الاقتباس في حد ذاته ليس عيبا، فقد كانت مسرحيات كتاب الإغريق القدامى – التى قامت الدراما بنوعيها الكوميدي والمأساوي على أساسها – تنويعات على أفكار وأساطير وملاحم مكررة، كما أن مسرحيات شكسبير العظيمة ليست إلا صياغة جديدة لقصص قديمة عن بلوتارك وبوكاشيو، ولوحات الفن التشكيلي التي يفخر بها تاريخ الحضارة الإنسانية تدور حول "التيمات" ذاتها، لأن الفن ليس هو "الموضوع"، بل هو الشكل الجديد الذي يريد به الفنان أن يقول جديدا حول موضوع قديم.
ليس عيبا إذن أن يبدو مسلسل عادل إمام الأخير "فرقة ناجي عطا الله" مقتبسا، يقول البعض أنه عن أفلام مثل "العظماء السبعة"، لكن الحقيقة أنه مقتبس عن فيلم "عصابة أوشان" بجزأيه، حتى أن هناك لقطات "مسروقة" مباشرة من هذا الفيلم الأخير، مثل لقطة أشعة الليزر وهي تغطي تماما مكانا يفترض التسلل إليه. نكرر أن الاقتباس ليس هو القضية، وإنما هي ما الذي يدفعك لهذا الاقتباس، هل لديك معالجة جديدة تضيف بها للفن الدرامي، السينمائي منه والتليفزيوني، أم أن المسألة وراءها دافع آخر؟!
دعنا في البداية نسترجع القليل عن "عصابة أوشان"، التي تحكي عن لص خرج من السجن لتوه، بعد أن دخله بسبب وشاية لص منافس، لينجح هذا الأخير في اعتلاء عرش صالات القمار في لاس فيجاس، كما يسرق لنفسه حبيبة البطل السابقة بعد إيهامها أن حبيبها لا يستحق حبها. يخرج إذن "بطلنا" لينتقم، وهو لا يريد أن يستعيد محبوبته فقط، لكنه يسعى أيضا لسرقة كل أموال منافسه الموضوعة في خزانة محكمة بنظام أمان خارق، فيلجأ إلى تكوين "عصابة"، مؤلفة من أناس ذوي مواهب مختلفة، فمنهم المتخصص في المتفجرات، أو صاحب القوة البدنية الخاصة، أو عبقري الكومبيوتر، أو البارع في تقمص الشخصيات، ومن هذا الفريق يمضي البطل نحو هدفه، يقترب منه أحيانا ويبتعد أحيانا أخرى.
إذا تأملت الطريقة التي تم بها تنفيذ فيلم "عصابة أوشان"، لأدركت أنه لم يكن بالنسبة لصناعه إلا استمتاعا بلعبة أرادوا إشراك الجمهور فيها، وبرغم أن الفيلم يحمل اسم البطل الذي قام بدوره جورج كلوني، فإنه كان موجودا على قدم المساواة مع كل الممثلين الآخرين (منهم براد بيت ومات ديمون)، كما أن المخرج ستيفن سوديربيرج استخدم علامته المميزة، في الكاميرا الحرة المحمولة على اليد، والمونتاج السريع، ليضفي حيوية على المعالجة. وإذا كان لك أن تصرف النظر عن كون "البطل" لصا ظريفا يُفترض أن نتوحد معه ضد لص آخر شرير (والمجرمون أحيانا أبطال في السينما الأمريكية)، فإن مثل هذه التيمة لا يمكن "زرعها" في سياق خاص بنا، لكن كان لعادل إمام رأي آخر.
لعلك لاحظت أننا ننسب المسلسل لعادل إمام وليس لمؤلفه يوسف معاطي ومخرجه رامي إمام، وأعتقد أنك لابد تعرف السبب، فحتى لو كان معاطي هو الذي اقترح على عادل إمام اقتباس هذه التيمة، فقد كان عامل جذبه الرئيسي هو تلك الصورة التي تخيلها لنفسه حتى قبل بداية التنفيذ: إنه "الزعيم" الذي يناديه الجميع بلقب "باشا"، وهو الآمر الناهي وسط مجموعة من الرجال، وهو ذو الدم الخفيف الذي يسترسل أحيانا في إلقاء النكات، لكنه العبقري الذي يرسم الخطط المذهلة لحل أصعب المشكلات.
رأى عادل إمام إذن أن التيمة تحقق له "البرواز" الأضخم من الواقع الذي يريده لنفسه، لكن "ما زاد وغطى" كما يقول المصريون هو أن يجعل ساحة الجريمة وهدفها هي .... بنك إسرائيلي!!! لماذا؟ لأنه يريد لهذه التيمة التي لا تتلاءم مع العقلية العربية أن تختفي وراء ستار من نزعة وطنية مزيفة!! تبدأ الحلقات إذن بعادل إمام، الذي يحمل اسم ناجي عطا الله، وهو يعمل ملحقا إداريا في سفارة مصر في تل أبيب، وليست لهذه الشخصية أي تاريخ سوى جملتين أو ثلاث في الحوار فقط، ولن تجد لها أثرا في الدراما: إنه ضابط جيش متقاعد، وصاحب علاقات واسعة حتى في إسرائيل، وهنا يزرع لنا المسلسل شخصية مناقضة لكي يبين لنا فلسفة البطل ناجي: هناك موظف مصري جديد يحمل اسم جمال عبد الناصر، كاره لانتقاله إلى دولة العدو، لكن بطلنا – ابن عصر السلام الاسترتيجي المزعوم – ينصحه بالتروي والحكمة لأنه أمر مفروض علينا، ويعرض له طرفا من طريقته في النضال، أن يلقي النكات الساخرة من اليهود على أصدقائه من الإسرائيليين فينفجروا ضاحكين!!
لا أدري إن كان عادل إمام وصناع المسلسل يعرفون أنه أمام كل نكتة ساخرة من اليهود، لابد أن لديهم عشر نكات ساخرة من العرب، ناهيك عن أن معركتنا لم تكن ولن تكون مع اليهود، بل مع الصهاينة سارقي الأرض العربية. وفي مزيد من الافتعال وادعاء العمق، يقول لك المسلسل أيضا أن اليهود الشرقيين والغربيين يكرهون بعضهم البعض، لكن ما لا يقوله أن العرب وحدهم هم الذين يدفعون ثمن هذه الكراهية!!
بعد هذه المقدمة "الوطنية" الزائفة، تبدأ تيمة "عصابة أوشان"، إن بنكا إسرائيليا على أعلى مستوى من درجات الأمان يحتجز رصيد البطل ناجي، فما العمل؟ سرقة البنك كله!!! كيف؟ بتجميع فريق عصابي من ستة أفراد، كل منهم له تخصصه (وإن كان الأب عادل يحتجز لابنه محمد نصيب الشاب خفيف الظل، دون جدوى!)، وهنا تأتي المسلسل فرصة المط والتطويل، فيتوقف مع كل شخصية حلقة كاملة، دون أن يكون لذلك أدنى حاجة، فإليك هذه الشخصيات في سطور قليلة: محمد عادل إمام خريج الدراسات العبرية والذي يستخف دمه مع أي فتاة يقابلها، وأحمد السعدني بطل الوثب الطويل الذي سوف يكون عليه القفز بين سطحي عمارتين، ومحمود البزاوي متخصص المتفجرات الذي سوف يصنع قنبلة صوتية لإلهاء الشرطة عن التسلل للبنك، ونضال الشافعي البارع في كسر القضبان الحديدية، وأحمد التهامي العملاق حامل الأثقال، وأخيرا عمرو رمزي أخصائي الشفرات الكومبيوترية.
في سطحية ونمطية هائلتين ليستا غريبتين عليه يرسم يوسف معاطي الشخصيات، كما يبدو إخراج رامي إمام كسولا رتيبا إلى درجة الملل، وهناك موسيقى لا تتوقف، وبلادة في أداء الممثلين، وبطء غير عادي في الإيقاع برغم ما يفترض من تشويق التيمة الأصلية. نحن مثلا إذا انتقلت هذه الشخصيات من مكان إلى مكان، نركب معهم السيارة، ونظل معهم في رحلة يمكن – بل لابد من – حذفها، لأنها تعبر عن زمن درامي ضعيف، لكن مثل هذه القواعد البدهية في الدراما لا اعتبار لها، إذا كان الهدف الأساسي هو أن تصنع ثلاثين حلقة لعادل إمام في موضوع لا يستحق أقل من الساعتين، حتى يمكنك أن تجذب قدرا أكبر من أموال الإعلانات والمعلنين.
قد تستطيع أن تغفر أي شيء في الأعمال الفنية التي تهدف إلى الربح قبل أي شيء، لكن ما لا يمكنك غفرانه هو أن تخلط أوراق التسلية والهزل بالقضايا الوطنية. لقد أصبحت فلسطين في هذا المسلسل مجرد خلفية باهتة زائفة، ومحض عبارات مكررة كادت من فرط تكرارها أن تخلو من المعنى. هل من المصادفات مثلا أن يصبح موضوع الخلاف بين فتح وحماس مصدرا "لإفيهات" عادل إمام؟ وهل من غير المقصود إظهار هذا البطل أكثر خفة ظل ولماحية وفطنة من أي شخص فلسطيني؟
أيها الفنانون المصريون من جيل أصبح أقرب للإفلاس، لأنه توقف بإرادته عن الإبداع: اقتبسوا ما تشاءون، لكن لا تخلطوا الأوراق على هذا النحو الفادح الفاضح، وإن كنا نعجز الآن عن اتخاذ موقف وطني قوي، فلا داعي لأن نتحول بهذا الموقف إلى الهزل والهزال!!