قدر هائل وعميق من الشجن يلف عالم الفيلم اليونانى
"شوية توابل" أو "مطبخ السياسة" (2003)، تلعب فيه الصور
الساحرة والموسيقى التركية واليونانية الآسرة دورا كبيرا فى إثارة جو عاطفى مفعم
بالحنين والحزن، وإن لم يخلُ أبدا من البهجة، إنه "وجبة" كاملة من
السينما، بل إن مخرجه اليونانى تاسوس بوليميتيس يختار له شكلا مبنيا على فقرات،
تحاكى مراحل تناول الطعام، بدءا من المقبلات والمشهيات، ثم الطبق الرئيسى، وأخيرا
تأتى الحلوى، التى لن تدرى إن كانت قد أضافت لمذاق الوجبة، أم أنها ضيعت هذا
المذاق.
ولأن الفيلم يعتمد كثيرا على فكرة نكهة الطعام وطريقة
إعداده وتذوقه، فإن يستخدم التشبيه المجازى لأنواع التوابل المختلفة لكى يؤكد على
فكرته، وهى فكرة تتردد الآن أصداؤها للأسف فى واقعنا العربى، بقدر ما ترددت عبر
أجيال فى منطقة أوسع، تمتد شمالا من أرمينيا، مرورا بالبلقان واليونان وتركيا
وقبرص، حين كانت كل هذه البلاد تضم معا قوميات وأعراقا مختلفة، ثم انقسمت الأوطان
على نفسها، لتقع مذابح جماعية، ونزوح نتيجة هذا الانقسام، الذى نراه فى شوية
توابل" متجسدا فى ذكريات رجل يونانى أصبح اليوم كهلا، عن طفولته فى مدينة
استانبول، ثم ترحيله مع أبيه وأمه عنها على إثر اضطرابات سياسية وعسكرية بين تركيا
واليونان فى أوائل الستينيات، وعدم قدرته على نسيان ذلك "الوطن" القديم.
ليس هناك فى الفيلم أى تحيزات سياسية قد يشعر بها مخرج
يونانى تجاه تركيا، بل على العكس فإنه يصور البلدين – الوطنين – بحب شديد الدفء، وهو
الحب الذى يظهر لك مع بداية ما يمكن أن تسميه الفصل الأول، الذى يحمل عنوان
"المشهيات"، ويذكر الفيلم تاريخه: 1959. أنت مع مؤذن على قمة مئذنة، وتسمع
صوته يجلجل عذبا رخيما، لتتراجع الكاميرا (أو توحى بذلك من خلال التقنيات
الكومبيوترية)، لتصبح اللقطة عامة لمدينة استانبول كلها، وتطوف بالمساجد حتى تنتهى
إلى السوق القديمة، حيث يقع دكان الجد فاسيليس، بائع التوابل وفيلسوفها، والذى
يوزع نصائحه على الجميع، من أجل أن تحقق توابله أهدافها فى التأثير بمزيد من الدفء
على العلاقات الإنسانية.
وشيئا فشيئا سوف تتعرف على عائلة البطل الطفل فانيس،
الذى يحمل جده لأمه الجنسيتين اليونانية والتركية، بينما لا يحمل أبوه سوى الجنسية
اليونانية، لكن إقامة العائلة فى استانبول تركت أثرها العميق عليهم جميعا، فهم
يستخدمون كلمات تركية فى حوارهم، كما يحتشد مطبخهم بالأطباق التركية ذات المذاق
الحريف، الذى يزداد قوة مع توابل الجد. وتكاد لقاءات العائلة ألا تخلو أبدا من
الطعام والمقارنة بين أصنافه المختلفة، ويجد الطفل فانيس دفئا خاصا فى الالتصاق
بنساء الأسرة، ليتعلم منهم دون وعيهن أسرار الطهى. وفى دكان الجد سوف يتعلم أيضا
العلاقة بين الكون كله وأنواع التوابل المختلفة، وتنشأ علاقة بريئة دافئة بينه
وبين الطفلة التركية سامية، تبدو كأنها حلم جميل، يتأكد تأثيره علينا من خلال لقطة
لمظلة شمس تطير فى الفضاء كأنها ترقص فوق مدينة استانبول.
لكن الحلم يتبدد بعد عامين، عندما تحدث توترات بين اليونانين
والأتراك فى جزيرة قبرص، ليتقرر ترحيل اليونانيين عن المدينة، ومنهم بطلنا الصغير
فانيس وأبوه وأمه. إن فانيس لا يشعر أبدا بالتواؤم مع حياته الجديدة فى أثينا، حيث
يطلقون على العائدين من تركيا "الأتراك"، بينما كانوا فى تركيا يحملون
صفة "اليونانيين". وهنا يبدأ "الطبق الرئيسى" لوجبة الفيلم،
حيث تتحدث العائلة دائما عن ذكرياتهم فى تركيا، ويعانى الطفل فانيس من الشعور
بالغربة، ويدفن أحزانه بالطهى رغما عن الأب والأم اللذين يشعران بالخوف من أن يكون
ابنهما غير سوى. وفى عام 1967 يحدث الانقلاب العسكرى فى اليونان، ويتخذ كل شىء صفة
عسكرية، حتى أن الخال المرح يقرر التخلى عن نزواته الغرامية، لكى يتزوج زواج مصلحة
من فتاة من عائلة ذات أصول عسكرية.
وطوال الفيلم، هناك حالة انتظار أن يصل الجد إلى أثينا
قادما للزيارة من استانبول، ويمنى الشاب فانيس نفسه أن يحمل جده معه أخبارا عن
رفيقة طفولته سامية، لكن الجد لا يأتى أبدا، بل يقفز الفيلم إلى الزمن المعاصر،
وقد أصبح فانيس كهلا، لتحمل هذه الفقرة عنوان "الحلوى"، لكنها فى
الحقيقة لا تخلو من مرارة. يعود فانيس إلى استانبول عندما يشرف الجد على الاحتضار،
وفى جنازته يقابل سامية التى تزوجت وأصبحت أما، ويكاد الفيلم أن يعطيك لمحة أمل عن
عودة علاقتهما، خاصة وأن فانيس نجح فى الحصول على عمل فى جامعة البوسفور لفترة،
لكن الواقع لا يحقق هذا الأمل، لنرى مشهد وداع آخر على محطة القطار، هذه المرة
وسامية ترحل عن استانبول ليبقى هو وحيدا، مرة أخرى.
قد تبدو لك هذه الحكاية أسيرة لخطوطها الميلودرامية، لكن
الفيلم لا يقع أبدا فى مأزق المبالغة، والنزعة العاطفية الجياشة فيه لا تنبع من
تقلبات الأحداث، وإنما من جماليات الصورة، وعودة لقطات فى تنويعات مختلفة (مثل
لقطة المظلة الطائرة، أو ثدى الأم التى ترضع طفلا، أو الوداع على محطة القطار)، والموسيقى
التى تعمل بأسلوب اللحن الدال (اللايتموتيف) الذى يثير فيك ذكرى محددة عايشتها من
قبل فى الفيلم. والحقيقة أن المرء قد يشعر بالأسف على أن المخرج تاسوس بوليميتيس
لم يصنع أفلاما بعد هذا الفيلم، لتوليه منصب رئيس مؤسسة السينما اليونانية، وقيامه
بالتدريس فى معهد السينما، فنادرا ما قد نجد فنانا سينمائيا بهذه الرهافة فى
التعبير، ليس فقط من ناحية الأسلوب، وإنما أيضا لقدرته على تجسيد مشاعر الغربة فى
الأوطان.
وبعد أن ينتهى الفيلم، ومع مشهد النهاية للبطل
فانيس فى دكان الجد وقد علاه التراب، نرى غبار التوابل قد تحول إلى كون كامل،
ننتمى إليه مثلما ينتمى إلينا، فالوطن ليس هو الحدود التى يصنعها هذا الفريق أو
ذاك، وإنما هو أنا وأنت، هو نحن بكل ذكرياتنا وتكويننا، وليس هناك فى العالم من
يستطيع حقا أن ينزع الأوطان عنا، تحت أى راية وبأى مبرر، ذلك أن مذاق الوطن يبقى
عالقا فى الوجدان إلى الأبد.