Friday, May 10, 2013

انتقاد سلبيات التليفزيون بسينما رديئة فيلم "سمير أبو النيل" نموذجا


العلاقة بين السينما والتليفزيون علاقة متشابكة، بل ملتبسة أحيانا، فعندما ظهر التليفزيون لأول مرة في خمسينيات القرن الماضي، كان يشكل للسينما عدوا حقيقيا عندما سرق منها جمهورها، وحاولت السينما أن تصد الهجوم بالاستعانة بتقنيات العرض المبهر، مثل الشاشة العريضة والألوان، لكنها سرعان ما استسلمت، حتى أنها عادت فصنعت أفلامها بتناسب الشاشة القديم لتلائم العرض في التليفزيون، وانتهى الأمر بنوع من التعايش الإيجابي بين الوسيطين الفنيين، خاصة في عصر ظهور الاندماجات العالمية الكبرى التي تجمع داخل الشركة الواحدة العديد من الوسائط الفنية والتقنية. ومع ذلك، كان يظهر بين الحين والآخر أفلام تنتقد تأثير التليفزيون على المتفرج والمجتمع، لعل أهمها فيلم سيدني لوميت "شبكة التليفزيون"، الذي يحاول من وجهة نظره الكشف عن التحيزات السياسية وراء ما يبدو على السطح معالجة موضوعية، أو فيلم أوليفر ستون "قتلة بالفطرة"، ذلك الهجاء المأساوي الجامح لقدرة التليفزيون على جعل القتلة أساطير إعلامية. لكن السينما المصرية نادرا ما قدمت معالجة جادة لتلك العلاقة وذلك التأثير، برغم أن "صرعة الفضائيات" التي وصلت إلى كل منزل قد مثلت واقعا جديدا كان مادة لبعض الأفلام المصرية. لعلك تذكر مثلا "أصحاب واللا بيزنيس"، الذي دار حول صراع بين صديقين (مصطفى قمر وهاني سلامة) يعملان في هذا المجال، ويتخذان برامجهما أداة لتحقيق مصالح شخصية وغرامية خاصة، بل إن الفيلم يحشر القضية الفلسطينية حشرا، ليقوم باستغلالها كنوع من التطهير الذاتي لأحد البطلين. ويأتي فيلم "جاءنا البيان التالي" دون أي بيان لهدفه، إذ ينقل أحداث فيلم أجنبي يدور عن عالم الصحافة إلى عالم التليفزيون، ليمضي في سلسلة من "النمر" لمحمد هنيدي الذي يظهر في شخصية مذيع تليفزيوني كاريكاتوري. أما "حمادة يلعب" فقد كان ملعبا ومرتعا للممثل الذي يفترض أنه كوميدي أحمد رزق، مع الممثلة غادة عادل، ليدور الفيلم حول مسابقة تليفزيونية للزواج. وبرغم أن أفلام المخرج يسري نصر الله تبدو للمثقفين على أنها جادة، فهي جدية سطحية تماما، إذ تنظر للعالم دائما من وراء زجاج سميك، وهو يجعل عالم التليفزيون مسرحا لفيلمه "إحكي ياشهرزاد"، الذي يمضي بدوره في سلسلة من "النمر" حول ما يفترض أنه مشكلات المرأة المصرية، التي لا يعلم صانعو الفيلم عنها شيئا كثيرا ذا بال!! أرجو أن تكون قد لاحظت يا عزيزي القارئ أن تعبير "النمر" قد تكرر في وصفنا لهذه الأفلام، وهي آفة أصبحت ملازمة للسينما المصرية هذه الأيام، فلا بناء دراميا من أي نوع، بل سلسلة من المواقف التي يمكنك أن تضيف لها أو تحذف منها ما شئت، أو تقدم أو تؤخر فيها وسوف يظل الفيلم على حاله. وصل ذلك إلى ذروته المتهالكة مع فيلم الممثل أحمد مكي الأخير "سمير أبو النيل"، الذي لن يضيف لك شيئا أن تعرف أنه من "تأليف" أيمن بهجت قمر، و"إخراج" عمرو عرفة، فليس فيه تأليف أو إخراج، وإن كان هذا هو التأليف والإخراج الآن في السينما المصرية فلتقل "عليه العوض"!! فإذا كان هناك فيلم يحمل اسم شخصية، فلابد أنها تجسد ملامح لن تنساها أبدا، وتاريخا له أهميته، وشريحة اجتماعية لها وجودها، ومع ذلك فلا شيء من هذا كله. يقضي الفيلم نصف زمن عرضه بالضبط مع هذا الـ"سمير أبو النيل"، ولن تعرف عنه شيئا إلا أنه "بخيل": إنه يؤجر الشقة التي ورثها عن أبيه لإحدى قريباته، لكنه لا يأخذ منها أجرا ويكتفي بأن يفرض نفسه عليها لكي يأكل، كما أنه يمارس نفس الشيء مع خالته (نهير أمين) التي نراها مشغولة بخطبة ابنتها، ويحشر سمير نفسه في الموضوع ليلقي ببعض السخافات على الخطيب (إدوار). وهناك في الخلفية أمين الشرطة أشرف (محمد لطفي) الذي تربطه به قرابة لا نعرفها تماما، لكن هذه الشخصية سوف تصبح "السنّيد" التقليدي للبطل كما هو الحال في السينما المصرية، وأخيرا هناك أيضا امرأة تتصل بسمير من الخارج، ولها لكنة مصطنعة، وسوف تظهر في آخر مشاهد الفيلم لنعرف أن التي تقوم بأدائها هي الممثلة منة شلبي. يمضي سمير (البخيل) في حياته اليومية، ونراه يتشاجر مع البقال، وبائع الفول، ويضرب البلطجية في قسم الشرطة (!!)، كل ذلك في ضجيج سمعي وبصري لا يتوقف، وهي سمة أخرى للسينما المصرية المعاصرة، خاصة أن النكات تنبعث دائما من السوائل البشرية، أو الضرب على الأقفية. ولسبب ما يظهر لسمير أخ (علاء مرسي) يبدو متدينا، لكنه سرعان ما يختفي لننساه تماما. وفي الدقيقة الثلاثين تقريبا تبدأ الحبكة في اتخاذ مسار جديد غامض، فلسمير قريب بالغ الثراء، يخبر بطلنا أنه مريض وذاهب للخارج للعلاج، وأنه سوف يودع عنده ثروة طائلة تقدر بمئات الملايين من الجنيهات. لماذا يأتمنه هذا القريب الثري، ليتركه يضع الأموال في غرفة على السطح؟!! لن تقنعك كل مبررات العالم بسبب مقنع واحد، لكن الفيلم يريد أن تهبط على سمير ثروة هائلة. وما الذي سوف يفعله سمير بهذه الثروة؟ سوف يفتتح قناة فضائية. طيب ما علاقة ذلك ببخله؟ لا شيء بالمرة!! وهكذا تدرك التخبط في الكتابة والإخراج والتمثيل، حيث لا توجد أي وحدة عضوية بين المشاهد، فالمهم هي الفرجة على أحمد مكي وهو يحاول أن يكون مضحكا. في منتصف الفيلم تماما يبدأ هدفه الجديد: السخرية من القنوات الفضائية، حين يفتتح سمير محطة تحمل اسم "صبحة تي في"، بمساعدة سيدة أعمال (نيكول سابا) يمكنك أن تحذف دورها أو تنساها، لكنها تمثل مزيدا من عرض البضاعة أمام الزبون متفرج الفيلم. وهنا تبدأ سلسلة من "تقليد" أحمد مكي لبعض البرامج التليفزيونية، وهو في الحقيقة تقليد ماسخ بلا طعم أو لون: برامج سياسية، ورياضية، وطهي، ونشرة جوية، ومسابقات بلهاء، والإعلان عن مستحضرات وهمية، كل ذلك يساعده فيه قريبه أمين الشرطة الذي طرد من الخدمة، بينما نرى صحافية تسعى إلى فضحه (فضح ماذا؟ لا نعرف بالضبط)، فيتآمر على ضربها ضربا مبرحا. إلى أين سوف ينتهي هذا الخلط؟ بالطبع سوف يدرك البطل خطأه (مرة أخرى: ما هذا الخطأ؟ لا ندري تماما)، ويعود قريبه الثري للظهور فنعرف أنه احتال عليه ليقوم بدلا عنه بغسيل أمواله القذرة، كما نرى الشقيق المتدين وقد افتتح محطة فضائية تحمل اسم "سبحة تي في"، في إشارة لاتجاه قديم جديد لم يجرؤ الفيلم على معالجته بجدية، وأخيرا ترجع الحبيبة الغامضة من السفر الطويل، وتقرر الزواج من سمير، الذي يعود لممارسة البخل من جديد. الغريب في الأمر كله أن المتفرج العادي يعرف من خبايا عالم القنوات الفضائية أكثر مما قاله الفيلم بكثير، كما أن المعالجة افتقدت العمق أو خفة الظل، وليس هناك سبب واحد لصنع الفيلم، إلا أن يكون بدوره نوعا من "الغسيل"!! لكن الأهم في ذلك كله أن السينما المصرية لم تدرك حتى الآن الفرق بين الوسيط السينمائي والوسيط التليفزيوني، فإذا كان هذا الأخير يحتمل التكرار والمط والتطويل، لأن المتفرج قد يقطع المشاهدة بممارسة بعض نشاطاته المنزلية، فإن السينما تعتمد على التكثيف والتركيز والاختزال، لأنه يفترض فيها أن تستغرق المتفرج تماما في ظلام قاعة العرض. وإذا كان التليفزيون لا يتعارض مع قدر من المبالغة، فشاشته صغيرة في كل الأحوال، فإن المبالغة على شاشة السينما الكبيرة تبدو نوعا من الغلظة المنفرة. لذلك إذا كانت هناك تهمة يمكن أن نوجهها إلى التليفزيون لأنه قد يعمد إلى تضليل المتفرج، فإن تهمة السينما المصرية المعاصرة أفدح، لأنها تحول المتفرج إلى كائن يفتقر إلى أدنى قدر من رهافة الإحساس، وإدراك العقل.

Sunday, May 05, 2013

البطل والبطولة في السينما المصرية


فجأة بات صناع السينما المصرية مشغولين بسؤال بدا بالنسبة لهم ملحا: ما هي ملامح بطل المرحلة القادمة في السينما المصرية؟ وهو سؤال منطقي ومشروع لو كانت هذه السينما مؤسسة صناعية بحق، وليست بالعشوائية التي تسير عليها منذ عقود. فصناعات السينما الجادة تقوم بالفعل باستشارة مؤسسات علمية في مجال علم الاجتماع والسياسة، لتستشرف بين مرحلة وأخرى ملامح البطل الذي يجب أن تعمل السينما على التأكيد عليه، حتى تضمن أن أفلامها سوف تلقى صدى وهوى من جانب الجمهور. لكن السينما المصرية يؤرقها سؤال آخر وإن لم تفصح عنه: هل سوف يستمر نجوم المرحلة الحالية في اجتذاب رواد شباك التذاكر؟ بكلمات أخرى: هل أحمد السقا مثلا يصلح أن يكون "نجم شباك" كما كان منذ عقد مضى؟ لكن صناع السينما المصرية كان ينبغي عليهم أن يصيغوا السؤال كالآتي: ما الذي جعل أحمد السقا نجما خلال هذه الفترة؟ وهل هذه الأسباب ما تزال قائمة؟ وفي الحقيقة أن النجومية في السينما مرهونة دائما بمفهوم "البطولة"، فالنجم هو البطل في عين المتفرج، وعندما يحدث التوحد بينهما يشعر المتفرج بالبطولة أيضا. غير أن معنى البطولة لا يخلو من ضبابية والتباس أيضا، فهي ليست دائما ذات دلالة تتعلق بالفارس القديم المغوار، الذي لا يشق له غبار، كما كان أبو زيد الهلالي مثلا، الذي يصلح بطلا في سياق مجتمع يؤمن بقوة الساعد والسيف، فقد كان علي الزيبق في سياق آخر بطلا، وهو الذي يعتمد أكثر على الحيلة والدهاء. يمكنك ببساطة أن تقول إن الهلالي هو "البطل"، بينما الزيبق هو "البطل المضاد"، والأول يجسد السمات الإيجابية الصريحة للبطولة، لأن مجتمعه وزمنه يؤمنان بهذه السمات في سياق يضع خطا فاصلا بين القوة والضعف، أما الثاني فقد جاء في مجتمع أكثر تعقيدا بكثير، حيث تشوش هذا الخط الفاصل، ولم يعد القوي بطلا بل شريرا، لذلك كان من الضروري ولادة بطل مضاد، قد لا يخلو أحيانا من دوافع شريرة، أو قد يعمد إلى استغلال وسائل غير شريفة، لأن سياقه هو الذي يدفعه لذلك. عرفت السينما هذين النوعين من البطولة بتنويعات متعددة، وسوف أضرب لك مثلا واحدا: في فترة الكساد الاقتصادي الذي ضرب المجتمع الأمريكي في ثلاثينيات القرن الماضي، بدت السينما الأمريكية حائرة، فهي لا تريد أن تصنع أفلاما "واقعية" لأن الجمهور لديه ما يكفيه من مرارة الواقع، وكان الحل هو ولادة صورتين متناقضتين للبطل على الشاشة، كانت الأولى مجسدة في إيرول فلين ودوجلاس فيربانكس، اللذين يتمتعان بجسد رياضي، ويصوران أبطالا "فرسانا" يخوضان المعارك النبيلة ويفوزان فيها، ليمنحا المتفرج جرعة من التفاؤل (حتى لو كان زائفا)، أما الصورة الثانية فتجسدت في بول موني وجيمس كاجني، بطلي أفلام العصابات، وهي الأفلام التي كانت تصور بطلا مضادا اختار طريق الجريمة في مجتمع ظالم، ليفرغ المتفرج معه شحنة الانتقام من هذا الظلم، وإن كانت السينما تعاقبه في نهاية الفيلم، بعد أن تكون قد احتفت واحتفلت بانتصاراته!! سوف نتوقف هنا والآن عند تنويعات "البطل" كما قدمتها السينما المصرية، وربما تجسد التنويع الأول في حسين صدقي أو محمد أفندي بطل "العزيمة"، إنه ابن الطبقة الفقيرة الباحث لنفسه عن مكان تحت شمس الحياة، في ظل مجتمع كان يعاني من الطبقية والاستعمار معا، ويقف على مشارف الحرب العالمية الثانية التي سوف يخوضها دون أن تكون له ناقة أو جمل فيها، ويعاني محمد أفندي في طريقه للصعود، لكن الفيلم يقول له إن نجاحه مرهون بقبوله بالشروط الاجتماعية السائدة، التي تتضمن طلبه المساعدة من "الباشا". وهكذا تعني البطولة التمسك بالأخلاقيات الراهنة، دون أدنى قدر من التمرد عليها. ومع اقتصاد الحرب العالمية، كانت هناك فرصة "مالية" (ولا نقول اقتصادية) لبروز أكبر لأبناء طبقة متوسطة، ما يزالون بدورهم يعبرون عن التقيد بالأخلاقيات دون التمرد على الظروف، ويمكنك أن تتأمل صورة البطل عند أنور وجدي، الذي قد يكون من أبناء الطبقة المتوسطة متواضعة الحال، كما في ”ليلى بنت الأغنياء"، أو حتى معدما فقيرا كما في "ياسمين"، لكنه دائما نقي شريف شديد الإخلاص في مشاعره وعواطفه، وهو أيضا ينتظر الفرصة لكي يعطف عليه "الباشا" الذي يعيد الحق إلى نصابه. وإذا كان ابن الطبقة المتوسطة قد أصبح محاميا مثل كمال الشناوي في "الأستاذة فاطمة"، يحاول أن يواجه متاعب الحياة بخفة ظله وروحه، فإن النموذج الأكثر امتثالا للواقع ظهر واضحا مع بطل عماد حمدي، الذي كان يمثل اجترارا للمرحلة السابقة على ثورة 1952، التي شعرت خلالها الطبقة الوسطى أن عليها مجاراة الواقع، حتى لا تلقى عقابا بالطرد من جنة الأغنياء. اختلف الأمر تماما في المرحلة التالية، حين كان مشروع الثورة هو ذاته مشروع الطبقة الوسطى، القائم على الحق في الفرصة المتكافئة، ولم يعد البطل مضطرا لإظهار الخضوع والخنوع، بل إنه أصبح أكثر انفتاحا وإقبالا على الحياة، وتلك هي الصورة التي انعكست في أبطال أحمد رمزي وحسن يوسف والعديد غيرهما، وإن كان من المهم هنا أن نذكر أهمية صورة "البطلة" أيضا، كما جسدتها سعاد حسني ونادية لطفي، وهي الصورة التي عكست جانبا مطمئنا للحاضر، ومتفائلا بالمستقبل. جاءت السبعينيات لتنذر بانقلاب خفي في البداية، صريح في النهاية، على كل المشروعات القومية للطبقة الوسطى، وإن كنت في شك من ذلك أرجو أن تتأمل صورة البطل كما جسده حسين فهمي أو محمود ياسين، وحاول أن تتذكر ماذا كان يعمل هذا البطل ليكسب عيشه، وما الذي يؤرقه، وسوف تكتشف أن حياة مثل هذا البطل تدور وجودا وعدما حول قصص حب فارغة من المعنى (إلا فيما ندر)، وهذا ما انعكس في صورة أبطال آخرين مثل نور الشريف أو محمود عبد العزيز، فقد اختار نور أن يعود إلى عالم زائف لم يتخلص من أصوله الأجنبية، مثل "الكونت دي مونت كريستو" الذي تحول إلى "دائرة الانتقام"، أو "قطة على سطح صفيح ساخن" الذي تحول إلى "قطة على نار"، وربما لم يتخلص نور الشريف من تصوراته في الأداء التمثيلي إلا مع معالجات أكثر نضجا، كما في "الصعاليك" لداوود عبد السيد، عن رحلة الصعود في ظل اقتصاد الانفتاح الاستهلاكي، أو "كتية الإعدام" لأسامة أنور عكاشة وعاطف الطيب عن حرب أكتوبر التي سرق اللصوص مكاسبها، والأهم "سواق الأتوبيس" عن ابن الطبقة الوسطى الغارقة في طوفان اجتماعي قاسٍ. أما محمود عبد العزيز فقد بدأ تقليدا باهتا لحسين فهمي، كما في "المتوحشة" الذي كان بدوره تقليدا لفيلم "خللي بالك من زوزو"، لكن سرعان ما أدركته أيضا تغيرات جسمانية، أهلته للتعبير عن تغيرات اجتماعية طاحنة كما في "العار" و"الكيف"، حتى لو كان ذلك قد أتى في نغمة ميلودرامية صاخبة زاعقة. ولعل آخر تجليات ابن الطبقة المتوسطة في أوضح صورها كان ممدوح عبد العليم في "سوبرماركت"، البطل الضائع في سياق أصبح فيه كل شيء مطروحا للبيع. وبعدها، ومنذ ما يقرب من نصف قرن، تزايدت الصورة الباهتة للبطل في السينما المصرية، كما جسده أحمد السقا وكريم عبد العزيز وأحمد عز وغيرهم، وقد يشغل هذا الفيلم أو ذاك باله قليلا بأن يذكر لك مهنة البطل، لكنه ينساها تماما بعد ذلك، فكل ما يهتم به هو رسم ملامح بطل "رِوِش" بتعبير الشباب (ربما تغير هذا التعبير الآن، فقد أصبح شباب خمسة عشر عاما مضت كهولا)، وكأن السبعينيات قد عاودت الظهور مرة أخرى، حين لم يعد هناك وجود لمشروع قومي ما، واختلطت المعاني والدلالات، وأصبح الطوفان قريبا، وإن كانت السينما المصرية تفعل المستحيل لكي ينساه المتفرج، ليغرق في أوهام بطولة زائفة، هي أقرب لمفهوم "البطل المضاد"، الذي يحتاج بدوره أن نتوقف عنده قليلا. قد يكون مفاجئا لنا أننا بقدر قليل من التأمل لتاريخ صورة "البطل" في السينما المصرية، سوف نكتشف أنها كانت في أغلب الأحوال صورة باهتة، بينما كانت صورة "البطل المضاد" أكثر قوة ووضوحا، وربما أكثر جاذبية أيضا!! فليس من الغريب على المتفرج أن يرى بطلا ممتثلا للواقع، يرضى بالقليل حتى ينعم بالكثير في نهاية الفيلم، تعبيرا عن حلم مؤجل التحقيق، لكن من المثير بحق أن يكون هناك بطل مضاد، متمرد على الواقع، ويحاول معرفة نقاط الضعف في المجتمع لكي ينفذ منها ويحقق أهدافه، وينتصر في النهاية، وإن كان أحيانا انتصارا بطعم الهزيمة. وإذا تساءلت كيف يمكن لبطل مضاد أن يكون جذابا، فسوف أذكرك على الفور بأفلام فريد شوقي عندما كان لقبه الأثير هو "وحش الشاشة"، لقد كانت تلك هي الخمسينيات التي نؤكد دائما على أنها كانت فترة الميلاد الحقيقي للطبقة الوسطى في المجتمع المصري، فكيف يمكن أن تشهد بطلا متمردا؟ علينا أن نتذكر بعض الحقائق في هذا السياق، أولها أن الفلسفة الاقتصادية لثورة يوليو لم تكن قد تبلورت بعد كما تبلورت في بداية الستينيات، لذلك لم يكن تكافؤ الفرص قد أتى بثماره الكاملة. من جانب آخر فإن البطل المضاد يعبر عن التمرد، وهو تمرد لم يكن مسموحا به قد في المرحلة السابقة، فعندما حاول عماد حمدى بطل "السوق السوداء" في عام 1945 أن يتمرد على المظالم الاجتماعية، تقرر على الفور رفع الفيلم من دور العرض!! قارن ذلك بأفلام "ملك الترسو" (أحد ألقاب فريد شوقي الأخرى)، التي كانت شديدة الجماهيرية. وإذا كان فريد شوقي قد جسد بطلا إيجابيا في "رصيف نمرة 5"، يعمل في سلاح خفر السواحل ليحارب تجار المخدرات، فإنه أيضا قد جسد بطلا مضادا لا يقل جماهيرية في "حميدو"، تاجرا للمخدرات هذه المرة، وإن كان الفيلم يعاقبه بالطبع في النهاية. بعدها استولى الولع على فريد شوقي في تصوير مثل هذه الشخصيات، وإن كان البطل المضاد عنده يمثل شرا أقل وأخلاقيات أكثر بالمقارنة مع شرير آخر كان يجسده دائما محمود المليجي، الذي كان الجمهور ينتظر المعركة الفاصلة بينهما في النهاية، التي لابد أن تنتهي بالطبع لصالح فريد شوقي. قد يكون مهما أيضا التأكيد في هذا السياق على أن صورة هذا البطل المضاد جاءت لأسباب فنية في جانب منها، وهي محاولة السينما المصرية تقديم نمط "الأكشن" بطريقتها التي برع فيها بحق المخرج نيازي مصطفى. لكن هذا البطل المضاد اختفى من السينما المصرية حتى عاود الظهور في صورة كوميدية هذه المرة، بتجسيد عادل إمام. وفي الحقيقة أن القول بأن نجومية عادل إمام تعود إلى موهبته التمثيلية فيه بعض المبالغة، فهو ينقل نفس البطل من فيلم إلى آخر، لكن ذكاءه الحقيقي يكمن في استغلال السياق الاجتماعي، الذي بدا مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات لا يعد بخير للباحثين عن مكان يليق بهم، وأصبح تحقيق الحلم مرهونا بالتسلق على الظروف الظالمة ذاتها. وليس غريبا أن معظم أفلام عادل إمام تمثل رحلة، في المكان أو في الطبقات الاجتماعية، مثلما كانت روايات "الصعاليك" الإنجليزية في القرن الثامن عشر، ويمكنك أن تتأمل "المحفظة معايا" أو "المتسول" أو "الأفوكاتو" أو "شعبان تحت الصفر"، أو حتى "حتى لا يطير الدخان الأكثر قتامة"، لترى بطلا مضادا يعرف من أين تؤكل الكتف، وهو لا يتمرد على الظروف ولكنه يستغلها لصالحه، أي أنه لا يسعى إلى تغييرها بل إلى اللعب بشروطها. ويمكنك أن تلخص رحلة عادل إمام وبطله المضاد معا في أن كلا منهما يلعب دور الفهلوي في السينما وخارجها معا، فهو يدعي العلم بأشياء ليست أبدا في نطاق معارفه، وهو يستخدم حيل "الشطارة" إذا اضطرته الظروف لذلك، ويجيب عن أكثر الأسئلة جدية بما يتصوره خفة ظل حتى لو لم يكن السياق يسمح بذلك، وباختصار فإنه يتقمص شخصية "جحا" مصري معاصر. غير أن عادل إمام كان تجسيد كوميديا نادرا في السينما المصرية للبطل المضاد، بينما ظهرت صور أخرى جادة وقاتمة، وإن كانت ملغزة وملتبسة أحيانا، فما الذي يجسده مثلا نور الشريف بطل فيلم "العار"؟ إنه الابن الذي عاش خلي البال في كنف أبيه ، حتى تقع عليه الصاعقة مع اعتراف الأب وهو على فراش الموت أنه رباهم من تجارة المخدرات، وأن على الابن أن يمضي في عملية تهريب أخيرة وضع فيها الأب كل ثروة الأسرة، وهي حبكة ميلودرامية مصطنعة لا تعبر إلا عن واقع فاسد، وتمنح البطل المضاد اختيارا متعسفا بين خسارة كل شيء أو السباحة في بحر الفساد حتى يفوز بالغنيمة!! لكن أحمد زكي كان الأكثر تعبيرا بحق عن البطل المضاد المعاصر، وربما ساعدته ملامحه المصرية الخالصة، وامتلاكه لموهبة حقيقية في التمثيل، بل أيضا تجربة شخصية لا تخلو من المعاناة، على تجسيد بطل الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، وهو بطل لا ينعم بأي انتصار، بل ربما يلقى مصرعه في النهاية كما في "عيون لا تنام" أو "موعد على العشاء"، أو قد ينتهي به المطاف وراء أسوار السجن كما في "أحلام هند وكاميليا". وقريبا من ذلك البطل المضاد جاء تجسيد يحيى الفخراني في بعض أفلامه القليلة لبطل الطبقة الوسطى، الباحث دون جدوى عن النجاة من الطوفان، ولعل أكثر هذه التجسيدات وضوحا في فيلم "عودة مواطن"، للبطل الذي عاد من الغربة بأمل استعادة لم شمل الأسرة الصغيرة، لكنه اكتشف أن كلا من أفرادها ذهب إلى سبيل خاص به. عاود البطل المضاد الظهور في أفلام متناثرة، لكنها بالغة الدلالة، في الإشارة إلى سياق الانسحاق أمام تغيرات اجتماعية وسياسية جارفة، ففي "المرشد" من بطولة وإنتاج محمود الجندي بطل مضاد لا يجد قوت يومه من عمله اليدوي، فيلجأ للنصب واللصوصية، مما يوقعه فريسه في يد ضابط شرطة يساومه لكي يعمل "مرشدا" يبلغ عن زملائه، وهو ما يعتبره هذا البطل المضاد مهينا للكرامة أكثر من فاقته المالية، فتصبح هزيمة هذا الضابط – بوسائل عديدة – هي حلمه الوحيد الذي يعيش من أجله. أما محمود حميدة في "فارس المدينة" فهو "فارس" من نوع جديد، فارس عالم تهريب العملة والتجارة غير المشروعة فيها، وإذا كان هذا يبدو للوهلة الأولى نوعا من الشر الكريه، فإنك سوف تكتشف أن هناك ما هو أكثر شرا وخطرا بكثير، ليكون على فارس أن يخوض معركة فرضت عليه فرضا، ويخسر كل شيء في النهاية، ولا يكون أمامه خيار سوى أن يبدأ من جديد. أخيرا فإن هناك من جديد بطلا مضادا قد يسهل علينا أن نطلق عليه صفة "الكوميدي"، وإن كان للتهريج أقرب، ذلك هو بطل محمد سعد "لمبي"، الذي لا تدري إن كان أبله أم أنه يدعي البلاهة، وهو شخصية أثارت جدلا كبيرا بين بعض نقاد السينما المصرية، فقد اعتبره جانب منهم ظاهرة تشير إلى "سينما جديدة"، بل ذهب بعض المثقفين إلى أنه البطل الأهم منذ بطل فيلم "العزيمة".... وفي الحقيقة، وكما ترى، فإنه ليس بطلا، بل هو بطل مضاد، إنه لا يتمرد على الواقع، وليست لديه أية أحلام عن تغييره، وهو لا يقاومه وإنما يغيب عنه وسط دخان المخدرات، إنه باختصار أسوأ صور "البطولة" التي قدمتها السينما المصرية، أو أي سينما في كل أنحاء العالم!!