يملك النجم نور الشريف بين أبناء جيله موهبة خاصة، لا تتعلق فقط بمهارات التمثيل وتنوع الأداء، فربما نافسه في ذلك – على سبيل المثال لا الحصر – نجم مثل الراحل أحمد زكي. لكن موهبة نور الشريف الأهم كانت قدرته على تطوير نفسه وأعماله، وإدراكه عوامل الزمن في تغيير الصورة الجسمانية والنفسية للممثل، لذلك انتقل سريعا من تجسيد ذلك الفتى الغر الذي بدأ به حياته الفنية، في أعمال مثل مسلسل "القاهرة والناس"، أو فيلم "زوجتي والكلب"، ليخوض تجارب إنتاجية يغير فيها من صورته، وكانت في الحقيقة مغامرات فنية، إذ كان معظمها أفلاما أولى لمخرجيها، مثل سمير سيف في "دائرة الانتقام"، أو محمد خان في "ضربة شمس".
كانت مزية اختيار نور الشريف لأدواره من أهم سماته، لكنه كان يذهب إلى مدى أبعد من اللازم أحيانا في هذه الاختيارات، خاصة في مسلسلاته التليفزيونية، فشتان بين نجاحه مثلا في تقمص شخصية تاجر الخردة عبد الغفور البرعي في مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي"، ومحاولة تقليده "الأب الروحي" في سلسلة "الدالي". وها هو في رمضان الفائت يختار موضوعا غريبا، أو بالأحرى غرائبيا، عن رجل يدعى "خلف الله"، ويحمل المسلسل اسمه، وهو رجل يملك القدرة أحيانا – دون تعمد منه – على أن يقرأ ما سوف يحدث في المستقبل القريب، وأن يُخرج الأمراض المستعصية من الأطفال الذين يعانون منها، ليصبح خلف الله هذا مثار إعجاب فائق من جانب البعض، أو كراهية مقيتة من جانب البعض الآخر، وينتهي إلى السجن متهما في جريمة قتل لم يرتكبها، وقبل تنفيذ حكم الإعدام فيه بساعات، تصعد روحه إلى بارئها في سلام.
وإذا كنا قد استطعنا الآن أن نلخص "أحداث" المسلسل في سطور قليلة، فمن المفروض ألا يعني هذا أن تفقد الشخصيات المحيطة بالبطل أهميتها، لكنها للأسف كانت جميعا – المحبة والكارهة – تدور في فلك "خلف الله"، حتى أنها لا تكتسب أي حياة أو وجود ذي معنى خارج هذا الفلك. وقد أدى ذلك إلى حالة من دوران العمل حول نفسه، في دورات تبدو مختلفة، وإن كانت في الحقيقة متشابهة، فالبطل خلف الله ينتقل من مكان إلى آخر على غير هدى، وإن كانت تدفعه قوة غامضة للسعي نحو من يحتاجونه، وفي كل أرض يحط فيها هناك شخص أو طفل مريض، نعيش مع مرضه بعضا من الوقت الدرامي الضائع، قبل أن يمارس عليه خلف الله رقياته ليساعده في الشفاء.
سوف تتكرر تلك الدائرة أربع مرات طوال الثلاثين حلقة، تبدأ الأولى إذ تقوده أقدامه إلى قرية يحكمها عمدة طيب، لكن ولده الصبي يعاني من غيبوبة طويلة حار فيها الأطباء، فتتحقق معجزات خلف الله عندما يعود الصبي معافى سليما كأن لم يمسسه ضر أبدا، وهو ما يجذب المرأة التي تدعى شربات إليه، وتحاول إغواءه، لكنه يرفضها بما يشير إلى أن الرجل زاهد في النساء، بقدر زهده في المال. سوف تؤدي هذه الدائرة الأولى إلى اختطافه على يد أحد أثرياء القرية، لكي يعالج ابنة شقيقته ياسمين، ابنة الطبقة الراقية في المدينة، والتي جاءوا بها إلى قرية خالها ليخفوها عن الأنظار، بعد إصابتها بمرض نفسي يدفعها إلى عدم الوعي بما حولها. وبرغم أن خلف الله يرفض ممارسة "كراماته" عنوة، فإنه يدرك سر مرض الفتاة، الذي يخفي كبتا جنسيا عميقا، يتم حله بأن يتزوج بها، لكن ياسمين ترفضه زوجا بعد أن تفيق من مرضها، فيطلقها ويمضي إلى حال سبيله من جديد.
وبعد حلقات أخرى من "الحوار" بين خلف الله وأحد الشيوخ، حول قدرة بطلنا على الإتيان بتلك الأفعال الغريبة، وإذا ما كانت تعود إلى قدرة الله أم إغواء الشيطان، ينتهي به المطاف في الدائرة الثالثة إلى عالم باعة الرصيف، حيث المرأة صباح، التي تتحالف ضده وتتآمر لقتله لعلها تحصل على ما تتصور أنه يكنزه من مال، لكنها تتراجع في اللحظة الأخيرة عندما تظهر كراماته، بما يذكرك على نحو ما بفيلم مصري قديم من بطولة مريم فخر الدين، يدعى ""طاهرة"، كان اللص يشعر أن يده قد شلت إذا تسلسل إلى غرفتها ليسرقها!! ومع صباح سوف تتكرر أيضا "معجزة" شفاء ابنة وحيدة مصابة بالشلل، ما يجعل صباح وأتباعها من "البلطجية" يتحولون بين عشية وضحاها إلى أتقياء أنقياء لا يقومون من على سجادة الصلاة!!
وبعد أن يتزوج خلف الله أيضا من صباح، يستمر في طوافه في أرجاء الأرض، لينتهي في الدائرة الرابعة وسط أسرة تتآمر من أجل ميراث، سوف يؤول إلى صبي على فراش الموت، بما يجعل الثروة تنتقل إليهم. وهنا أيضا تظهر قدرة خلف الله، الذي ينقذ الصبي ويتزوج من أمه الحسناء الثرية فريدة، لكن ذلك يجعله محط رغبة بقية أفراد الأسرة في الانتقام، وهنا تأتي قصة جريمة القتل التي يتهم فيها ظلما، لنقضي بقية الحلقات مع خلف الله مستسلما وراضيا تماما بمصيره الذي كتبه الله، وتصعد روحه إلى بارئها في نومه، في الليلة التي تسبق مباشرة تنفيذ الحكم عليه بالإعدام.
أنت مع مسلسل "خلف الله" أمام تناقض عميق، فهناك ممثل نجم يستطيع حقا أن يعبر بعينيه ووجهه دون أن ينطق بكلمة واحدة، ويستطيع أن يعيش تحت جلد الشخصية، ليضيف إليها من عنده لمسات تمنحها حياة حقيقية، كما أن المخرج حسني صالح يُظهر تمكنا حقيقيا من "تنفيذ" أجواء كل مشهد، وقدرة لا تنكر على استخدام أسلوب رصين في عناصر الإخراج، مثل حركة الكاميرا والتكوين والكادر والموسيقى التصويرية، ومع ذلك كله فإن هناك شيئا ما ناقصا، يصنع مسافة – أو قل فجوة – بين العمل والمتفرج. ولعل السبب الرئيسي في هذا يعود إلى التعقيد البالغ والمصطنع في العديد من المشاهد، برغم بساطة – وربما سذاجة – المحتوى، فمعظم الحلقات تنقسم إلى قسمين: الأول يعرض مرض المرأة أو الصبي أو الطفلة في لقطات تتعمد قدرا كبيرا من المبالغة، والثاني هو ممارسة خلف الله لطريقته في العلاج. ولأن ذلك يتكرر بشكل أقرب إلى النمطية، فإن المتفرج يفقد اهتمامه به تماما، لأنه يعرف مقدما ما سوف يأتي من أحداث.
وربما كان الأهم في عدم الاقتناع هذا هو تفسير قدرات خلف الله الخارقة، وهو أمر في غاية الغموض في المسلسل، إذ تبدأ الحكاية بفقدانه لأسرته جميعا في حريق مدمر، فإذا هو بعد ذلك يكتشف قدرته التي هبطت عليه فجأة، بأن يرى ما سوف يحدث قبل حدوثه. وقد يفسر المتفرج رحيل خلف الله الأبدي من مكان إلى آخر، بأنه مع موت أسرته فقد الرغبة في الحياة والتعلق بها، وأن الإحساس الوحيد الباقي لديه هو الاستغناء عن الدنيا وما فيها، وهو ما يجعله أقرب للاتصال بما هو غير محسوس لبقية البشر (وإن كان ذلك بدوره أمرا مثيرا للجدل). كما أن ذلك السلوك الزاهد قد يبدو طريفا، لكنه بلا علاقة قوية بالحياة التي يحياها المتفرج، الذي يعاني من تدبير أمور يومه، وليس رؤية ما سوف يحدث في غده.
لم يغن أداء نور الشريف المرهف عن ضرورة وجود مثل هذه الأبعاد في النص الذي كتبه زكريا السيلي، فربما شدك ذلك القلق على وجه نور الشريف في لحظات، بينما يبهرك اطمئنانه في لحظات أخرى، لكن وراء تلك الحالتين لا يوجد عالم واقعي أو درامي مقنع، وإنما عالم له ما يشبه "الرسالة" الغامضة التي لا تثير اهتمام المتفرج من قريب أو بعيد. وهكذا كان "النجم" نور الشريف بدوره تأكيدا على أن سماء الدراما المصرية سوف تشهد في القريب أفولا لبعض النجوم، في انتظار ظهور نجوم جديدة، نرجو ألا تكون شهبا تلمع، لكنها لا تلبث أن تنطفئ.