لا أحد ينكر أن ظهور المسلسلات التركية على شاشاتنا
الفضائية كان له تأثير كبير، خاصة مع تقنية "الدوبلاج" باللهجة السورية،
فقد بدا أن صناع مسلسلاتنا يكتشفون – وإن لم يكن ذلك حقيقيا - قالب الحلقات الطويلة التي تمتد إلى العشرات أو
حتى المئات، وهي ظاهرة ليست في الواقع جديدة، فقد سبق لمحطاتنا التليفزيونية أن
أذاعت مسلسلات من أمريكا اللاتينية، عرفت باسم "المكسيكية". لكن كان
للدراما التركية سحرها الخاص، خاصة مع تنوع المناظر الطبيعية – السياحية في الأغلب
– حيث تدور العديد من المشاهد، مما حقق للمتفرج متعة بصرية لا يجدها في العادة في
التنويعة المصرية على هذا النوع من الدراما.
تعود ظاهرة المسلسلات ذات الحلقات الممتدة إلى ما يعرف
باسم "أوبرا الصابون" في التليفزيون الأمريكي، والتي بدأت في الإذاعة
برعاية معلنين منتجين للصابون (ومن هنا جاء اسمها)، ثم انتقلت بعد ذلك إلى
التليفزيون، وتوجهت في الأساس لربات البيوت خلال الفترة الصباحية. وكان ذلك سببا
في اكتسابها لسمات خاصة بها تختلف عن بقية أنواع المسلسلاـت، وإن انتقلت بعد ذلك
إلى الفترة المسائية، ومعها نفس الخصائص الأساسية لأوبرا الصابون.
من أهم هذه الخصائص أن تدور حول علاقات عاطفية بالغة
الرومانسية، مع أجواء لأسر متداخلة ومصائر متشابكة، بما يسمح للعديد من الخطوط
الدرامية (أو الميلودرامية إن شئت الدقة) أن تتفرع وتتباعد وتتلاقى، كأنها تتتبع
مصائر الشخصيات التي تقع تحت تأثير تغيرات مفاجئة بين الحين والآخر. إن أردت مثالا
شهيرا على مسلسلات أوبرا الصابون يمكنك أن تجده في "دالاس" أو
"الجريء والجميلات"، اللذين كانا يعتمدان على رسم الشخصيات المتنوعة،
لكنها تنقسم دائما بين أخيار من جانب وأشرار من جانب آخر، وأن تحتوي على الكثير من
المشاهد الحوارية، التي تكشف للمتفرج بين الحين والآخر عن مفاجآت غير متوقعة.
وفي هذا النوع من الدراما، يمكن للحلقات أن تمضي بلا
نهاية، بشرط دقة رسم تفاصيل الشخصيات، والعرض من خلال "مواسم" تسمح
باختفاء شخصيات وظهور أخرى، ليس دائما بسبب الخضوع لمقتضيات الحكاية، بقدر ما هي
أمور إنتاجية، فعندما يضطر أحد الممثلين للغياب المؤقت أو الدائم،
"يخترع" له كاتبو الحلقات سببا يتراوح بين السفر الطويل والموت، ولا بأس
أحيانا من عودته بمفاجأة ميلودرامية أخرى إلى الحياة، إذا عاد هذا الممثل للانضمام
لفريق العمل!!
ونجاح هذه المسلسلات يكمن في جذبها للمتفرج (أو بالأحرى
المتفرجة)، وإثارة الاهتمام بمصائر الشخصيات، التي تتبادل علاقات حب سرية أو من
طرف واحد في أغلب الأحوال، بما يسمح بالكثير من التنهدات والدموع. لكن هناك عنصرا
اجتماعيا مهما آخر يشترك في تحقيق هذا النجاح، هو خلق مزيج من الواقع والخيال،
فالشخصيات تشبهنا إلى حد ما، لكنها تعيش عالما من العواطف النقية التي لا تتحقق
أبدا في الحياة اليومية، وكان ذلك هو سر نجاح واحدة من أوائل التجارب العربية في هذا
المجال، وهو مسلسل "روبي"، الذي يمثل جسرا بين الدارما التركية
والعربية، مع وجود "خلطة" البطلة اللبنانية (سيرين عبد النور) والبطل
المصري (أمير كرارة)، مع السحر الخاص للطبيعة في لبنان، والأجواء التي تسمح بقدر
معقول من التحرر، لكن المسلسل ظل شديد الاقتراب من أجواء أوبرا الصابون، في تناول
علاقات عاطفية متشابكة، يغلب عليها الحرمان والكتمان، ونهايات لم تكن البدايات
تنبئ عنها، ناهيك أيضا عن شخصيات تعاني من أمراض مزمنة، تدفع الدموع في أعين
المتفرجات أنهارا.
ظهرت في الآونة الأخيرة مسلسلات مصرية تحاول أن تحاكي
هذا النمط التلفزيوني الدرامي، خاصة في مسلسلي "آدم وجميلة" و"زي
الورد"، والطريف أنهما من تأليف شخص واحد هو فداء الشندويلي، وإن كان الأول
من إخراج أحمد سمير فرج، والثاني من إخراج سعد هنداوي. في "آدم وجميلة"
حكاية تشبه "الحواديت"، حيث هناك علاقة حب ممتدة من أيام الطفولة بين
آدم (حسن الرداد) وجميلة (يسرا اللوزي)، يتباعدان فيها ويلتقيان بطريقة تغلب عليها
المصادفات، لكن الأغرب أن ينتهز صناع المسلسل الفرصة للمط والتطويل كلما لاحت
الفرصة، فعندما يلتقي البطلان بعد غياب طويل، لا يتعرف آدم على جميلة لكنها تتعرف
عليه دون أن تبوح له، ويشعر هو بعاطفة جارفة من الحب لا يدري لها سببا، ليستغرق
حلقات أخرى في مزيد من البحث عنها!!
يمتد هذا المط والتطويل إلى ظاهرة كادت أن تتحول إلى مرض
في العديد من مسلسلات الدراما التليفزيونية المصرية، وهي الاهتمام بما يسمى
"الزمن الدرامي الضعيف"، فإذا أراد صناع المسلسل الإشارة لوصول شخصية
ما، فهم يتبعونها في السيارة، وبعد النزول منها، والسير مسافات طويلة من أبواب
وردهات، حتى تستقر الشخصية أخيرا في مكان الحدث، وتلك لقطات تستهلك جزءا كبيرا من
الزمن، لكنها جديرة بحق ليس فقط بحذفها في المونتاج، وإنما عدم كتابتها وتمثيلها
أصلا!!
وهنا يكمن عيب خطير في مسلسلاتنا، وهو البطء الشديد
الباعث على الملل، وإن كانت هناك محاولة للتغطية عليه بالكثير من الموسيقى
المؤثرة. إنه البطء الذي تراه هنا مثلا في مشهد بالغ الطول لولادة الأم لطفلتها
جميلة، تتعالى فيه الصرخات والآلام دون أن تدري لذلك دلالة درامية ما. لكن المهم
أن الطفلة سوف تصبح نسخة من أمها عندما تكبر (في توفير نفقات لممثلة تقوم بدور
الأم!)، وتصبح يتيمة الوالدين لتتربى بعيدا عن صديق طفولتها آدم، وتنتقل إلى
الإسكندرية (في فرصة لاستخدام مناظر طبيعية)، لتدور الحلقات التسعون جميعا بعد
آلام الفراق الطويل حول عودة الحب بين البطلين، ولا مانع أيضا من شراكة ناجحة في
عالم "البيزنس"، ومثل "حواديت" الأطفال، يكون المشهد الأخير
لهما وقد "عاشا في التبات والنبات، وأنجبا صبيانا وبنات"!
يتمتع "زي الورد" بفرصة أفضل، لأنه يتضمن عددا
أكبر من الخطوط الدرامية والشخصيات مختلفة المصائر، وإن كان ذلك يتم في نوع من
التلفيق في أغلب الأحوال. وهنا يحاول المخرج سعد هنداوي إضفاء لمسة خاصة، باستخدام
المجاميع والتصوير في الأماكن الواقعية في الريف والأحياء الشعبية، وتناول حياة
الطبقات المتوسطة والفقيرة. لكن "الحدوتة" تقع هنا أيضا في فخ
الميلودرامية الزاعقة، فالبطل علي (يوسف الشريف) ملاكم هاوٍ في الصعيد، يحلم
بالشهرة والانتقال إلى الطبقة الأعلى، ويبدو ساخطا على حياته بطريقة تثير استياء
أمه، التي تفاجئه (وتفاجئنا) وهي تحتضر على فراش الموت بأن الابن علي ليس ابن
الرجل الذي رباه صغيرا، وإنما هو ابن رجل الأعمال (صلاح عبد الله) الذي أغوى الأم
في شبابهما، لأنه كما تشير الدراما زير نساء حتى في شيخوخته.
ينتقل على للعمل لدى أبيه دون أن يفصح عن حقيقته (لن
ندري لماذا!!)، ويستخدمه الأب مثل كل رجال أعمال الدراما التليفزيونية في مهام
مشبوهة، وهنا تتقاطع حياة علي مع البطلة ياسمين (درة)، التي يتزوجها سرا ليصبحا
مطاردين من شقيقها ضابط الشرطة (ولن ندري لماذا أيضا). وتتفرع الحكاية إلى عدد لا
يحصى من علاقات حب – من طرف واحد دائما – بين شخصيات ليس لوجودها أي ضرورة درامية.
أرجو ألا تصدق ما تحاوله بعض هذه المسلسلات من الإشارة
لفساد رجال الأعمال أو ممارسات الشرطة، فهي ليست جادة في ذلك، وأشرار هذه
المسلسلات يمكنهم أن يمارسوا أي عمل آخر دون فرق، لكن لعلك لاحظت واحدة من أهم
سمات هذه الدراما، وهي الفقر الشديد في الكتابة، فهي في الحقيقة يمكن تلخيصها في
نصف ساعة (بدون أدنى مبالغة)، بما يجعلها نوعا من "المقاولات الدرامية"،
لصنع عدد أكبر من الحلقات بنفس الممثلين، مع استعارة المفاجآت الدامية على طريقة
الأفلام الهندية. لذلك فإن هذه المسلسلات تفتقد إلى أهم شروط نجاح الحلقات
الطويلة، وهو القدرة على رسم شخصيات ذات مصداقية جارفة. والمفارقة هنا أن ذلك كان
يتحقق بالفعل منذ سنوات في الدراما التليفزيونية المصرية، مع عديد من المسلسلات
التي كتبها الراحل أسامة أنور عكاشة، الذي اقتفى طريق الروائي العظيم نجيب محفوظ
في ثلاثيته الشهيرة. ولعل دارما عكاشة تحتاج منا إلى إعادة قراءتها المرة بعد
الأخرى، لنعرف كيف نصنع مسلسلات ذات حلقات يمكن أن تمتد بلا نهاية.