اعتاد الجمهور العربي منذ عامين، على أن يأتي شهر رمضان بمسلسلاته وبرامجه بالكثير من التوتر المغلف بادعاء الترفيه والتسلية، توتر يتراوح بين المقالب التي تخفي الكثير من الأمراض النفسية، والدراما التي تدور عادة حول قصص مغرقة في فواجعها ومفاجآتها. لكن القليل من هذه "الفرجة" الرمضانية هو الذي يتضمن نوعا من الكوميديا، ومن بينها يتفرد مسلسل "الكبير أوي" (بالنطق المصري للهجة العامية) بإثارة ضحك بريء، وربما كان يفتقد العمق الذي قد يأمل فيه الناقد، لكن من المؤكد أنه قد حقق نجاحا جماهيريا في موسميه الماضيين، في الأغلب لأن المتفرجين يبحثون عن لحظة من خلو البال، كأنهم يبحثون عن إبرة في كوم قش، في هذا الزمن الذي يحفل بالكثير من الهموم.
يعتمد "الكبير أوي" على فكرة شهد لها تاريخ الفن عشرات أو ربما مئات التنويعات، وهي فكرة الشبيهين إلى درجة التطابق، لكنها لا تستخدم هنا لحيلة استبدال الواحد منهما بالآخر، ولكن للتناقض بينهما. إنهما العمدة الصعيدي الذي يحمل اسم "الكبير، ويتسم بالخشونة في المظهر وإن كان يخفي تحت السطح رغبة في ممارسة طفولة مفتقدة، أما الآخر فهو "جوني" الأمريكي، وهو شقيق توأم تربى في بلاد الغرب ليصبح الوجه الآخر تماما، وها هو يظهر ليطالب بنصيبه من ميراث أبيه، لكن تحلو له الإقامة في القرية، ليتولد عن ذلك عشرات المفارقات، التي تكشف في العديد من الحلقات عن مزايا كل منهما، مما قد يدعو إلى تكاملهما وليس إلى التنافس بينهما.
يأخذ الجزء الثالث هذه المفارقة إلى مدى أبعد في الحلقات الأولى منه، إذ يظهر أخ ثالث (من أم أخرى)، ويحمل الاسم الغريب حزلقوم (ينطق بالعامية المصرية حزلئوم)، وهو نموذج للشاب العادي تماما، كل ثقافته تأتي من الأغنيات الشائعة، ولا يتوقف عن تقليد المشاهير، وهو في نزقه وطيشه يقع في العديد من المآزق، التي يكون على أخويه إنقاذه منها، لكنهما يسعيان في بعض هذه الحلقات المبكرة للتخلص منه، غير أنه كان يعود دائما لهما غير مدرك لتحايلهما ضده، فهو في الحقيقة يحمل في قلبه قدرا هائلا من طيبة القلب التي لا تقل بحال عن خفته، فهو فطري المشاعر والأفكار، سريع البكاء والصفح، ويقع في الأخطاء رغما عنه ليحاول حلها بمزيد من الأخطاء. وسرعان ما سوف يتخلص منه هذا الجزء من المسلسل، بحجة سفره إلى أمه التي تزوجت في الغربة، ولعله سوف يعود في الحلقات الأخيرة.
من المؤكد أن قدرا كبيرا ممن عبء هذا المسلسل يعتمد على قدرة ممثله (وصاحب فكرته) أحمد مكي على التقليد وتجسيد شخصيات مميزة متنوعة، بما يسمى في فن التمثيل "الكاراكتر"، التي قد لا تكون واقعية إلا في بعض التفاصيل، لكنها في مجملها أقرب إلى شخصيات أفلام "الكارتون" للأطفال، وهو ما ينعكس أيضا على حبكة كل حلقة، في الحلقات المتصلة المنفصلة، فهي حبكة تشبه "النمر" المضحكة، وهي لا تمضي بمنطق يمكنك أن تصدقه في الواقع، لكنك تتقبله باعتباره جزءا من هذا العالم الكوميدي الطريف.
لكن وكما هو الحال في معظم أعمالنا الفنية، انتهى المسلسل في جزئه الثالث إلى أن يصبح استعراض الممثل الواحد، بعد أن كان يحفل بشخصيات عديدة. فقد اختفى على سبيل المثال "توماس" الصديق الأمريكي لجوني، وكان يحمل عبئا دراميا قويا بما يجعل الحكايات تمضي إلى الأمام، لكن اختفاءه هنا (ربما لأسباب إنتاجية) أدى إلى حالة من البطء في تطور الأحداث أحيانا، أو تكرارها في أحيان أخرى. بل إن الأداء الرائع للممثلة دنيا سمير غانم، في دور هدية زوجة الكبير، لم يجد له مساحة كافية، لتتحول الشخصية في معظم الأحيان إلى ظل باهت لا ينقذه إلا براعة الممثلة. كذلك ينطبق الحال على شخصيات أهل القرية، خاصة فزاع (هشام اسماعيل) خفير العمدة، أو هجرس (تُنطق هادريس بلهجة من لهجات الصعيد! ويؤدي الدور محمد سلام)، الذي يقلد الشقيق الأمريكي جوني ويكاد أن يتماهى معه في مفارقات مضحكة. وكانت هناك في حلقات الموسمين الماضيين شخصيات بالغة الطرافة، تظهر أحيانا في بعض النمر، مثل الممرض الذي يدعي أنه طبيب، ويأتي بعائلة خطيبته إلى القرية ليوهمهم بأهميته، ليتضح أن والد الخطيبة ذاته ليس إلا مدعيا يصطنع حكايات وهمية عن بطولاته. وأخيرا كانت هناك مجاميع أهل القرية أنفسهم، الذين كان المسلسل يستخدمهم ببراعة هائلة، كما في تكوين فريق لكرة القدم الأمريكية على سبيل المثال.
لقد اختفى كل ذلك، ولم يبق سوى أداء أحمد مكي في الشخصيتين أو الثلاثة، وهو أداء لا شك في إتقانه، لكن المسلسل هنا افتقد كثيرا من حيويته، التي كان يستمدها من تنوع وتعدد الشخصيات. ومن الحق القول إن مسلسلا كهذا يعتمد ليس فقط على أداء الممثل في شخصيات متناقضة، فذلك يحتاج أيضا إلى قدر كبير من إتقان الحرفة، التي تقتضي الجمع بينهم أحيانا، وهو ما يمكن أن يجد لنفسه حلا قريبا باستخدام "الدوبلير"، أو حتى بالمزج الإلكتروني لصورتين أو أكثر في كادر واحد (هناك لقطات تجمع بين الإخوة الثلاثة في بعض المواقف)، لكن الأكثر تعقيدا هو المونتاج بين واحد منهم والآخر، وهذا ما تحقق ببراعة لا يمكن إنكارها، ويشير إلى رسم الكادرات مسبقا قبل تصويرها، بما يطلق عليه "الديكوباج".
لكن استخدام الحيل السينمائية والتليفزيونية ليس كافيا لتحقيق مسلسل ممتد ناجح، فلابد من أن تحتوي الحبكة على الثقل والتعقيد اللذين يدفعان المتفرج لانتظار طريقة حلها. غير أن معظم "نمر" هذا الجزء تأتي على نحو متوقع سلفا، وهي تعتمد في الأغلب على وصول غرباء إلى القرية، كلهم متشابهون في الأثر حتى لو بدوا مختلفين، فسوف يكون وجودهم مصدرا للتنافس بين الكبير وجوني، اللذين يجدان نفسيهما في النهاية واقفين على أرض واحدة. تأمل على سبيل المثال حلقة هبوط من يدعون أنهم فريق تصوير فيلم ما، وهم في الحقيقة تجار مخدرات، وبينما يتنافس الكبير وجوني على الحصول على دور "البطولة" المزعوم، يتعاونان معا للإيقاع بهذه العصابة، على نحو يذكرك كثيرا بقصص مجلات الأطفال المصورة، مثل "ميكي" و"توم وجيري".
لكن هذه السلبيات لا تخفي أيضا بعض الإيجابيات التي لا يمكن إنكارها، فالمسلسل يخلو تماما من ثرثرة الحوار التي عهدناها في معظم الأعمال التليفزيونية، وهو يقفز في اختصارات عديدة عى ما سبق لنا أن عرفناه. كما أنه يعكس قدرا كبيرا من التأثر بالسينما العالمية وأساليبها، وهو الأمر الذي يمكنك أن تلحظه مثلا في حكاية جوني عن رحلته لاعتناق رياضة اليوجا الروحية، لكن ما نراه على الشاشة يتناقض تماما مع صوته على شريط الصوت، إذ نعرف أنه قد كان في ذلك فاشلا كبيرا. وربما كان الأكثر طرافة هو السخرية من الذات أحيانا، خاصة في حلقة حكاية جوني عن تمثيله في هوليوود لفيلم يدعى "تايتانيك 2"، فإذا بك أمام السبكي أشهر من أنتج الأفلام المصرية الجماهيرية، وقد أصبح مخرجا هوليووديا، يسأل جوني عن مواهبه التمثيلية: "تعرف تهز؟"، في إشارة لنوعية الأفلام التي حفلت بها السينما المصرية مؤخرا.
من الحق القول إن أحمد مكي يملك قدرا غير قليل من الثقافة السينمائية والموسيقية الشائعة (ناهيك عما يمكننا أن نسميه "ثقافة الشارع")، وقدرة لا تنكر على تقمص الشخصيات، لكن هذا لا يكفي لصنع أعمال هي في جوهرها فن جماعي، بينما تتحول هنا إلى أن تكون - في التحليل الأخير - استعراض الممثل الواحد.