العلاقة بين السينما والتليفزيون علاقة متشابكة، بل ملتبسة أحيانا، فعندما ظهر التليفزيون لأول مرة في خمسينيات القرن الماضي، كان يشكل للسينما عدوا حقيقيا عندما سرق منها جمهورها، وحاولت السينما أن تصد الهجوم بالاستعانة بتقنيات العرض المبهر، مثل الشاشة العريضة والألوان، لكنها سرعان ما استسلمت، حتى أنها عادت فصنعت أفلامها بتناسب الشاشة القديم لتلائم العرض في التليفزيون، وانتهى الأمر بنوع من التعايش الإيجابي بين الوسيطين الفنيين، خاصة في عصر ظهور الاندماجات العالمية الكبرى التي تجمع داخل الشركة الواحدة العديد من الوسائط الفنية والتقنية.
ومع ذلك، كان يظهر بين الحين والآخر أفلام تنتقد تأثير التليفزيون على المتفرج والمجتمع، لعل أهمها فيلم سيدني لوميت "شبكة التليفزيون"، الذي يحاول من وجهة نظره الكشف عن التحيزات السياسية وراء ما يبدو على السطح معالجة موضوعية، أو فيلم أوليفر ستون "قتلة بالفطرة"، ذلك الهجاء المأساوي الجامح لقدرة التليفزيون على جعل القتلة أساطير إعلامية. لكن السينما المصرية نادرا ما قدمت معالجة جادة لتلك العلاقة وذلك التأثير، برغم أن "صرعة الفضائيات" التي وصلت إلى كل منزل قد مثلت واقعا جديدا كان مادة لبعض الأفلام المصرية.
لعلك تذكر مثلا "أصحاب واللا بيزنيس"، الذي دار حول صراع بين صديقين (مصطفى قمر وهاني سلامة) يعملان في هذا المجال، ويتخذان برامجهما أداة لتحقيق مصالح شخصية وغرامية خاصة، بل إن الفيلم يحشر القضية الفلسطينية حشرا، ليقوم باستغلالها كنوع من التطهير الذاتي لأحد البطلين. ويأتي فيلم "جاءنا البيان التالي" دون أي بيان لهدفه، إذ ينقل أحداث فيلم أجنبي يدور عن عالم الصحافة إلى عالم التليفزيون، ليمضي في سلسلة من "النمر" لمحمد هنيدي الذي يظهر في شخصية مذيع تليفزيوني كاريكاتوري. أما "حمادة يلعب" فقد كان ملعبا ومرتعا للممثل الذي يفترض أنه كوميدي أحمد رزق، مع الممثلة غادة عادل، ليدور الفيلم حول مسابقة تليفزيونية للزواج. وبرغم أن أفلام المخرج يسري نصر الله تبدو للمثقفين على أنها جادة، فهي جدية سطحية تماما، إذ تنظر للعالم دائما من وراء زجاج سميك، وهو يجعل عالم التليفزيون مسرحا لفيلمه "إحكي ياشهرزاد"، الذي يمضي بدوره في سلسلة من "النمر" حول ما يفترض أنه مشكلات المرأة المصرية، التي لا يعلم صانعو الفيلم عنها شيئا كثيرا ذا بال!!
أرجو أن تكون قد لاحظت يا عزيزي القارئ أن تعبير "النمر" قد تكرر في وصفنا لهذه الأفلام، وهي آفة أصبحت ملازمة للسينما المصرية هذه الأيام، فلا بناء دراميا من أي نوع، بل سلسلة من المواقف التي يمكنك أن تضيف لها أو تحذف منها ما شئت، أو تقدم أو تؤخر فيها وسوف يظل الفيلم على حاله. وصل ذلك إلى ذروته المتهالكة مع فيلم الممثل أحمد مكي الأخير "سمير أبو النيل"، الذي لن يضيف لك شيئا أن تعرف أنه من "تأليف" أيمن بهجت قمر، و"إخراج" عمرو عرفة، فليس فيه تأليف أو إخراج، وإن كان هذا هو التأليف والإخراج الآن في السينما المصرية فلتقل "عليه العوض"!!
فإذا كان هناك فيلم يحمل اسم شخصية، فلابد أنها تجسد ملامح لن تنساها أبدا، وتاريخا له أهميته، وشريحة اجتماعية لها وجودها، ومع ذلك فلا شيء من هذا كله. يقضي الفيلم نصف زمن عرضه بالضبط مع هذا الـ"سمير أبو النيل"، ولن تعرف عنه شيئا إلا أنه "بخيل": إنه يؤجر الشقة التي ورثها عن أبيه لإحدى قريباته، لكنه لا يأخذ منها أجرا ويكتفي بأن يفرض نفسه عليها لكي يأكل، كما أنه يمارس نفس الشيء مع خالته (نهير أمين) التي نراها مشغولة بخطبة ابنتها، ويحشر سمير نفسه في الموضوع ليلقي ببعض السخافات على الخطيب (إدوار). وهناك في الخلفية أمين الشرطة أشرف (محمد لطفي) الذي تربطه به قرابة لا نعرفها تماما، لكن هذه الشخصية سوف تصبح "السنّيد" التقليدي للبطل كما هو الحال في السينما المصرية، وأخيرا هناك أيضا امرأة تتصل بسمير من الخارج، ولها لكنة مصطنعة، وسوف تظهر في آخر مشاهد الفيلم لنعرف أن التي تقوم بأدائها هي الممثلة منة شلبي.
يمضي سمير (البخيل) في حياته اليومية، ونراه يتشاجر مع البقال، وبائع الفول، ويضرب البلطجية في قسم الشرطة (!!)، كل ذلك في ضجيج سمعي وبصري لا يتوقف، وهي سمة أخرى للسينما المصرية المعاصرة، خاصة أن النكات تنبعث دائما من السوائل البشرية، أو الضرب على الأقفية. ولسبب ما يظهر لسمير أخ (علاء مرسي) يبدو متدينا، لكنه سرعان ما يختفي لننساه تماما. وفي الدقيقة الثلاثين تقريبا تبدأ الحبكة في اتخاذ مسار جديد غامض، فلسمير قريب بالغ الثراء، يخبر بطلنا أنه مريض وذاهب للخارج للعلاج، وأنه سوف يودع عنده ثروة طائلة تقدر بمئات الملايين من الجنيهات.
لماذا يأتمنه هذا القريب الثري، ليتركه يضع الأموال في غرفة على السطح؟!! لن تقنعك كل مبررات العالم بسبب مقنع واحد، لكن الفيلم يريد أن تهبط على سمير ثروة هائلة. وما الذي سوف يفعله سمير بهذه الثروة؟ سوف يفتتح قناة فضائية. طيب ما علاقة ذلك ببخله؟ لا شيء بالمرة!! وهكذا تدرك التخبط في الكتابة والإخراج والتمثيل، حيث لا توجد أي وحدة عضوية بين المشاهد، فالمهم هي الفرجة على أحمد مكي وهو يحاول أن يكون مضحكا.
في منتصف الفيلم تماما يبدأ هدفه الجديد: السخرية من القنوات الفضائية، حين يفتتح سمير محطة تحمل اسم "صبحة تي في"، بمساعدة سيدة أعمال (نيكول سابا) يمكنك أن تحذف دورها أو تنساها، لكنها تمثل مزيدا من عرض البضاعة أمام الزبون متفرج الفيلم. وهنا تبدأ سلسلة من "تقليد" أحمد مكي لبعض البرامج التليفزيونية، وهو في الحقيقة تقليد ماسخ بلا طعم أو لون: برامج سياسية، ورياضية، وطهي، ونشرة جوية، ومسابقات بلهاء، والإعلان عن مستحضرات وهمية، كل ذلك يساعده فيه قريبه أمين الشرطة الذي طرد من الخدمة، بينما نرى صحافية تسعى إلى فضحه (فضح ماذا؟ لا نعرف بالضبط)، فيتآمر على ضربها ضربا مبرحا.
إلى أين سوف ينتهي هذا الخلط؟ بالطبع سوف يدرك البطل خطأه (مرة أخرى: ما هذا الخطأ؟ لا ندري تماما)، ويعود قريبه الثري للظهور فنعرف أنه احتال عليه ليقوم بدلا عنه بغسيل أمواله القذرة، كما نرى الشقيق المتدين وقد افتتح محطة فضائية تحمل اسم "سبحة تي في"، في إشارة لاتجاه قديم جديد لم يجرؤ الفيلم على معالجته بجدية، وأخيرا ترجع الحبيبة الغامضة من السفر الطويل، وتقرر الزواج من سمير، الذي يعود لممارسة البخل من جديد.
الغريب في الأمر كله أن المتفرج العادي يعرف من خبايا عالم القنوات الفضائية أكثر مما قاله الفيلم بكثير، كما أن المعالجة افتقدت العمق أو خفة الظل، وليس هناك سبب واحد لصنع الفيلم، إلا أن يكون بدوره نوعا من "الغسيل"!! لكن الأهم في ذلك كله أن السينما المصرية لم تدرك حتى الآن الفرق بين الوسيط السينمائي والوسيط التليفزيوني، فإذا كان هذا الأخير يحتمل التكرار والمط والتطويل، لأن المتفرج قد يقطع المشاهدة بممارسة بعض نشاطاته المنزلية، فإن السينما تعتمد على التكثيف والتركيز والاختزال، لأنه يفترض فيها أن تستغرق المتفرج تماما في ظلام قاعة العرض. وإذا كان التليفزيون لا يتعارض مع قدر من المبالغة، فشاشته صغيرة في كل الأحوال، فإن المبالغة على شاشة السينما الكبيرة تبدو نوعا من الغلظة المنفرة. لذلك إذا كانت هناك تهمة يمكن أن نوجهها إلى التليفزيون لأنه قد يعمد إلى تضليل المتفرج، فإن تهمة السينما المصرية المعاصرة أفدح، لأنها تحول المتفرج إلى كائن يفتقر إلى أدنى قدر من رهافة الإحساس، وإدراك العقل.