بقدر ما تمثل الدراما التاريخية، خاصة في المسلسلات التليفزيونية، إغراء كبيرا لصناع العمل، فإنها تشكل أيضا اختبارا حقيقيا لهم على مستوى الفن والتاريخ معا، كما أنها تحتاج منهم إلى فض اشتباك لا مفر منه بين الحقيقة التاريخية والإبداع الفني. ولعل المأزق الأساسي في كل هذا هو أن المتفرج سوف يأخذ العمل الفني التاريخي على أنه "التاريخ"، خاصة فيما يتعلق بشخصيات وفترات تبعد عن زماننا بفترة طويلة، ولا نملك لها وثائق مؤكدة حول كيف كانت تبدو في الحقيقة، وليس غريبا في هذا السياق أن يتصور معظم المتفرجين أن صلاح الدين الأيوبي يشبه أحمد مظهر في فيلم يوسف شاهين، كما أن من المؤكد أن المتفرج الغربي سوف يتصور أن فرعون مصر في عهد النبي موسى هو يول براينر، مثلما بدا في فيلم "الوصايا العشر" للمخرج الأمريكي سيسيل دي ميل!!
إن ذلك يشير على نحو ما إلى أن للدراما التاريخية سحرها وأهميتها بالنسسبة للمتفرج، لذلك فنحن لا نذهب بعيدا حين نقول أن الدراما التاريخية لا يتم صنعها لمجرد الإبهار الإنتاجي فقط، لكن قد تدخل عوامل أخرى قد يكون العامل السياسي أهمها، وليس ببعيد عنا أفلام هوليوود التي تصور "وقائع" الحرب العالمية الثانية، وبالطبع فإنك لن تتوقع أن أمريكا سوف تقول "الحقيقة" المجردة بشأن هذه الحرب، وأسبابها ونتائجها، لكنها بالتأكيد سوف تصور ذلك كله من خلال "وجهة النظر" السياسية الأمريكية في فترة محددة يكون مطلوبا فيها تحقيق تأثير بعينه في وجدان المتفرج، داخل أمريكا وخارجها على السواء.
وربما كانت كلمة السر هنا هي "وجهة النظر": إنك عندما تنظر إلى مكعب مثلا فإن إدراكك له سوف يعتمد تماما على الزاوية التي تنظر منها تجاهه، إنك قد تراه مجرد شكل مربع إذا نظرت له من الأمام، وهو متوازي أضلاع من زاوية مائلة قليلا، لكنك لن تدرك أن له "حجما" في الفراغ إلا إذا درت حوله لتكتشف أن له سطوحا ستة. هذا هو ما يحدث أيضا مع التاريخ (أو بالأحرى كل حقائق الحياة)، إنك تحتاج إلى منظور صحيح لكي تراه على نحو صحيح، وإن كان ذلك مرهونا أيضا بالواقف المسبقة لمن يرى، وبأهدافه السياسية، وبطريقة تعبيره عن رؤيته لهذا التاريخ، لذلك فإن حدثا تاريخيا واحدا قد يأخذ أشكالا عديدة في تجسيده، وإذا كان ذلك يحدث في دراسات المؤرخين الذين يختلفون حول حدث تاريخي واحد، فما بالك بالفنانين الذين يصنعون من هذا الحدث عملا فنيا، فهم – بوعي أو بدون وعي – سوف يلونون هذا التاريخ ليس فقط برؤيتهم، وإنما أيضا بقصور رؤيتهم في بعض الأحيان، عندما لا يبحثون في التاريخ عن "الحقيقة" وإنما يتخذونه ذريعة للإبهار، فتحدث الكارثة عندما يصبح التاريخ ضحية للفن، أو قل ضحية للضحالة الفنية والإبداعية.
دعنا نتخيل أن فنانا ما قد قرر أن يصنع عملا فنيا عن شخصية تاريخية أو حدث تاريخي: السؤال الأول هنا هو لماذا هذا الحدث أو تلك الشخصية بالتحديد؟ وبقدر جدية الفنان سوف تتفاوت الإجابات تفاوتا هائلا، ولدينا أمثلة راهنة نشاهدها الآن على شاشات فضائياتنا توضح تماما هذا التفاوت. إليك مثلا مسلسل "سقوط الخلافة"، إن الدافع – الظاهر على الأقل – وراء اختيار فترة اضمحلال الدولة العثمانية حتى سقوطها هو ما يبدو أن هناك تشابها ما بين هذه الحقبة التاريخية والفترة الراهنة: أمة تقف في مفترق الطرق، بين التمسك بالماضي والقفز إلى مستقبل ما يزال لم يتشكل بعد، في نفس الوقت الذي تتربص به قوى معادية لا تنتظر فقط أن يحدث هذا السقوط بل إنها تعمل جاهدة على أن يقع وشيكا وبشكل مؤكد. وهذا التشابه بين التاريخ والحاضر يذكرنا بعمل تليفزيوني كان رائدا حين ظهر في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وهو "ليلة سقوط غرناطة"، الذي صنع توازيا عميق الدلالة بين اضمحلال الإمارات الأندلسية وبين الاستسلام المخزي المعاصر أمام العدو الصهيوني، وهو الاستسلام الذي ما نزال نحصد ثماره المريرة حتى اليوم.
لكن السبب وراء اختيار التاريخ ذريعة لعمل درامي قد يكون هزيلا – أو حتى هازلا – تماما، مثلما هو الحال مع مسلسل "ملكة في المنفى"، الذي تكمل به نادية الجندي "ملاحمها" عن "النساء" القويات في تاريخ مصر المعاصر، وكلهن تتبعن مواصفات واحدة تريد أن تتماهى نادية الجندي معها، بصرف النظر عن أي صدق تاريخي، أو حتى بصرف النظر عن الأهمية الحقيقية للشخصيات التي تختارها، فقد سبق لها مثلا أن قدمت الراقصة حكمت فهمي (وهي راقصة شبه مجهولة حتى على المستوى الفني!) باعتبارها حجر الزاوية في أحداث غيرت مجرى وقائع الحرب العالمية الثانية، كما جسدت من قبل أيضا سيدة تدعى ناهد رشاد لها صلات بالشرطة السرية التي أنشأها الملك فاروق، لكن نادية الجندي جعلتها عضوا مؤسسا في تنظيم الضباط الأحرار الذي قام بثورة يوليو!!
إنها تستمر في "ملكة في المنفى" في نفس الطريق، ولعلك قد لاحظت كيف تتبختر نادية الجندي – ولا نقول الملكة نازلي البطلة الدرامية للمسلسل – في أفخر الثياب وأثقل أنواع الماكياج وتنظر للجميع نظرة استعلاء (إنها النظرة التي لا تتخلى هنا نادية الجندي في كل أعمالها، وتحتاج إلى تحليل من نوع ما). وعندما تتحدث نازلي عن "الثمن الذي دفعته مقابل تاج الشوك"، وما يعتمل في النفس من الألم والعذاب والوحدة، فإنك تكاد أن تسمع الممثلة كأنها تتحدث عن نفسها في لقاء تليفزيوني، وهي بالفعل كانت قد كررت تلك التعبيرات ذاتها في أحاديثها الصحفية كثيرا. مثل هذا العمل إذن يُفصِّل التاريخ على مقاس النجمة، وهو لا يجعلها بطلة "درامية" تعيش صراعا داخليا وخارجيا، لكنه يصنع منها بطلة "ميلودرامية" تمثل الخير المطلق، فهي الضحية الجميلة النبيلة بين أنياب الوحوش، وكم كان مضحكا تصوير الملك فؤاد، في ليلة زفافهما، كأنه الشيطان مجسدا، بثيابه الحمراء والإضاءة الحادة من زاوية منخفضة، حتى أنه يغتصبها اغتصابا، وهو أمر لا ندري من أين استقى صناع المسلسل مصدره، ومن كان منهم في غرفة النوم؟!!
وقريبا من هذه المعالجة التي تقع في تحويل الشخصية الرئيسية إلى ملاك، تتصدر وحدها الدراما بينما تحول كل الآخرين إلى شياطين أو "كومبارس"، يأتي مسلسل "كليوباترا" الذي جعل من بطلته قديسة رومانسية بكل معنى الكلمة، وهو بذلك يتجاهل تماما أن دورها في التاريخ اعتمد على المؤامرات والتحالفات المشبوهة، وأن تلك الفترة شهدت صراعا دمويا على السلطة والسلطان، انتصرت فيها كليوباترا لفترة لكنها انتهت بهزيمة منكرة، وكانت مصر والشعب المصري هما آخر ما يفكر فيه المتصارعون، بل كان هما "الغنيمة" التي ينتظر من ينتصر أن يمتص دماءها.
السبب الثالث لاختيار التاريخ محورا لعمل درامي هو "الانحياز" المسبق إلى وجهة نظر، كما يبدو في مسلسل "الجماعة"، الذي يأتي في إطار صراعات سياسية تشهدها مصر في الفترة الأخيرة، خاصة أن هناك انتخابات تشريعية على الأبواب. يحكي المسلسل وقائع تاريخ قريب، وهو يبدأ من الأقرب ليعود إلى الأبعد، وبذلك يلون العمل كله بوجهة نظر جاهزة. تسود في الأوساط السياسية المصرية الآن فكرة أن الصراع الرئيسي يدور بين النظام الحاكم من جانب وجماعة الإخوان المسلمين من جانب آخر، وبرغم أن هناك شبه اتفاق بين مختلف الرؤى حول سلبيات النظام السائد، فإن هناك ميلا لدى بعض الأطراف لتصوير جماعة الإخوان المسلمين على أنهم أكثر خطرا من النظام الراهن، لذلك فإنك سوف تختار دون وعي أن تقبل سلبيات النظام!! ولسنا هنا في مجال المفاضلة بين هذين الطرفين (وكأنه ليس هناك من بديل سواهما!!)، لكن تلك الرؤية السياسية الجاهزة والصريحة، بل المسطحة أيضا، صبغت العمل كله بقدر من السذاجة الفنية، ولك أن تتصور أن الرغبة في تصوير أبناء النظام كملائكة قد جعلت في مركز الدراما "وكيل نيابة" بريئا تماما، حتى أنه لا يعلم شيئا عن الإخوان المسلمين الذين يحقق بشأنهم، وهي حيلة فنية باهتة تماما لكي يستمع بطلنا إلى حكاية "الجماعة" (ونسمع نحن معه أيضا) وحكاية تاريخها، فيعود المسلسل في "فلاش باك" طويل إلى بدايات تكوينها. ولا حاجة للقول بأن أبسط القواعد هي أن يكون رجال السلطة في مثل هذه الأمور قد تلقوا تعليما طويلا ومكثفا حول "الجماعات" التي يواجهونها، بما لا يضطرهم أبدا لاستقاء معلوماتهم من متهمين عابرين.
لم ينجُ مسلسل "الجماعة" أيضا من كل "الكليشيهات" التقليدية في تصوير "الأشرار" من وجهة نظر صانعي العمل، فأعضاء الجماعة أقرب إلى عصابات "المافيا" أو الجماعات الماسونية، وهو كعادة الدراما المصرية تجهلهم يتحدثون بالفصحى في حياتهم اليومية وكأنهم قد خرجوا لتوهم من إحدى المسلسلات الدينية بالغة التقليدية. ومن هذه المسلسلات يأتي "رايات الحق"، الذي يتناول الفترة اللاحقة على وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهي فترة حافلة بالدراما بمعناها العميق، لكن المسلسل توقف عند من حاولوا تقويض ما أضافته النبوة إلى أمة العرب من القوة والوحدة، وغلبت المعالجة التقليدية على تصوير هؤلاء، في شكلهم وطريقة حديثهم وحركاتهم، فخلا المسلسل تماما من أي جديد قد يجذب المتفرج للاقتراب من هذه الفترة التاريخية المهمة.
المفارقة هنا – والتي قد تلقي ضوءا كاشفا أيضا على المعالجات الدرامية للتاريخ – هي أن هناك العديد من المصادر التاريخية التي تناولت هذه الفترة، ومن مختلف المناهج ووجهات النظر، لكن برغم أنها فترة حافلة بالكتابات الجادة فإنه يبدو أن صناع العمل اكتفوا بأبسط هذه المصادر، بينما كان اعتمادهم الأكبر على الأعمال الدرامية السابقة، وهي طريقة يمكنك أن تسميها – للأسف الشديد – نظرية "التوالد الذاتي"، فيصبح التقليد هو القاعدة: المؤمنون يرتدون ثيابا بيضاء، ويتحدثون بهدوء واطمئنان، وتبدو على محياهم ملامح الجمال، بينما "الكفار" على العكس تماما، إنها المعالجة الهوليوودية للبطل الطيب والخصم الشرير، وقد تصلح هذه المعالجة في الميلودراما أو الترفيه الخفيف، لكنها لا يمكن أن تكون أساسا لمعالجة درامية ناضجة للتاريخ.
أنت إذن في الدراما التاريخية أمام أركان أساسية لتُقيم دعائم عمل مقنع وراقٍ، أولها هو المصدر الذي يجب أن يكون موثوقا به، أو قل بالأحرى العديد من المصادر التي قد تختلف في مناهجها لكنها معا سوف تساعدك على تكوين وجهة نظر أقرب إلى الصدق التاريخي، وقد تستطيع أيضا أن تعود في هذا المجال إلى أهل الاختصاص حتى يكون هذا المستوى الأول من الصدق متحققا. لكن المستوى الثاني لا يقل أهمية، وهو ما يتعلق بالصدق الفني، الذي لا ينفصل عما يطلق عليه في فلسفة الفن "القصد الفني"، وببساطة فإن هذا الصدق يعكس ما تريد أن تقول من معالجتك لمادة تاريخية. هناك في مسلسل نادية الجندي "ملكة في المنفى" مشهد أثار ألمي بعمق، لقد أراد المسلسل أن يجعل من بطلته ضحية، وأتبع مشهد زفافها (اغتصابا) ببيرم التونسي وهو يلقي قصيدته المشهورة عن زواجها المشبوه من الملك فؤاد، ليبدو بيرم كاذبا وضيعا، وهو ما يتناقض مع الحقيقة التاريخية تماما، أي أنه يمكنك ببساطة أن تقول أن المسلسل أراد أن ينقذ بطلته "بالعافية"، فلم يجد أمامه إلا أن يضحي بالتاريخ!!
Saturday, November 20, 2010
Thursday, November 18, 2010
فيلم "سلطة بلدى"
عندما تخفى النزعة الإنسانية المواقف السياسية الملتبسة
على مدار ساعتين كاملتين، تلقى إليك المخرجة نادية كامل فى فيلمها التسجيلى "سلطة بلدى" بعشرات الأسئلة، التى تتلاقى أحيانا وتتباعد أحيانا أخرى، وإذا كان المفهوم الشائع فى الفن – وإن لم يكن مفهوما دقيقا تماما لكننا سنصرف النظر عن دقته الآن – هو أن وظيفة العمل الفنى هى طرح التساؤلات وليس تقديم الإجابات، فإن هذا يبرر لصانعة الفيلم أن تطرح الأسئلة التى تؤرقها، لكن هناك فى الحقيقة عدة أنواع من الأسئلة التى تؤرق أى إنسان، مثل الأسئلة التى تمثل قلقا شخصيا للفنان وقد يحلو له أن يبثها إلى أصدقاءه فى جلساته الخاصة، لكن مادام قد قرر أن يصوغ من هذا القلق عملا فنيا مثلما فعلت نادية كامل فى فيلمها "سلطة بلدى" فلابد أنها تريد توصيل "رسالة" ما إلى أكبر قطاع من المتلقين ليشاركوها هذا القلق، وهنا لابد أن نتساءل بدورنا عن الرسالة التى كانت تفكر فيها وهى تصنع "سلطة بلدى"، وإن كنت فى البداية أؤكد (كل التأكيد) على أنه ليس لدى كاتب هذه السطور أية نية لتوجيه تهمة أو شبهة "التطبيع" لصانعة الفيلم على النحو المتعجل الذى قام به العديد من النقاد، بسبب أن الجزء الأكبر من الفيلم يتحدث عن السيدة نائلة كامل، أم المخرجة، التى تربطها قرابة الدم ببعض اليهود فى "إسرائيل"، وقامت بالفعل بزيارتهم وقد قاربت أعمار الطرفين على الانتهاء، كأنها رحلة وداع، وهو كما ترى سؤال "إنسانى" يتعمد الابتعاد عن البعد السياسى، بما يذكرك بإنسانية الفيلم الإسرائيلى "زيارة الفرقة" وإن كان فى "سلطة بلدى" أكثر "ميلودرامية" وتشوشا وأقل رهافة ونعومة.
هو فى الحقيقة سؤال أقرب إلى الصدمة، لكن أرجو أن يتحملنى القارئ لبعض الوقت لو ذهبت إلى مدى أبعد فى صدمته، وهى أياً منا لا يستطيع أن يؤكد على وجه اليقين أنه ليس له أقارب من اليهود، بل إن من المؤكد أنه قد حدثت عبر التاريخ تحولات فى معتقدات البشر، فقد يكون لى من بين أسلافى أو أسلافك من كان مسيحيا أو يهوديا أو حتى وثنيا، وربما يكتشف المرء منا أن هناك لعائلته فرعا ينتمى لديانة أخرى، ولعل مصر – تلك البوتقة الجغرافية والتاريخية – هى الدليل الأكبر على هذا التمازج، وليس غريبا أن تجد عائلتين مصريتين مسلمة ومسيحية تتشاركان فى نفس اللقب والجذور، وليس غريبا أيضا أن تجد فى فيلم "سلطة بلدى" ذلك الاختلاط بين الأديان والجنسيات (ولا نقول الأجناس أو الأعراق)، ففى عائلة المخرجة نادية كامل أبناء وبنات عمومة ينحدرون من أصول قوقازية مسلمة، وأخوال ينحدرون من جذور مسيحية إيطالية ويهودية تركية روسية، بل إن هناك الطفل نبيل، ابن شقيقة المخرجة، فلسطينى الأب، مصرى الأم، إيطالى الجدة، وهو يذهب فى بداية الفيلم لصلاة العيد للمرة الأولى حائرا وكأنه يبحث عن هوية، وفى مشاهد لاحقة يقف أمام قبر جده اليهودى إيلى روزينتال متمتما، فلا نعرف إن كان يقرأ له "الفاتحة" أو بأى دعاء يلهج به لسانه وقلبه البريئان.
هذا الطفل "نبيل على شعث" هو النموذج الأمثل على "السَلَطة المصرية البلدى"، وقد كان من الممكن أن يكون "البؤرة الدرامية" للفيلم التى تدور حولها العديد من الخطوط السياسية المتقاطعة والمهمة، من بينها – على سبيل المثال – أنه لا يحمل جواز سفر أو جنسية لأنه فلسطينى الأب بعد أن ضاعت فلسطين، وفى الوقت الذى تعجز فيه الأنظمة العربية عن استرجاع فلسطين فإنها تنكر على فلسطينيى الشتات (إن جاز التعبير) أن تكون لهم هويتهم المحددة. لكن الأهم فى هذا الطفل (بخلطة و"سلَطَة" جذوره الإنسانية) أنه التأكيد الحى (الذى أضاعته المخرجة للأسف سهوا أو عمدا) على زيف النزعة السياسية الصهيونية، والتى تقوم على أكذوبة "نقاء العنصر"، وهى الأكذوبة التى ينسفها وجود نبيل نسفا.
دعنا ياقارئى العزيز نتوقف عند هذه الأكذوبة قليلا، فعلى أساسها قام الكيان الصهيونى، بذريعة أنه يضم "اليهود" فى دولة واحدة، وكأن الدين اليهودى قومية تجمع شعبا نقى العنصر، وهو الخطأ القاتل الذى نقع فيه نحن أيضا عندما نتحدث عن الصراع بين "اليهود" و"العرب"، فاليهودية "دين" والعروبة "قومية" ولا مجال للصراع أو حتى المقارنة بينهما، بل إن هناك دراسات عديدة لكتاب من "اليهود العرب" أو ذوى الأصول العربية تشير إلى الحقيقة التى لم يلمسها – للأسف – فيلم "سلطة بلدى" ولو من بعيد، وهى الحقيقة التى تشير إلى أن إسرائيل ليست إلا كيانا استعماريا غربيا، لم يسرق الوطن الفلسطينى فقط، لكنه طمس وقمع الهوية والتاريخ العربيين لليهود العراقيين واليمنيين والمغاربة، أو كما تقول إيللا حبيبة شوحاط أستاذة الدراسات الاجتماعية فى جامعة نيويورك: "إن التعارض بين اليهودية والعروبة ليس إلا وجهة نظر أوروبية، ونحن – كيهود عرب – كنا نتحدث العربية وليس اليديشية، وعبر ألف عام كان إبداعنا الثقافى باللغة العربية... وإنك لو ذهبت حتى اليوم إلى معابدنا فى نيويورك أو مونتريال أو باريس أو لندن فسوف يدهشك أن تسمع فى تراتيلنا نغمة "الربع تون" حتى يخيل لك أنها تنبعث من مسجد... لقد انتزعت إسرائيل منا – نحن اليهود العرب – تاريخنا... وأصبح مصطلح "شعب واحد" ذريعة لكى يجبرونا على التخلى عن ذاكرتنا العربية التى تكونت عبر مايزيد على ألف عام وقبل أن تكون هناك دولة اسمها إسرائيل".
فى سياق آخر يكتب نعيم جيلادى، اليهودى الأمريكى من أصول عراقية الذى تخلى عن جنسيته الإسرائيلية، أن "يهود البلدان الإسلامية لم يهاجروا طوعا إلى إسرائيل لكنهم أجبروا على ذلك... واستخدمت طريقتان مع اليهود العراقيين للرحيل إلى إسرائيل: الخداع أو الإرهاب، فاليهود غير المتعلمين خدعهم الحديث عن أن إسرائيل هى أرض الميعاد والجنة التى يبصر فيها الأعمى ويسير الكسيح، أما اليهود المتعلمون فقد قام الصهاينة بإرهابهم بإلقاء القنابل على ممتلكاتهم وأماكن تجمعهم".
الصهيونية إذن لم تجمع "اليهود" فى سلتها النظرية المصطنعة إلا لسبب سياسى استعمارى، بينما هى تميز فى طياتها وممارساتها بين اليهود الشرقيين (واليهود العرب من بينهم) لتجعلهم أدنى من اليهود الغربيين بما يتنافى مع الزعم بنية إقامة "دولة يهودية". وإذا كان فيلم "سلطة بلدى" يلمِّح إلى "إنسانية" زيارة السيدة المناضلة نائلة كامل، زوجة المناضل اليسارى سعد كامل، المولودة فى مصر لأب يهودى تركى روسى وأم مسيحية إيطالية، والتى قد أصبحت مصرية تماما وتحلف "والنبى والنبى"، إذا كان الفيلم يلمِّح إلى إنسانية زيارتها لأبناء عمومتها اليهود فى "إسرائيل"، فإن من الغريب أنها تصفهم صانعة الفيلم بمجرد كونهم "يهودا" ولا تذكر شيئا مطلقا عن كونهم "صهاينة"، حتى أنها لم تذكر لنا كلمة واحدة، واحدة فقط، عن "نضال" هذه الأم الجليلة ضد الصهيونية وفضح زيفها ونزعتها الاستعمارية، مثلما فعل غيرها من المناضلين اليهود المصريين اليساريين مثل يوسف درويش وشحاتة هارون اللذين خاضا هذه المعركة على طريقة القديسين الشهداء.
إن ذلك يثير المرارة من جانب المتفرج لأن المخرجة تبدو كما لو كانت تتخلى فى نزق – بذريعة النظرة الإنسانية الأكثر رحابة - عن نضال الجيل السابق (لعل هذا يشير – للأسف - إلى عوامل تآكل وتشوه المفاهيم السياسية لدى شريحة المثقفين المصريين من الأجيال اللاحقة)، فالكيان الصهيونى كما يبدو فى الفيلم قائم وانتهى الأمر ولا حيلة لنا إلا التعامل معه، والمواطنون اليهود الإسرائيليون فى الفيلم غير مسئولين عن قرارات وتصرفات الحكومة الإسرائيلية، بينما تتناسى المخرجة أنهم اختاروا الصهيونية مذهبا سياسيا وعلما ونشيدا "قوميا"، كما لا تذكر أو تتذكر أن الصهيونية – وليس العروبة أبدا – هى التى تقوم على التمييز الدينى بين اليهود والأغيار، وأن إسرائيل هى النموذج السرطانى لكل النزعات العنصرية التى تميز بين البشر على أساس دينى، وأن الصهيونية تقوم على خرافة وجود "عرق يهودى" وهى أول من تعلم بزيف هذه الخرافة، كما تنكرها كل الدراسات الجادة بدءا من جمال حمدان وانتهاء بتروتسكى الذى رأى أن الصهيونية "تحالف عنصرى أعمى وفخ دموى لعين"، أو الفيلسوف اليهودى رافاييل كوهين الذى يؤكد أن "الصهيونية فى جوهرها تتبنى نفس الأيديولوجيا النازية لكنها تصل إلى نتائج مختلفة، فبدلا من تفوق العنصر الآرى يصبح اليهود هم الجنس الأرقى".
لكن فيلم "سلطة بلدى" - خاصة فى مشاهد البداية وتركيزه على خطبة العيد التى تهاجم "اليهود" – يلقى بتهمة التطرف والتمييز الدينى علينا، وينسى أن كل حركات التطرف الإسلامى هى تاريخيا رد فعل لاحق على الصهيونية، وأن وجود "الدولة اليهودية" لن يفرز إلا مزيدا من النزعة المضادة التى تدعو لإقامة "دولة إسلامية". وخلال الساعتين اللتين يستغرقهما عرض الفيلم تجد نفسك فى "سلطة بلدى" غارقا فى بحر من الأفكار المشوشة داخل كيان فنى مشتت، لذلك لا تجد مناصا من أن تقوم بنفسك بفرز تلك الأفكار المتناقضة. إنك على سبيل المثال (وإن لم يذكر لك الفيلم أية تفاصيل كانت ضرورية لإلقاء الضوء على موقف الجيل السابق تجاه الكيان الصهيونى) تقدر كل التقدير نضال سعد كامل ورفيقة حياته نائلة كامل، كما أنك تتعاطف أو حتى تعشق الطفل نبيل شعث الحائر فى البحث عن هوية فى وطن عربى ممزق. لكننى لا أستطيع تجاه "ابن عمى" اليهودى العربى الذى ارتضى إسرائيل وطنا أن أتعاطف معه وأذهب لزيارته لمجرد أنه يحب أن يستمع إلى أم كلثوم كل يوم، فهو الذى اختار أن ينضوى تحت راية نظام معادٍ للإنسانية. فنحن نرفض الصهيونية والاعتراف تحت أى ذريعة بدولة "إسرائيل، ليس من منطلق أننا مصريون أو عرب أو مسلمون ومسيحيون وجدنا أنفسنا طرفا فى صراع فرضته علينا حركة استعمارية غربية تحت شعار مزعوم (أكرر: مزعوم) بالبحث عن حل لما يسمى "المسألة اليهودية"، وإنما نرفض الصهيونية حتى لو كانت فى بلاد واق الواق، الآن وغدا وبعد مئات الأعوام، لأنها إحدى أكثر الضلالات الإنسانية خطرا، فهى لا تعادى العروبة أو الإسلام وإنما تعادى "الإنسان" بجوهرها العنصرى الذى يميز بين اليهودى وغير اليهودى، كما تميز بين اليهودى الغربى واليهودى الشرقى، على نحو لا يختلف مطلقا عن النازية وكل النزعات العنصرية البغيضة الأخرى.
يذكرنى اسم الفيلم "سلطة بلدى" ببضع سطور من رواية لليهودى يمنى الأصل يوسف تزويل، الذى يحكى عن هجرة أسرته خلال مراهقته إلى إسرائيل، وانتزاعهم دار أسرة فلسطينية، لم يبق منها إلا رجل وحيد... "كان يزرع فى الحقل المحيط بالدار بعض الخضروات، يعطينا بعضها ويحتفظ بالباقى، وإن "السَلَطة" التى أكلتها من هذه الخضروات، التى تنتمى إلى هذه العائلة الفلسطينية، تركت فى روحى ندوبا لا يمكن محوها، لذلك ظللت دائما غريبا عن هذه الدار المغتصبة". وربما كان من المثير للأسى أن تقرأ هذه الحقائق المريرة عند كُتَّاب ربما كانوا أكثر عرضة للتعاطف مع أسطورة "الدولة اليهودية"، لكنك تجد هذه الحقائق عندهم بوضوح، بينما تفتقدها فى فيلم "سلطة بلدى" لأنه تصور أنه ينادى بنزعة "إنسانية" وهو يتحدث عن كيان لا علاقة له بالإنسانية فى فلسفته أو ممارساته. مرة أخرى وبوضوح كامل، لو كان الفيلم يسألنى عن إمكانية زيارة "ابن عمى" اليهودى العربى فى "إسرائيل" فإننى أرفض على نحو قاطع الذهاب إليه فى الكيان الصهيونى، لكننى أرحب به إذا رفض هذا الكيان وعاد إلى جذوره العربية، أما اليهود الأوربيون فإن عليهم فى نهاية المطاف أن يبحثوا عن حل لمشكلاتهم فى الأوطان التى جاءوا منها، وأن يلتهموا كما يشاءون "سَلَطة بلادهم" أما "سَلَطة بلدى" فهى لنا، المسلمين والمسيحيين واليهود العرب، فى دولة فلسطينية ديموقراطية تجسد بحق الروح الإنسانية فى أرقى تجلياتها.
على مدار ساعتين كاملتين، تلقى إليك المخرجة نادية كامل فى فيلمها التسجيلى "سلطة بلدى" بعشرات الأسئلة، التى تتلاقى أحيانا وتتباعد أحيانا أخرى، وإذا كان المفهوم الشائع فى الفن – وإن لم يكن مفهوما دقيقا تماما لكننا سنصرف النظر عن دقته الآن – هو أن وظيفة العمل الفنى هى طرح التساؤلات وليس تقديم الإجابات، فإن هذا يبرر لصانعة الفيلم أن تطرح الأسئلة التى تؤرقها، لكن هناك فى الحقيقة عدة أنواع من الأسئلة التى تؤرق أى إنسان، مثل الأسئلة التى تمثل قلقا شخصيا للفنان وقد يحلو له أن يبثها إلى أصدقاءه فى جلساته الخاصة، لكن مادام قد قرر أن يصوغ من هذا القلق عملا فنيا مثلما فعلت نادية كامل فى فيلمها "سلطة بلدى" فلابد أنها تريد توصيل "رسالة" ما إلى أكبر قطاع من المتلقين ليشاركوها هذا القلق، وهنا لابد أن نتساءل بدورنا عن الرسالة التى كانت تفكر فيها وهى تصنع "سلطة بلدى"، وإن كنت فى البداية أؤكد (كل التأكيد) على أنه ليس لدى كاتب هذه السطور أية نية لتوجيه تهمة أو شبهة "التطبيع" لصانعة الفيلم على النحو المتعجل الذى قام به العديد من النقاد، بسبب أن الجزء الأكبر من الفيلم يتحدث عن السيدة نائلة كامل، أم المخرجة، التى تربطها قرابة الدم ببعض اليهود فى "إسرائيل"، وقامت بالفعل بزيارتهم وقد قاربت أعمار الطرفين على الانتهاء، كأنها رحلة وداع، وهو كما ترى سؤال "إنسانى" يتعمد الابتعاد عن البعد السياسى، بما يذكرك بإنسانية الفيلم الإسرائيلى "زيارة الفرقة" وإن كان فى "سلطة بلدى" أكثر "ميلودرامية" وتشوشا وأقل رهافة ونعومة.
هو فى الحقيقة سؤال أقرب إلى الصدمة، لكن أرجو أن يتحملنى القارئ لبعض الوقت لو ذهبت إلى مدى أبعد فى صدمته، وهى أياً منا لا يستطيع أن يؤكد على وجه اليقين أنه ليس له أقارب من اليهود، بل إن من المؤكد أنه قد حدثت عبر التاريخ تحولات فى معتقدات البشر، فقد يكون لى من بين أسلافى أو أسلافك من كان مسيحيا أو يهوديا أو حتى وثنيا، وربما يكتشف المرء منا أن هناك لعائلته فرعا ينتمى لديانة أخرى، ولعل مصر – تلك البوتقة الجغرافية والتاريخية – هى الدليل الأكبر على هذا التمازج، وليس غريبا أن تجد عائلتين مصريتين مسلمة ومسيحية تتشاركان فى نفس اللقب والجذور، وليس غريبا أيضا أن تجد فى فيلم "سلطة بلدى" ذلك الاختلاط بين الأديان والجنسيات (ولا نقول الأجناس أو الأعراق)، ففى عائلة المخرجة نادية كامل أبناء وبنات عمومة ينحدرون من أصول قوقازية مسلمة، وأخوال ينحدرون من جذور مسيحية إيطالية ويهودية تركية روسية، بل إن هناك الطفل نبيل، ابن شقيقة المخرجة، فلسطينى الأب، مصرى الأم، إيطالى الجدة، وهو يذهب فى بداية الفيلم لصلاة العيد للمرة الأولى حائرا وكأنه يبحث عن هوية، وفى مشاهد لاحقة يقف أمام قبر جده اليهودى إيلى روزينتال متمتما، فلا نعرف إن كان يقرأ له "الفاتحة" أو بأى دعاء يلهج به لسانه وقلبه البريئان.
هذا الطفل "نبيل على شعث" هو النموذج الأمثل على "السَلَطة المصرية البلدى"، وقد كان من الممكن أن يكون "البؤرة الدرامية" للفيلم التى تدور حولها العديد من الخطوط السياسية المتقاطعة والمهمة، من بينها – على سبيل المثال – أنه لا يحمل جواز سفر أو جنسية لأنه فلسطينى الأب بعد أن ضاعت فلسطين، وفى الوقت الذى تعجز فيه الأنظمة العربية عن استرجاع فلسطين فإنها تنكر على فلسطينيى الشتات (إن جاز التعبير) أن تكون لهم هويتهم المحددة. لكن الأهم فى هذا الطفل (بخلطة و"سلَطَة" جذوره الإنسانية) أنه التأكيد الحى (الذى أضاعته المخرجة للأسف سهوا أو عمدا) على زيف النزعة السياسية الصهيونية، والتى تقوم على أكذوبة "نقاء العنصر"، وهى الأكذوبة التى ينسفها وجود نبيل نسفا.
دعنا ياقارئى العزيز نتوقف عند هذه الأكذوبة قليلا، فعلى أساسها قام الكيان الصهيونى، بذريعة أنه يضم "اليهود" فى دولة واحدة، وكأن الدين اليهودى قومية تجمع شعبا نقى العنصر، وهو الخطأ القاتل الذى نقع فيه نحن أيضا عندما نتحدث عن الصراع بين "اليهود" و"العرب"، فاليهودية "دين" والعروبة "قومية" ولا مجال للصراع أو حتى المقارنة بينهما، بل إن هناك دراسات عديدة لكتاب من "اليهود العرب" أو ذوى الأصول العربية تشير إلى الحقيقة التى لم يلمسها – للأسف – فيلم "سلطة بلدى" ولو من بعيد، وهى الحقيقة التى تشير إلى أن إسرائيل ليست إلا كيانا استعماريا غربيا، لم يسرق الوطن الفلسطينى فقط، لكنه طمس وقمع الهوية والتاريخ العربيين لليهود العراقيين واليمنيين والمغاربة، أو كما تقول إيللا حبيبة شوحاط أستاذة الدراسات الاجتماعية فى جامعة نيويورك: "إن التعارض بين اليهودية والعروبة ليس إلا وجهة نظر أوروبية، ونحن – كيهود عرب – كنا نتحدث العربية وليس اليديشية، وعبر ألف عام كان إبداعنا الثقافى باللغة العربية... وإنك لو ذهبت حتى اليوم إلى معابدنا فى نيويورك أو مونتريال أو باريس أو لندن فسوف يدهشك أن تسمع فى تراتيلنا نغمة "الربع تون" حتى يخيل لك أنها تنبعث من مسجد... لقد انتزعت إسرائيل منا – نحن اليهود العرب – تاريخنا... وأصبح مصطلح "شعب واحد" ذريعة لكى يجبرونا على التخلى عن ذاكرتنا العربية التى تكونت عبر مايزيد على ألف عام وقبل أن تكون هناك دولة اسمها إسرائيل".
فى سياق آخر يكتب نعيم جيلادى، اليهودى الأمريكى من أصول عراقية الذى تخلى عن جنسيته الإسرائيلية، أن "يهود البلدان الإسلامية لم يهاجروا طوعا إلى إسرائيل لكنهم أجبروا على ذلك... واستخدمت طريقتان مع اليهود العراقيين للرحيل إلى إسرائيل: الخداع أو الإرهاب، فاليهود غير المتعلمين خدعهم الحديث عن أن إسرائيل هى أرض الميعاد والجنة التى يبصر فيها الأعمى ويسير الكسيح، أما اليهود المتعلمون فقد قام الصهاينة بإرهابهم بإلقاء القنابل على ممتلكاتهم وأماكن تجمعهم".
الصهيونية إذن لم تجمع "اليهود" فى سلتها النظرية المصطنعة إلا لسبب سياسى استعمارى، بينما هى تميز فى طياتها وممارساتها بين اليهود الشرقيين (واليهود العرب من بينهم) لتجعلهم أدنى من اليهود الغربيين بما يتنافى مع الزعم بنية إقامة "دولة يهودية". وإذا كان فيلم "سلطة بلدى" يلمِّح إلى "إنسانية" زيارة السيدة المناضلة نائلة كامل، زوجة المناضل اليسارى سعد كامل، المولودة فى مصر لأب يهودى تركى روسى وأم مسيحية إيطالية، والتى قد أصبحت مصرية تماما وتحلف "والنبى والنبى"، إذا كان الفيلم يلمِّح إلى إنسانية زيارتها لأبناء عمومتها اليهود فى "إسرائيل"، فإن من الغريب أنها تصفهم صانعة الفيلم بمجرد كونهم "يهودا" ولا تذكر شيئا مطلقا عن كونهم "صهاينة"، حتى أنها لم تذكر لنا كلمة واحدة، واحدة فقط، عن "نضال" هذه الأم الجليلة ضد الصهيونية وفضح زيفها ونزعتها الاستعمارية، مثلما فعل غيرها من المناضلين اليهود المصريين اليساريين مثل يوسف درويش وشحاتة هارون اللذين خاضا هذه المعركة على طريقة القديسين الشهداء.
إن ذلك يثير المرارة من جانب المتفرج لأن المخرجة تبدو كما لو كانت تتخلى فى نزق – بذريعة النظرة الإنسانية الأكثر رحابة - عن نضال الجيل السابق (لعل هذا يشير – للأسف - إلى عوامل تآكل وتشوه المفاهيم السياسية لدى شريحة المثقفين المصريين من الأجيال اللاحقة)، فالكيان الصهيونى كما يبدو فى الفيلم قائم وانتهى الأمر ولا حيلة لنا إلا التعامل معه، والمواطنون اليهود الإسرائيليون فى الفيلم غير مسئولين عن قرارات وتصرفات الحكومة الإسرائيلية، بينما تتناسى المخرجة أنهم اختاروا الصهيونية مذهبا سياسيا وعلما ونشيدا "قوميا"، كما لا تذكر أو تتذكر أن الصهيونية – وليس العروبة أبدا – هى التى تقوم على التمييز الدينى بين اليهود والأغيار، وأن إسرائيل هى النموذج السرطانى لكل النزعات العنصرية التى تميز بين البشر على أساس دينى، وأن الصهيونية تقوم على خرافة وجود "عرق يهودى" وهى أول من تعلم بزيف هذه الخرافة، كما تنكرها كل الدراسات الجادة بدءا من جمال حمدان وانتهاء بتروتسكى الذى رأى أن الصهيونية "تحالف عنصرى أعمى وفخ دموى لعين"، أو الفيلسوف اليهودى رافاييل كوهين الذى يؤكد أن "الصهيونية فى جوهرها تتبنى نفس الأيديولوجيا النازية لكنها تصل إلى نتائج مختلفة، فبدلا من تفوق العنصر الآرى يصبح اليهود هم الجنس الأرقى".
لكن فيلم "سلطة بلدى" - خاصة فى مشاهد البداية وتركيزه على خطبة العيد التى تهاجم "اليهود" – يلقى بتهمة التطرف والتمييز الدينى علينا، وينسى أن كل حركات التطرف الإسلامى هى تاريخيا رد فعل لاحق على الصهيونية، وأن وجود "الدولة اليهودية" لن يفرز إلا مزيدا من النزعة المضادة التى تدعو لإقامة "دولة إسلامية". وخلال الساعتين اللتين يستغرقهما عرض الفيلم تجد نفسك فى "سلطة بلدى" غارقا فى بحر من الأفكار المشوشة داخل كيان فنى مشتت، لذلك لا تجد مناصا من أن تقوم بنفسك بفرز تلك الأفكار المتناقضة. إنك على سبيل المثال (وإن لم يذكر لك الفيلم أية تفاصيل كانت ضرورية لإلقاء الضوء على موقف الجيل السابق تجاه الكيان الصهيونى) تقدر كل التقدير نضال سعد كامل ورفيقة حياته نائلة كامل، كما أنك تتعاطف أو حتى تعشق الطفل نبيل شعث الحائر فى البحث عن هوية فى وطن عربى ممزق. لكننى لا أستطيع تجاه "ابن عمى" اليهودى العربى الذى ارتضى إسرائيل وطنا أن أتعاطف معه وأذهب لزيارته لمجرد أنه يحب أن يستمع إلى أم كلثوم كل يوم، فهو الذى اختار أن ينضوى تحت راية نظام معادٍ للإنسانية. فنحن نرفض الصهيونية والاعتراف تحت أى ذريعة بدولة "إسرائيل، ليس من منطلق أننا مصريون أو عرب أو مسلمون ومسيحيون وجدنا أنفسنا طرفا فى صراع فرضته علينا حركة استعمارية غربية تحت شعار مزعوم (أكرر: مزعوم) بالبحث عن حل لما يسمى "المسألة اليهودية"، وإنما نرفض الصهيونية حتى لو كانت فى بلاد واق الواق، الآن وغدا وبعد مئات الأعوام، لأنها إحدى أكثر الضلالات الإنسانية خطرا، فهى لا تعادى العروبة أو الإسلام وإنما تعادى "الإنسان" بجوهرها العنصرى الذى يميز بين اليهودى وغير اليهودى، كما تميز بين اليهودى الغربى واليهودى الشرقى، على نحو لا يختلف مطلقا عن النازية وكل النزعات العنصرية البغيضة الأخرى.
يذكرنى اسم الفيلم "سلطة بلدى" ببضع سطور من رواية لليهودى يمنى الأصل يوسف تزويل، الذى يحكى عن هجرة أسرته خلال مراهقته إلى إسرائيل، وانتزاعهم دار أسرة فلسطينية، لم يبق منها إلا رجل وحيد... "كان يزرع فى الحقل المحيط بالدار بعض الخضروات، يعطينا بعضها ويحتفظ بالباقى، وإن "السَلَطة" التى أكلتها من هذه الخضروات، التى تنتمى إلى هذه العائلة الفلسطينية، تركت فى روحى ندوبا لا يمكن محوها، لذلك ظللت دائما غريبا عن هذه الدار المغتصبة". وربما كان من المثير للأسى أن تقرأ هذه الحقائق المريرة عند كُتَّاب ربما كانوا أكثر عرضة للتعاطف مع أسطورة "الدولة اليهودية"، لكنك تجد هذه الحقائق عندهم بوضوح، بينما تفتقدها فى فيلم "سلطة بلدى" لأنه تصور أنه ينادى بنزعة "إنسانية" وهو يتحدث عن كيان لا علاقة له بالإنسانية فى فلسفته أو ممارساته. مرة أخرى وبوضوح كامل، لو كان الفيلم يسألنى عن إمكانية زيارة "ابن عمى" اليهودى العربى فى "إسرائيل" فإننى أرفض على نحو قاطع الذهاب إليه فى الكيان الصهيونى، لكننى أرحب به إذا رفض هذا الكيان وعاد إلى جذوره العربية، أما اليهود الأوربيون فإن عليهم فى نهاية المطاف أن يبحثوا عن حل لمشكلاتهم فى الأوطان التى جاءوا منها، وأن يلتهموا كما يشاءون "سَلَطة بلادهم" أما "سَلَطة بلدى" فهى لنا، المسلمين والمسيحيين واليهود العرب، فى دولة فلسطينية ديموقراطية تجسد بحق الروح الإنسانية فى أرقى تجلياتها.
Wednesday, November 17, 2010
هل حقا هؤلاء هم "أهل كايرو"؟
للأعمال الفنية البوليسية سحر خاص لدى المتلقي، سواء كانت رواية تُقرأ، أو عملا دراميا تم تنفيذه بالوسائط البصرية السمعية مثل السينما والتليفزيون، إذ يبدا العمل عادة بعرض بعض الشخصيات والعلاقات، وفجأة تحدث جريمة غامضة، ليتلخص العمل كله بعد ذلك فى كلمة واحدة: من الذي ارتكب الجريمة؟ وفي الطريق نحو هذا الاكتشاف، الذي يأتي دائما في الصفحات أو المشاهد الأخيرة، تتوزع الاتهامات بين هذا وذاك، وكلما شعرت أنك اقتربت من المجرم الحقيقي أدركت أنك تزداد عنه ابتعادا، وعندما يحين أوان الكشف عن المجرم تأتي المفاجأة، إذ يكون هو أبعد الشخصيات عن الشك، ولكن ... لكننا سوف نترك هذه الـ"لكن" إلى نهاية المقال!
هذا هو السر في النجاح الجماهيري للمسلسل الدرامي البوليسي "أهل كايرو"، الذي كتبه بلال فضل وأخرجه محمد علي، لأن هذا النوع من الدراما كاد أن يختفي من على شاشة التليفزيونات والفضائيات العربية، برغم أن له مساحة ثابتة ومكانة مهمة في الدراما التليفزيونية في العالم كله، وهو ما تستطيع أن تتأكد منه إذا استطعت أن تفلت من مسلسلاتنا ذات مرة، لتتفرج على المسلسل الأمريكي "24" مثلا، غير أن أعمالنا التليفزيونية الدرامية تمضي دائما في "الموضة" السائدة، تارة مسلسلات سيرة حياة المشاهير، أو الأحياء العشوائية، أو كوميديا الموقف شديدة التواضع في شكلها ومضمونها.
جاء إذن "أهل كايرو" ليخرج عن المألوف في شكله، لكن السؤال هو إذا ما كان قد شق لنفسه طريقا جديدا في المضمون أيضا، وهذا ما سوف نحاول الإجابة عليه. الخط الدرامي هنا شديد البساطة، والتعقيد الظاهر ليس إلا مناورة من صناع المسلسل لتحقيق بعض الأهداف التي تبدو مشروعة من الناحية الفنية، حيث يصبح "التشويق" هو السمة الرئيسية. في البؤرة الدرامية هناك شخصية تدعى صافي سليم (رانيا يوسف)، يقال أنها سيدة مجتمع، وهي الصفة التي يحاول المسلسل بها الإيحاء بأنها اتخذت طرقا ملتوية في رحلة صعودها من حضيض الفقر إلى قمة الثراء والوجاهة الاجتماعية.
يقول المسلسل في نهاية الحلقات أن هناك من حولك في حياتك اليومية عشرات من أمثال هذه الشخصية، وهو تلميح إلى أن الصعود الاجتماعي يحدث في "القاهرة" الآن من خلال الطرق غير المشروعة، وهذا جانب آخر من جوانب التشويق، إذ توجد "توليفة" من الجريمة والسياسة، لكن صناع المسلسل لن يتطرقوا بالطبع لأي جرائم سياسية سوى بنوع من "التلسين" الذي اشتهر به الأدب والفن المصريين في الآونة الأخيرة. ولأن صافي سليم في رحلة صعودها التقت بالعديد من الشخصيات، فسوف يتجمعون في ليلة زواجها (وهي التي تزوجت مرات عديدة سابقة) في حفل الزفاف بفندق فاخر، وهو ما تلخصه لك جملة من الحوار تأتي على لسان إحدى الشخصيات: "نجوم سياسة على فن على دين على بيزينيس على كورة".
إذن هؤلاء هم "أهل كايرو" كما يراهم صناع العمل (أرجو أن تلتفت إلى استخدام كلمة "كايرو" بما يذكرك بأحد مونولوجات شكوكو!)، لكن هناك جانبا آخر يشير له العمل كلما تذكره، أو بالأحرى أنه ينساه متعمدا لكي يجعلك تنساه، هذا الجانب هو الحي الفقير الذي ولدت فيه صافي سليم قبل أن تغير اسمها، تاركة وراءها شقيقة وأبا، بينما رحلت دون عودة مع الأم والشقيق، وهنا يتعمد المسلسل أيضا أن يتجاهل تماما الحديث عن أسباب انقسام أفراد العائلة على هذا النحو، لكنه سوف يكشف لك السر في حلقته الأخيرة.
قررت صافي أخيرا أن تتزوج من طبيب جراح مشهور يدعى شريف راسخ (زكي فطين عبد الوهاب)، عاد من أمريكا بعد سنوات من الغربة ليستقر في مصر لحنينه إليها، فهكذا نقرأ على الشاشة في عبارات مكتوبة (مع تثبيت الصورة) على طريقة بعض الأفلام الأمريكية المعاصرة، وهو الأسلوب الذي سوف يتبناه العمل مع العديد من الشخصيات حتى العابرة منها، والتي لن يفيدك أن تعرف عنها شيئا، مثل منظم الأفراح أو زوج الشقيقة، أو حتى شخصية رئيس تحرير جريدة يستخدمه المسلسل في البداية لإثارة بعض السخريات حول من يزعمون الثورية ثم ينساه العمل تماما!! دعنا نشير هنا إلى أن المفترض أن تلك المعلومات المكتوبة صحيحة، لأنها لا تأتي على لسان إحدى الشخصيات، وإنما من وجهة نظر سارد الأحداث (وهو هنا المؤلف والمخرج معا)، الذي يعرف كل شيء عن الشخصيات لكنه يخفي بعض المعلومات حتى يصرح بها في الوقت المناسب دراميا، وهذا من أبسط قواعد التشويق، لكن من غير المتصور على الإطلاق أن هذا الراوي "يخدع" المتفرج بمعلومات سوف نعرف لاحقا أنها غير صحيحة!!
الأسلوب البوليسي هنا تلفيقي وبعيد عن صدق السرد، والعمل البوليسي الناضج ينثر المعلومات هنا وهناك بطريقة قد تفوت عليك (أو يجب أن تفوت عليك) حين تراها على نحو عابر، لكنك عندما تراجعها بعد ذلك تسأل نفسك كيف فاتت عليك، وهذا هو مصدر المتعة في العمل البوليسي، لكن أن يلقي إليك صناع المسلسل بمعلومات مغلوطة (مرة أخرى يفترض أنها موضوعية وصادقة) فإن معنى هذا أنه يلعب معك لعبة الخداع، والأدهى كما سوف نرى هو أن يحجب عنك معلومات أخرى تماما ليرميها لك في الحلقة الأخيرة.
من جانب آخر يجب أن نشير إلى أن في المسلسل عوامل فنية غطت على هذه العيوب الأسلوبية في الصياغة الدرامية، فأداء خالد الصاوي في دور ضابط المباحث حسن محفوظ اتسم بحيوية فائقة، إنه المعادل المصري تماما لشخصية البطل في سلسلة أفلام "داي هارد"، المتفاني في عمله حتى أنه ينفصل عن زوجته ابنة المسئول الكبير، ويعاني من تزمتها معه في أيام رؤيته لابنته وابنه، وهو يغطي إحساسه الإنساني المرهف بالصفات التي اكتسبها من عمله، والتي تمزج بين الصرامة و"الفهلوة" وخفة الظل ونخوة أولاد البلد. تكتمل هذه الشخصية وتتكامل مع شخصية الصحفية داليا غنيم (كندة علوش) المتخصصة في الحوادث، فبينهما علاقة عمل غريبة وطريفة معا، إنها تعتمد عليه كأحد مصادرها، وهو يعتمد عليها أحيانا في بعض أمور حياته الشخصية، مثل تسهيل رؤيته لطفليه، وهذه العلاقة تنمو لكي تصبح إحساسا عاطفيا يسري تحت السطح بما يعطي للملسلسل مسحة رومانسية رقيقة أحيانا.
من جانب آخر يمكنك أن تشعر بالأسلوب البصري المختلف الذي يتبعه المخرج محمد علي، فهناك حركة متدفقة في التصوير والمونتاج يندر أن تجدها في أعمالنا التليفزيونية، وما يؤكد عليها استخدام التصوير الخارجي في الأماكن الطبيعية للأحداث في العديد من المشاهد، ناهيك عن الكثير من التلقائية التي اتسم بها أداء معظم الممثلين، لكن هذه التلقائية تحولت أحيانا إلى الاصطناع كما يحدث مع شخصية شقيق صافي، تماما كما أن الأسلوب البصري ذي المسحة السينمائية بدا مجانيا أحيانا مثلما هو الحال مع استخدام الشاشة المنقسمة دون أن تكون لذلك ضرورة درامية، ولا تنس بالطبع الاستغراق في مشاهد الفرح لزوم تطويل الحلقات!
يمكنك أن تعد عشرات الشخصيات التي مر عليها العمل مرور الكرام، إنه يستخدمها ثم يتخلص منها كأنها أدوات "ذات الاستخدام الواحد" (!!) لمجرد أن تسمع منها وعنها بعض عبارات ساخرة، أو لإثارة الشك حول إذا ما كان أحدها هو القاتل، بدءا من الداعية الديني، ومرورا بالوزير السابق، والوزير الحالي، ورئيس التحرير الانتهازي، والمثقف الثوري على طريقة الأفلام المصرية، والذي يقول الشعر ويعلق صورة عبد الناصر ولا يحلق ذقنه أو يمشط شعره (!!)، ورجال الأعمال أصحاب السطوة والنفوذ، وصديقة قديمة لصافي أصبحت الآن سكرتيرتها، وخادمتها التي خرجت لتوها من عباءة زينات صدقي، ورجال أمن الفندق الذين تنحصر مهمتهم في أن يكونوا لسان حال المؤلف في التعليق على الشخصيات والأحداث!
في الحلقة الأخيرة، وبدون أية إشارة درامية سابقة، تحدث المفاجأة: فالأب الفقير الذي هجرته ابنته وزوجته سعيا إلى الثراء الفاحش ليس إلا وحشا آدميا، إنه كان يغتصب ابنته، وهو القاتل أيضا!! وإذا كان ذلك يمثل بدوره خداعا للمتفرج، الذي لم ولن يجد لهذه الصفة البشعة جذورا في المسلسل، فإن هذا "الحل" التلفيقي يحيل كل ما تصوره المتفرج نقدا سياسيا واجتماعيا إلى المرض النفسي الجنسي، بينما يجب على كل حديث عن مثل هذه التشوهات النفسية أن يردها إلى جذورها وأسبابها التي تكمن في الحالة الاقتصادية والسياسية المتردية للمجتمع المصري الآن، و"أهل كايرو" ليسوا أبدا هم أهل القاهرة الحقيقية، بل أهل هذه النوعية من الكتابات التي تخلط الجد بالهزل، وتضع الجاني والضحية معا في سلة واحدة، وهي سلة السخرية السوداء من أي شيء، وكل شيء.
هذا هو السر في النجاح الجماهيري للمسلسل الدرامي البوليسي "أهل كايرو"، الذي كتبه بلال فضل وأخرجه محمد علي، لأن هذا النوع من الدراما كاد أن يختفي من على شاشة التليفزيونات والفضائيات العربية، برغم أن له مساحة ثابتة ومكانة مهمة في الدراما التليفزيونية في العالم كله، وهو ما تستطيع أن تتأكد منه إذا استطعت أن تفلت من مسلسلاتنا ذات مرة، لتتفرج على المسلسل الأمريكي "24" مثلا، غير أن أعمالنا التليفزيونية الدرامية تمضي دائما في "الموضة" السائدة، تارة مسلسلات سيرة حياة المشاهير، أو الأحياء العشوائية، أو كوميديا الموقف شديدة التواضع في شكلها ومضمونها.
جاء إذن "أهل كايرو" ليخرج عن المألوف في شكله، لكن السؤال هو إذا ما كان قد شق لنفسه طريقا جديدا في المضمون أيضا، وهذا ما سوف نحاول الإجابة عليه. الخط الدرامي هنا شديد البساطة، والتعقيد الظاهر ليس إلا مناورة من صناع المسلسل لتحقيق بعض الأهداف التي تبدو مشروعة من الناحية الفنية، حيث يصبح "التشويق" هو السمة الرئيسية. في البؤرة الدرامية هناك شخصية تدعى صافي سليم (رانيا يوسف)، يقال أنها سيدة مجتمع، وهي الصفة التي يحاول المسلسل بها الإيحاء بأنها اتخذت طرقا ملتوية في رحلة صعودها من حضيض الفقر إلى قمة الثراء والوجاهة الاجتماعية.
يقول المسلسل في نهاية الحلقات أن هناك من حولك في حياتك اليومية عشرات من أمثال هذه الشخصية، وهو تلميح إلى أن الصعود الاجتماعي يحدث في "القاهرة" الآن من خلال الطرق غير المشروعة، وهذا جانب آخر من جوانب التشويق، إذ توجد "توليفة" من الجريمة والسياسة، لكن صناع المسلسل لن يتطرقوا بالطبع لأي جرائم سياسية سوى بنوع من "التلسين" الذي اشتهر به الأدب والفن المصريين في الآونة الأخيرة. ولأن صافي سليم في رحلة صعودها التقت بالعديد من الشخصيات، فسوف يتجمعون في ليلة زواجها (وهي التي تزوجت مرات عديدة سابقة) في حفل الزفاف بفندق فاخر، وهو ما تلخصه لك جملة من الحوار تأتي على لسان إحدى الشخصيات: "نجوم سياسة على فن على دين على بيزينيس على كورة".
إذن هؤلاء هم "أهل كايرو" كما يراهم صناع العمل (أرجو أن تلتفت إلى استخدام كلمة "كايرو" بما يذكرك بأحد مونولوجات شكوكو!)، لكن هناك جانبا آخر يشير له العمل كلما تذكره، أو بالأحرى أنه ينساه متعمدا لكي يجعلك تنساه، هذا الجانب هو الحي الفقير الذي ولدت فيه صافي سليم قبل أن تغير اسمها، تاركة وراءها شقيقة وأبا، بينما رحلت دون عودة مع الأم والشقيق، وهنا يتعمد المسلسل أيضا أن يتجاهل تماما الحديث عن أسباب انقسام أفراد العائلة على هذا النحو، لكنه سوف يكشف لك السر في حلقته الأخيرة.
قررت صافي أخيرا أن تتزوج من طبيب جراح مشهور يدعى شريف راسخ (زكي فطين عبد الوهاب)، عاد من أمريكا بعد سنوات من الغربة ليستقر في مصر لحنينه إليها، فهكذا نقرأ على الشاشة في عبارات مكتوبة (مع تثبيت الصورة) على طريقة بعض الأفلام الأمريكية المعاصرة، وهو الأسلوب الذي سوف يتبناه العمل مع العديد من الشخصيات حتى العابرة منها، والتي لن يفيدك أن تعرف عنها شيئا، مثل منظم الأفراح أو زوج الشقيقة، أو حتى شخصية رئيس تحرير جريدة يستخدمه المسلسل في البداية لإثارة بعض السخريات حول من يزعمون الثورية ثم ينساه العمل تماما!! دعنا نشير هنا إلى أن المفترض أن تلك المعلومات المكتوبة صحيحة، لأنها لا تأتي على لسان إحدى الشخصيات، وإنما من وجهة نظر سارد الأحداث (وهو هنا المؤلف والمخرج معا)، الذي يعرف كل شيء عن الشخصيات لكنه يخفي بعض المعلومات حتى يصرح بها في الوقت المناسب دراميا، وهذا من أبسط قواعد التشويق، لكن من غير المتصور على الإطلاق أن هذا الراوي "يخدع" المتفرج بمعلومات سوف نعرف لاحقا أنها غير صحيحة!!
الأسلوب البوليسي هنا تلفيقي وبعيد عن صدق السرد، والعمل البوليسي الناضج ينثر المعلومات هنا وهناك بطريقة قد تفوت عليك (أو يجب أن تفوت عليك) حين تراها على نحو عابر، لكنك عندما تراجعها بعد ذلك تسأل نفسك كيف فاتت عليك، وهذا هو مصدر المتعة في العمل البوليسي، لكن أن يلقي إليك صناع المسلسل بمعلومات مغلوطة (مرة أخرى يفترض أنها موضوعية وصادقة) فإن معنى هذا أنه يلعب معك لعبة الخداع، والأدهى كما سوف نرى هو أن يحجب عنك معلومات أخرى تماما ليرميها لك في الحلقة الأخيرة.
من جانب آخر يجب أن نشير إلى أن في المسلسل عوامل فنية غطت على هذه العيوب الأسلوبية في الصياغة الدرامية، فأداء خالد الصاوي في دور ضابط المباحث حسن محفوظ اتسم بحيوية فائقة، إنه المعادل المصري تماما لشخصية البطل في سلسلة أفلام "داي هارد"، المتفاني في عمله حتى أنه ينفصل عن زوجته ابنة المسئول الكبير، ويعاني من تزمتها معه في أيام رؤيته لابنته وابنه، وهو يغطي إحساسه الإنساني المرهف بالصفات التي اكتسبها من عمله، والتي تمزج بين الصرامة و"الفهلوة" وخفة الظل ونخوة أولاد البلد. تكتمل هذه الشخصية وتتكامل مع شخصية الصحفية داليا غنيم (كندة علوش) المتخصصة في الحوادث، فبينهما علاقة عمل غريبة وطريفة معا، إنها تعتمد عليه كأحد مصادرها، وهو يعتمد عليها أحيانا في بعض أمور حياته الشخصية، مثل تسهيل رؤيته لطفليه، وهذه العلاقة تنمو لكي تصبح إحساسا عاطفيا يسري تحت السطح بما يعطي للملسلسل مسحة رومانسية رقيقة أحيانا.
من جانب آخر يمكنك أن تشعر بالأسلوب البصري المختلف الذي يتبعه المخرج محمد علي، فهناك حركة متدفقة في التصوير والمونتاج يندر أن تجدها في أعمالنا التليفزيونية، وما يؤكد عليها استخدام التصوير الخارجي في الأماكن الطبيعية للأحداث في العديد من المشاهد، ناهيك عن الكثير من التلقائية التي اتسم بها أداء معظم الممثلين، لكن هذه التلقائية تحولت أحيانا إلى الاصطناع كما يحدث مع شخصية شقيق صافي، تماما كما أن الأسلوب البصري ذي المسحة السينمائية بدا مجانيا أحيانا مثلما هو الحال مع استخدام الشاشة المنقسمة دون أن تكون لذلك ضرورة درامية، ولا تنس بالطبع الاستغراق في مشاهد الفرح لزوم تطويل الحلقات!
يمكنك أن تعد عشرات الشخصيات التي مر عليها العمل مرور الكرام، إنه يستخدمها ثم يتخلص منها كأنها أدوات "ذات الاستخدام الواحد" (!!) لمجرد أن تسمع منها وعنها بعض عبارات ساخرة، أو لإثارة الشك حول إذا ما كان أحدها هو القاتل، بدءا من الداعية الديني، ومرورا بالوزير السابق، والوزير الحالي، ورئيس التحرير الانتهازي، والمثقف الثوري على طريقة الأفلام المصرية، والذي يقول الشعر ويعلق صورة عبد الناصر ولا يحلق ذقنه أو يمشط شعره (!!)، ورجال الأعمال أصحاب السطوة والنفوذ، وصديقة قديمة لصافي أصبحت الآن سكرتيرتها، وخادمتها التي خرجت لتوها من عباءة زينات صدقي، ورجال أمن الفندق الذين تنحصر مهمتهم في أن يكونوا لسان حال المؤلف في التعليق على الشخصيات والأحداث!
في الحلقة الأخيرة، وبدون أية إشارة درامية سابقة، تحدث المفاجأة: فالأب الفقير الذي هجرته ابنته وزوجته سعيا إلى الثراء الفاحش ليس إلا وحشا آدميا، إنه كان يغتصب ابنته، وهو القاتل أيضا!! وإذا كان ذلك يمثل بدوره خداعا للمتفرج، الذي لم ولن يجد لهذه الصفة البشعة جذورا في المسلسل، فإن هذا "الحل" التلفيقي يحيل كل ما تصوره المتفرج نقدا سياسيا واجتماعيا إلى المرض النفسي الجنسي، بينما يجب على كل حديث عن مثل هذه التشوهات النفسية أن يردها إلى جذورها وأسبابها التي تكمن في الحالة الاقتصادية والسياسية المتردية للمجتمع المصري الآن، و"أهل كايرو" ليسوا أبدا هم أهل القاهرة الحقيقية، بل أهل هذه النوعية من الكتابات التي تخلط الجد بالهزل، وتضع الجاني والضحية معا في سلة واحدة، وهي سلة السخرية السوداء من أي شيء، وكل شيء.
Subscribe to:
Posts (Atom)