ينتاب السينمائيون المصريون بين الحين والآخر أعراض قلق
جارفة، حين تبدو صناعة السينما وكأنها وصلت إلى ما يبدو أنه طريق مسدودة، بسبب
عوامل تختلف من فترة إلى أخرى، فيرتفع صياحهم الصاخب مطالبين "الدولة"
بأن تتدخل لحمايتهم ومساعدتهم، وبجرد أن تزول الأزمة، يعودون إلى الشكوى من أن
الدولة تتدخل بطريقة تعوق حرية إنتاجهم، ويطلبون منها أن ترفع أيديها عنهم!! حدث
هذا عدة مرات، ويحدث الآن، بعدما وصلت صناعة السينما إلى درجة توقف الكثير من
الاستوديوهات والعاملين فيها عن العمل، وسوف تنعقد المؤتمرات، وتتوالى الاقتراحات،
وربما تحدث انفراجة على نحو ما، لكن ذلك كله سوف ينتهي إلى استمرار الصناعة في
مسارها السابق، حتى تطل الأزمة برأسها من جديد.
والسبب؟ هو أن هناك نقاط ضعف جوهرية في بنية السينما
المصرية ذاتها، صناعة وفنا، وتلك للأسف هي النقاط التي لا تتم مواجهتها ومعالجتها
أيا كانت تكاليف هذا العلاج، لكن أي ثمن سوف يكون ضئيلا أمام منح هذه السينما فرصة
حياة متجددة. وسوف يظل التاريخ يذكر كيف أن السينمائيين المصريين عانوا في بداية
الستينيات، بسبب بعض الظروف السياسية التي أدت إلى شبه مقاطعة للأفلام المصرية،
وعندما لجأوا إلى الدولة، واجتمعوا مع الزعيم جمال عبد الناصر نفسه، قرر القائد
تأسيس قطاع عام يرعى أعمالهم إنتاجا وتوزيعا، وكانت تلك من أكثر فترات تاريخ
السينما المصري ازدهارا، لكن بمجرد أن تراجعت الأزمة، اعترض هؤلاء السينمائيون
أنفسهم وقوفهم على وجود القطاع العام وتدخل الدولة، ليعاودوا صنع أفلام السبعينيات
التي كانت من أسوأ فترات هذه الصناعة وأكثرها رداءة!!
ومن هذه التجربة في القطاع العام – التي لم تنجح في خلق
بنية صناعية راسخة لأسباب بيروقراطية، ولأنها أديرت من خلال بعض العاملين في
القطاع الخاص ذاته – يمكنك أن تتأكد أن معظم السينمائيين المصريين لا يسعون إلى
تأسيس صناعة حقيقية، وإنما مجرد خلق فرص للكسب السريع، بأي شروط ممكنة في المدى
القصير. وإذا اقتربنا من أزمة السينما المصرية في الآونة الأخيرة، فإن معظم شكاوى
صناعها جاءت مركزة على "القرصنة" التي لا تتيح لهم كسب ما يعوضون به
تكاليف الإنتاج، أو رداءة دور العرض بما لا يشجع قطاعا كبيرا ومهما من الجمهور
للذهاب إلى مشاهدة الأفلام.... لكن لم يتحدث أحد مثلا عن ارتفاع أجور النجوم بشكل مفرط،
بحيث تبتلع جزءا كبيرا من ميزانيات الإنتاج، دون أن ينعكس ذلك على جودة الإنتاج
ذاته، كما لم يتحدثوا عن "الاحتكار"، الذي يجعل معظم دور العرض مملوكة
لموزعي الأفلام أنفسهم، مما يعطيهم سلطة مطلقة على اختيار أفلام وإهمال أفلام
أخرى. لم يتحدث صناع السينما عن هاتين النقطتين وغيرهما، لأن مواجهتها بواسطة
الدولة سوف تحرم الكبار منهم من مزايا لا يرضون بالتنازل عنها لصالح السينما!
وفي الحقيقة أن تلك النقاط وحدها ليست أيضا سبب الأزمة،
فيمكنك أن تتعقب أسبابا أخرى قد تبدو بعيدة، لكنها ذات تأثير كبير. وربما كان
أولاها هو تقلص ميزانية الأسرة المصرية التي تخصصها للإنفاق على الترفيه، وهو ما
يجعل هذه الأسرة تنتظر حتى عرض الأفلام في التليفزيون. وقد تجد سببا آخر في تدني مستوى
الأفلام وظروف عرضها في معظم دور العرض، حتى أن هذه الأخيرة أصبحت تندرج تحت
"سينما الترسو" بصرف النظر عن مظهرها، ومرة أخرى سوف تحجم الأسر من
الطبقة الوسطى عن الانخراط في هذه الأجواء. وقد ترتب على ذلك أن الأفلام ذاتها
باتت تتوجه إلى "جمهور الترسو" فقط، وأصبح من سمات الفيلم المصري وجود
مشاهد ثابتة تنتقل من فيلم إلى آخر، مثل نمر الأغاني الصاخبة والأفراح الشعبية،
التي تشترك هذه النوعية من الجمهور في الصخب معها خلال العرض!
ولأننا نعشق اختراع العجلة من جديد، فإننا لا نتعلم من
تجارب صناعات السينما التي عاشت ظروفا مماثلة وواجهتها، لتصبح من أقوى صناعات السينما
في العالم وأكثرها رسوخا. فقد كانت دور العرض الأمريكية في الفترة المبكرة تقتصر
على درجة "الترسو"، فيما سمي آنذاك باسم "النيكلوديون" (أي
دار العرض التي تدخلها بنيكل واحد)، وتدخلت الدولة بإغلاق هذه الدور واحدة بعد
الأخرى، لتقوم الصناعة بتحسين مستوى دور العرض، التي تحولت خلال عقد واحد إلى ما
أطلق عليه "قصور السينما الفاخرة"، التي جذبت جماهير الطبقة الوسطى
فتدفقت عليها بأعداد هائلة، أعادت الانتعاش للصناعة من جديد.
وفي واحدة من أشهر القضايا الأمريكية، أقامت الدولة
ذاتها دعوى قضائية عرفت باسم "قضية باراماونت"، ومضى سير القضية أعواما
حتى صدر الحكم فيها في الأربعينيات، وكانت القضية متعلقة بإلزام الشركات التي تنتج
الأفلام بعدم امتلاك سلاسل توزيع أو دور عرض، لأن ذلك يمنحها سلطة احتكار تعوق
الصناعة ولا تشجعها. فهل يقبل السينمائيون المصريون بمثل هذه الحلول من جانب
الدولة: أن تفرض الدولة شروطا معينة لدور العرض وظروف المشاهدة، وأن تنكسر الحلقات
الاحتكارية التي تكاد أن تخنق السينما المصرية؟
ذلك جانب مهم من القضية، أن يقبل صناع السينما أنفسهم
بتنظيم الصناعة وليس مجرد تسهيل أمورهم، فقد كانت الرؤى قصيرة النظر، التي تسعى
للربح السريع وحده، وراء الأزمة دائما. وهذه الرؤى هي التي تجعل البعض يأتون من
خارج صناعة السينما ليجربوا حظهم في اغتنام الأرباح، وعندما تتقلص هذه الأرباح
يهربون إلى صناعة أو تجارة أخرى، وهو ما يبدو لك واضحا إذا ما تتبعت أسماء
العاملين في إنتاج الأفلام المصرية، فنادرا ما تجد شركة تستمر أكثر من عشر سنوات،
أو أن تجد لها أسلوبا فنيا تتميز به، ليكون قدر السينما المصرية أن تبدأ دائما
المرة بعد الأخرى مع مغامرين جدد، يستحوذون على الإنتاج ودور العرض، لتعاود الأزمة
دورتها.
لقد كان السعي إلى الربح السريع وحده وراء تناقص هائل في
عدد دور العرض، فأغلق العديد منها أبوابه أو هدم لبناء أنشطة أخرى، بينما كان من
المفترض أن تزيد مع تزايد عدد السكان، وأن تنتشر مع اتساع رقعة العمران. كما أنه
السبب في ظاهرة "المواسم" السينمائية المحدودة، بدلا من تغطية العام كله
بأفلام تناسب ذوق الجمهور مع اختلاف الزمان والمكان، ولعلك تتذكر كيف أن مفهوم
"أفلام الصيف" كان مسيطرا على الصناعة تجارة وفنا، وكيف ظهرت ظاهرة أطلق
عليها أيامها "المضحكون الجدد"
.
تلك هي بعض مظاهر الأزمة، التي هي في جوهرها انعكاس
لمفهوم "السوق" الذي يفهم منه صناع أفلامنا أكثر وجوهه بدائية، متمثلا
في الكسب السريع، لكن عندما تأتي إلى ما يجب صنعه إزاء ضبط هذه السوق فسوف يظهرون
أنيابهم. هذه هي الأزمة الحقيقية، أننا نأخذ من الأنظمة (في الاقتصاد أو السياسة
على السواء) جوانب انتقائية من هنا وهناك، دون أن نأخذ جوهرها أو نتعلم من تجاربها
السلبية والإيجابية. وبداية الخروج من هذه الأزمة هو الإجابة عن سؤال بسيط وصعب في
آن: لمن نصنع الأفلام؟ ولماذا؟