المصري التائه": متى يخرج من التيه؟