فى أحد مشاهد فيلم "رسائل البحر"، يعثر البطل الشاب يحيى (آسر ياسين) على زجاجة قديمة، تتقاذفها أمواج البحر وتدفعها نحو الشاطئ، يحمل يحيى الزجاجة ويدفعه الفضول إلى معرفة سر تلك اللفافة التى تحتويها. وفى تتابع تالٍ من الفيلم يجلس يحيى على أرض غرفته، وقد تناثرت حوله قواميس اللغة اللاتينية، إنه يبحث عن معنى كلمات رسالة البحر فلا يجد لها أثرا فى قواميسه، ثم يحمل الرسالة معه ويعرضها على رفاق الحانة "الخواجات" حيث يقضى بعض لياليه، لكن أحدا لا يتمكن من فك شفرة تلك اللغة الغامضة، وينتقل بعدها يحيى بالرسالة إلى مجموعة من الفتيات من جنسيات مختلفة تعملن فى ملهى ليلى، لكنهن جميعا تنكرن معرفة أى منهن بلغة الرسالة، التى تبقى – حتى بعد أن ينتهى الفيلم – غامضة المبنى والمعنى.
تأملت كثيرا فى هذه الفكرة التى وضعها – مؤلفا ومخرجا – داود عبد السيد فى فيلمه "رسائل البحر"، شعرت أنها تلمس وترا خفيا فى وجدانى، ومع ذلك فإن عقلى يرفضها ... تساءلت: لماذا يبدو يحيى فى حبكة الفيلم منشغلا أحيانا بالرسالة ثم ينساها أحيانا أخرى؟ بالأحرى ما هو المنطق الفنى والدرامى (غير الموجود فى الفيلم) الذى يدفعه للاهتمام بها ثم إهمالها ثم يعود إليه الاهتمام؟ إنها (دراميا) لا تستحوذ عليه، فكيف لها أن تستحوذ علىّ كمتفرج؟ ولماذا – إذا مددنا الخط المنطقى إلى آخره – لا يحمل يحيى الرسالة إلى علماء اللغات، الذين سوف يجدون بالتأكيد للغة الرسالة جذورا؟ أقول أن هناك شيئا مثل الشعر الغامض يسرى فى هذه الفكرة، يقول أن هناك فى هذا العالم رسائل تصل إلينا بين الحين والآخر لكننا نعجز عن قراءتها وفهمها أو حتى رؤيتها، لكن هذا هذا التيار الشعرى لا يمتد إلى عقلى، ليس لأن الفكرة تتناقض مع المنطق، بل الأمر على العكس تماما، فالحقائق العلمية البسيطة تؤكد هذه الفكرة ذاتها، فعلى سبيل المثال نحن نسبح فى بحر من الموجات الكهربية المغنطيسية التى لا نشعر بها، لأننا ببساطة لا نملك بداخلنا "أجهزة" التقاط هذه الموجات، فكم إذن طوفان الرسائل التى تعبر بنا ونعبر بها، دون أن نعرف حتى بوجودها؟
أقول أن فكرة داود عبدالسيد تجمع بين الشعر والعلم، والميتافيزيقا وممارسات حياتنا اليومية، لكن ذلك لم يكن كافيا لكى "أدخل" إلى عالم الفيلم وأعيش فيه، لقد رأيت الفيلم وأعجبت به، وظلت آثار منه تعيش معى أياما بعد مشاهدته، ومع ذلك فقد كنت أشعر خلال بعض لحظات مشاهدته بإحساس من الاغتراب تجاه ما أراه، إن مايحدث لشخصيات الفيلم يبدو كأنه يحدث لشخصيات لا يهمنى أمرها، لا فرق عندى بين أن يجد يحيى حلا لشفرة الرسالة أو لا يجدها، وذلك فى رأيى أخطر ما يعانى منه عمل فنى ما، حتى لو كانت فكرته بعمق "رسائل البحر". ظللت أبحث عن السبب فى ذلك المزيج الغامض من الإعجاب والفتور، واكتشفت أن داود عبدالسيد لم يمنح الفكرة الشعرية كل ما كانت تحتاجه من دفقة (أو دفقات) وجدانية طوال الفيلم، لقد تعامل معها بعقله أكثر مما ينبغى، إنه يعرف أن الفكرة فى حد ذاتها تنبض بالحياة، لكنه لم يتركها تنمو بحرية، لقد كان يدفعها دفعا إلى حيث يريد ... وإذا عدت للمشهد الذى بدأت به هذا المقال فسوف تجد أن داود عبدالسيد "أعجبه" أن يجلس يحيى على الأرض بين الكتب والقواميس، وأن تنتقل الرسالة من يد إلى يد، لقد رأى هذه اللقطات بعين عقله، لكنه لم يتساءل كثيرا عما إذا كانت سوف تجد طريقها إلى عقل المتفرج.
أستطيع أن أملأ صفحات طويلة لأعبر عن إعجابى بالفيلم وصانعه، كما فعل الكثيرون من الزملاء النقاد، وأستطيع أيضا بكلمات قليلة أن أصف الفيلم بالغموض والتعالى كما فعل زملاء آخرون، لكن هذا أو ذاك لا يجيب عن تساؤلى: كيف يمكن لفيلم واحد أن يكون فى أجزاء منه قصيدة شعر، وفى أجزاء أخرى بناء عقليا باردا يكاد أن يخلو من الروح، بل الأغرب أن يجمع مشهد واحد أحيانا بين هذين النقيضين؟ تأمل على سبيل المثال المشهد التالى: فتاة بسيطة تدعى بيسة (مى كساب) تجد الراحة فى الحديث إلى بطلنا يحيى، فتحكى له عن تجربة حبها الأول فى "برمهات" ("يعنى إيه برمهات؟" هكذا كان يجب أن يقول يحيى بتركيبته الدرامية كما صوره الفيلم، وأعتقد أن معظم المتفرجين لا يعلمون أيضا، إنه باختصار شهر بداية الربيع)، وهنا تنطلق الفراشات الملونة لتطير هنا وهناك فى "طبع مزدوج" بالكومبيوتر على الشاشة. صورة جميلة، أليس كذلك؟ لكن من حقك أن تسأل: من أين أتت الفراشات؟ خاصة أن ذلك الخيال البصرى ليس "أسلوب" الفيلم من أوله إلى آخره، لكن مرة أخرى: "أعجبت" صانع الفيلم هذه الصورة، فوضعها هناك، لقد تدخل بعقله لكى يصنع التأثير الوجدانى فى المتفرج، فكانت النتيجة أن عقل المتفرج هو الذى أطل برأسه متسائلا، ولم يتحرك وجدانه.
قل باختصار أن فيلم "رسائل البحر" يريد أن يكون قصيدة شعر، أو سيمفونية بصرية وسمعية، وهو كذلك بالفعل، لكنه لم يتبع دائما المنطق الفنى للشعر أو الموسيقى، بل اتبع منطقا ذهنيا تماما فى بناء عناصره. إن فى الفيلم روح الشعر والموسيقى، لكن هذه الروح وجدت نفسها سجينة فى جسد غير متوافق معها. فلنبدأ بشخصيات الفيلم التى سوف نراها معا تبعا لظهورها فى البناء الدرامى: فى القلب من هذا البناء نجد البطل الشاب يحيى، إنه يعانى من التلعثم فى النطق لذلك لم ينجح كطبيب وهو الآن يعيش على صيد السمك بسنارته، والفيلم يؤكد دائما أنه "يرمز" إلى البراءة فى عالم صعب معقد وملوث. تأتى ثانيا الفتاة كارلا (سامية أسعد) التى تنحدر من أصل إيطالى، وهناك ذكريات طفولة مشتركة بينها وبين يحيى، لكنها تشعر الآن أنها قد تجاوزت هذه المرحلة، وتكاد أن تكون لها ميول جنسية مثلية، وهى "ترمز" أيضا إلى علاقة ثقافية مع الحضارة الغربية باتت على وشك الانقطاع. ثم يظهر الرجل مفتول العضلات قابيل (محمد لطفى)، وهو "يرمز" مباشرة إلى القوة الجسمانية العاتية التى تسببت فى الماضى فى حادثة قتل، لذلك فإن شعوره بالخطيئة يجعله يقرر ألا يستخدم هذه القوة الباطشة مرة أخرى، ولأنه مصاب بورم فى المخ يستلزم إجراء عملية جراحية سوف تفقده الذاكرة، فإنه يخشى من علاجه لأنه قد يتضمن عودته للقتل مرة أخرى. الآن يحين دور المرأة الجميلة نورا (بسمة)، التى ظهرت لأول مرة فى حياة يحيى فى ليلة ممطرة (فى لقطة ذكرتنى ألوانها الحمراء والسوداء المشبعة بفيلم روبرت رودريجيز "مدينة الخطيئة"، برغم تباعد عالمه عن "رسائل البحر")، إنها تأخذ يحيى تحت مظلتها وتسير معه إلى منزله، لتبدأ معه علاقة حميمة طويلة لكنها تظل بالنسبة له سرا غامضا، يتكامل – ويتناقض – مع سر غامض آخر، حين يقضى يحيى بعض لياليه واقفا فى الشارع أمام نافذة مضاءة تغطيها الستائر، ويأتى من خلالها صوت عزف بيانو رقيق (دائما لمقطوعات لشوبان)، وهنا أيضا "ترمز" نورا إلى شعاع النور السجين، ومصدر الألحان العذبة الذى يُخفى وجوده. وأخيرا يأتى الحاج هاشم (صلاح عبدالله)، وهو "رمز" صرف، إنه قاتل الحياة من أجل تراكم الثروة، وهو يصطاد السمك بالديناميت، ويطرد يحيى من منزل الاسكندرية لكى يبنى مكانه مركزا تجاريا.
شخصيات رئيسية خمس، تدور حولها خيوط فيلم "رسائل البحر"، لكنها مرة أخرى نتاج ذهنى خالص يصعب أحيانا أن تصدق وجودها فى لحم ودم، وكل منها يمثل "فكرة" لكنها لا تنصهر معا – كما ينبغى لها أن تكون – فى عالم فنى واحد، لقاؤها وحتى تاريخها المشترك هو بمحض الصدفة، أو لأن صانع الفيلم يريد لها ذلك ... كان من الممكن على سبيل المثال أن يلتقى يحيى مع قابيل كما كان من الممكن ألا يلتقيا، وهو ما ينطبق على علاقات كل الشخصيات الأخرى، ونحن الآن نتحدث عن منطق الحتمية الدرامية فى بناء ذى مظهر واقعى تماما، وإذا كان لك أن تقارن ذلك مع "البحث عن سيد مرزوق" فقد كان منطق الحلم شبه السيريالى هناك هو الذى يقود العلاقات المتغيرة دوما. وحتى لو حاولت أن تتعسف لهذه الرموز أو أشباه الرموز وعلاقاتها تفسيرا فإن ذلك لن يؤدى بك إلى أى مكان، إنها تظل ألحانا جميلة منفصلة، لكنها لا تنجح فى أن تخلق معا سيمفونية متكاملة. لا يكفى للرمز فى الفن أن يكون عنصرا فى معادلة جبرية، كما أن الإيحاء الفنى أعمق كثيرا إذا قارنته بمتعة الرياضة الذهنية، ناهيك عن أن الشخصية الواقعية وما ترمز له يجب أن يظلا جنبا إلى جنب دون أن يطغى أحدهما على الآخر أو يتناقض معه، وأعتقد واثقا أن ذلك هو السبب فى أن رواية نجيب محفوظ "الحرافيش" أهم ألف مرة من "أولاد حارتنا".
فى الجانب الإيجابى، فإن غلبة العنصر الذهنى فى الفيلم كان وراء اختيارات تقنية وجمالية، صنعت بعضا من اللحظات والمشاهد التى يمكن تدريسها بالمعنى الحرفى للكلمة. تأمل على سبيل المثال مشهد "النوة"، الذى يبدأ بالقيظ تحت الشمس الحارقة، ثم تتجمع فجأة بعض الغيوم التى تحجب الشمس، ويرتفع كيس بلاستيكى مع الريح إلى السماء، وتتمايل أشجار النخيل تحت تأثير العواصف، وتترتفع الأمواج لتتلاعب بمركب صيد فى البعيد، ويلمع البرق وسط السحاب، ويلطم الموج حافة صخور الشاطئ، ويهرب الصيادون بينما يبدأ هطول المطر ويتزايد، ويقصف الرعد ويخطف البرق الأبصار ... ويقف يحيى وحده أمام هذا البحر الذى هاج فجأة، متسائلا عن تقلب المصائر والأقدار، وعن البحر الذى يعطى من لا يحتاج ويحرم المحروم.
أعترف لك ياعزيزى القارئ أننى شعرت بالرجفة فى هذا المشهد، وكنت أتمنى طوال الفيلم لو حصلت على مثل هذه "المشاعر"، لولا أننى كنت أستيقظ من حالة النشوة على تدخل صانع الفيلم تدخلا مباشرا وسافرا، ولعل المثال الواضح لهذا التدخل أن كل الشخصيات تنطق بكلماته وتعبيراته الشاعرية "المثقفة"، وليس بكلماتها كشخصيات فنية، لا فرق فى ذلك بين كارلا الإيطالية وبيسة القادمة من الأحياء الشعبية. غير أننى أرى أن الاضطراب الأساسى فى الفيلم يأتى مما يطلق عليه "استراتيجيات السرد"، التى سوف أتوقف معك هنا للحظات لكى نتأملها. ففى كل عمل فنى يحتوى على مادة روائية يكون هناك أمامك اختياران رئيسيان (بالإضافة إلى اختيارات فرعية أخرى): أن تحكى الحدوتة من وجهة نظر الراوى المحايد، الذى يعرف كل شىء عن الشخصيات حتى تلك التى لا تعرفها الشخصيات نفسها، والراوى يختار ما يخبرك به كمتلقى والوقت الذى يخبرك فيه به. أما الاختيار الثانى فهو أن نعرف الحدوتة من خلال إحدى الشخصيات، إننا نرى العالم والأحداث من خلال عينيها، ونحن لا نعرف إلا ما تعرفه هذه الشخصية (فى بعض الأعمال نرى وجهات نظر متعددة من خلال عيون العديد من الشخصيات، مثل رواية "ميرامار" أو فيلم "راشومون"). والهدف من الاختيار بين هذا وذاك فى استراتيجيات السرد هو تحديد أين يقف المتلقى من الأحداث والشخصيات، والغاية النهائية هى تقرير إذا ما كان المتلقى سوف يقف متأملا محايدا أو أنه سيتعاطف أو حتى يتوحد مع شخصية بعينها. هذا هو الجانب الذى اضطرب فيه "رسائل البحر"، إنك تظل تسمع تعليقا من خارج الكادر بصوت يحيى، فنحن إذن لا نرى إلا ما يراه (لذلك لم نعرف مثله الشخص الذى يعزف البيانو خلف النافذة المضاءة)، وفجأة يذهب الفيلم إلى كارلا ليوضح لنا علاقتها المثلية التى لا يعرفها يحيى، ثم ينتقل الفيلم إلى تعليق من خارج الكادر بصوت نورا هدفه الوحيد هو "المعلومات"، وأخيرا ينفصل السرد عن الشخصيات فى مشهد (لا ندرى من أى وجهة نظر يأتى) نعرف فيه من يعزف البيانو. أعتقد أن ذلك الاضطراب فى السرد كان السبب فى عدم وصول رسالة واضحة إلينا، ولا ينفى الوضوح الذى أقصده أهمية الغموض الساحر المطلوب فى عمل فنى راقٍ، وذلك المزيج من الوضوح والغموض هو المعادلة الصعبة أمام أى فنان يريد أن يترك أثرا عميقا فى المتلقى، ولا تكفى لحل تلك المعادلة الصعبة كلمات نورا (أو بالأحرى كلمات صانع الفيلم) ردا على تساؤل يحيى عن فحوى الرسالة فى الزجاجة: "مش مهم، ممكن تبقى قصيدة شعر، صلاة راهب، حد بيهزر"، لأن هناك فرقا فى الإبداع والتلقى بين الهزار والشعر والصلاة، فلكل نوع من هذه الرسائل مرسِل ومرسَل إليه، ولسنا مضطرين أن نعانى لفك شفرة رسالة لنكتشف فى النهاية أنه "حد بيهزر"!
فى التحليل الأخير، فإن فيلم "رسائل البحر" برسائله العديدة كان أشبه بمشاهد منفصلة، ولكل منها جماله الخاص، لكنها فى الرؤية الكلية تفتقد البؤرة الدرامية التى تجعل المشاهد والرسائل تنبع من هذه البؤرة وتلتقى فيها. أرجو أن تتامل على سبيل المثال أى "نوكتورن" لشوبان من تلك الليليات التى حفل بها الفيلم فى مشاهد العزف على البيانو، إن المقطوعة تبدو ارتجالا حرا لكنها فى الحقيقة تنويعات مختلفة على لحن واحد. وهذا هو ما افتقدته فى الفيلم، لم أجد ذلك اللحن الأساسى الذى يربط الأجزاء معا، لذلك جاء الفيلم فى محصلته النهائية أقل من أجزائه، وبرغم الرسائل والمشاهد فائقة البراعة فإننى لم أعثر أبدا على التيار الذى يجمعها معا.
Thursday, September 09, 2010
Subscribe to:
Posts (Atom)