تعكس نوعية البرامج والمسلسلات التليفزيونية السائدة في فترة ما، نوعا من المزاج العام والذوق الجماعي، فلا يمكن مثلا أن يدعو مسلسل إلى السعادة والاستمتاع بالحياة بينما الناس يعيشون في ضنك بالغ، كما أنه لا يمكنك أن تطلب من الجمهور أن يمارس التسامح بينما كل شيء في المحيط الذي يعيش فيه يدعو إلى التعصب. ومن الصعب أن نحدد بشكل واضح ويقيني إذا ما كانت برامج ومسلسلات التسلية انعكاسا للواقع فقط، أم أنها هي التي تؤثر في هذا الواقع، والأغلب أن فيها العنصرين معا: إنها تحث المتفرج على سلوكيات ما، يكون لديه استعداد لممارستها.
لكن ما يحار فيه المرء بحق هو هذا التكاثر الغريب لما يسمى "برامج المقالب"، التي تجتمع أيا كان شكلها على شيء واحد، هناك ضيف سوف يتحول إلى "ضحية" دون أن يدري (ولعل بعضهم يدري، ويمثل دور الضحية)، وسوف يتعرض لأقصى وأقسى أنواع التعذيب أو المهانة، وبالطبع فإن هناك رد فعل واحدا: الخوف خلال الموقف، والغضب بعد أن يدرك المقلب. والمطلوب منا نحن الجمهور أن نضحك من خوفه ورعبه، ونسخر من غضبه، وهو ما يشبه إلى حد ما أدنى أنواع الضحك على الإطلاق، كأن تضحك مثلا على رجل يتزحلق في قشرة موز، أو امرأة تسقط في بركة أوحال!
ما الذي يدفعنا إلى الضحك في مثل هذه المواقف السخيفة؟ سوف نؤجل الرد حتى نلقي نظرة على بعض هذه البرامج، التي انهمرت علينا كالمطر بمناسبة المهرجان التليفزيوني السنوي، الذي يبدو بديلا لاحتفالاتنا الشعبية القديمة بهذا الشهر الكريم، غير أننا كنا في الماضي شركاء في الألعاب، بينما نحن الآن مجرد متفرجين مرغمين عليها.
تأمل على سبيل المثال برنامجا يحمل اسم "الساحر"، المفترض أنه يدور في "سيرك"، بينما أحد الحواة يقدم ألعابه التي يستخدم فيها "خفة اليد"، أو بعض الحيل الآلية الخفية. وبعد أن يستمتع الجمهور، الذي يغلب عليه الأطفال، يأتي دور النمرة "المقلب"، فالساحر يختار طفلا يصحبه والده للاشتراك في لعبة الاختفاء في الصندوق، حيث يفترض أن يختفي الطفل مرة (في غرفة أسفل الصندوق بالطبع) ثم يعود للظهور. والمقلب هنا هو أن الساحر يدعي عجزه عن استعادة الطفل، ليأتي الأب أو الأم أو كلاهما ليمسكا بخناقه، وقد استولى عليهما "الرعب" بالمعنى الحرفي للكلمة، من أن يكون الطفل قد تعرض لنوع ما من الإيذاء. وبعد أن "نستمتع" قليلا بالفرجة على الوالدين الخائفين، وربما أيضا بعض اللكمات التي يوجهانها للساحر، يظهر الطفل محمولا على "حصان بشري"، ويتعالى التصفيق، على ماذا لا ندري على وجه التحديد!
ويصل الرعب إلى مستويات جديدة مع برنامج "في الهوا سوا"، الذي يعتمد باختصار على أن يتوقف "تليفريك" في الهواء، بينما يكون الضيف الضحية حبيسا مع حيوان مفترس!! وهنا يأتي دور الممثل "الكوميدي" إدوار الذي يقدم البرنامج ويصحب الضيف في رحلته، فهو يزيد من جرعة الرعب المجاني بادعاء أن الحيوان على وشك الهجوم، ولا ندري أيضا ماذا يمكن أن تنتظر من أي إنسان في مثل هذا الموقف، سوى أن يستولى عليه الخوف على حياته؟ لكن "ما زاد وغطى" باستخدام التعبير المصري الدارج، هو انتظام الممثل رامز جلال كل عام في تقديم برنامج، أقل ما يوصف به هو السخافة، وهو في عامنا هذا يدعى "رامز عنخ آمون"، وتقوم فكرته على استضافة ممثل أو ممثلة للقيام بجولة سياحية مصورة، بادعاء أنها مساهمة في تنشيط السياحة في مصر، ليمضي الضيف الضحية في دهاليز تزداد ضيقا، بينما يراقبه رامز من أمام كاميرات المراقبة، ليلقي بين الحين والآخر سخرياته من الضيف وخوفه الطبيعي، غير أن الأمر يصل إلى حالة تثير "القرف" حقا، عندما يتم إغلاق حجرة ضيقة تحت الأرض على الضيف، تخرج له فيها الثعابين والخفافيش من بين الشقوق، ويبدو أن مومياء محنطة كأنها دبت فيها الحياة.
لا تستغرب بالطبع في هذه الحالات جميعا أن تنتاب الضحية كل مشاعر الفزع والرعب، أو ربما يصاب أيضا بالإغماء، لكن مقدم البرنامج رامز جلال لا يتوقف عن السخرية والضحك! لكن مشاعر الضحية تتحول في برامج أخرى إلى السخط نتيجة الإهانة، ففي "فلفل شطة" هناك مسابقة مزعومة بين ضيفة وممثلة مغمورة تقوم بدور المنافسة، أما موضوع المسابقة فهو "طهي الطعام"، لكن ممثلة دور المنافسة تتعمد إثارة الضيفة بتعليقات خارجة على المألوف، يتعلق معظمها بذوق الملابس والماكياج وما إلى ذلك من أمور "نسائية"، وتظل تلك التعليقات تتصاعد حتى تصل إلى درجة الإهانة، والمطلوب منا أن نراقب الضحية، هل سوف تنتقم لكرامتها، أم تنسحب في هدوء؟
وإذا كانت الإهانة هنا موجهة لسيدة من عامة المتفرجين، فإن برنامج "من غير زعل" يوجه سخافاته إلى واحد من المشاهير، ويعتمد البرنامج على اثنين من المقدمين: المغني الشعبي سعد الصغير، والمذيعة الممثلة ريهام سعيد، والسر في ذلك هو أنهما سوف يتبادلان الأدوار، فإذا كان الضيف رجلا يقوم سعد الصغير بدور المنافس الذي يكيل له الإهانات، التي تتصاعد رويدا حتى تصل إلى ذروة، بينما تلعب ريهام سعيد هذا الدور في حالة إذا ما كان الضيف سيدة، مستغلة أيضا مشاعر الغيرة "الحريمي"!! وبعد أن يتحمل الضيف هذه الإهانات، يصارحانه أن الأمر كان مجرد "مقلب"، ويتبادلون جميعا الأحضان والقبلات، بعد أن كانوا من دقيقة واحدة يتبادلون الشتائم وربما اللكمات!!
لعلك قد لاحظت في كل البرامج السابقة أنها تخلو من أي بعد جاد، لكن مهلا، فهناك برنامج مقالب آخر يدعي أن له بعدا سياسيا (!!)، هو "يا ثورة ما تمت"، ويعتمد على استضافة ضيف من أحد أطياف السياسة في مصر، بينما يقوم ممثل مغمور بلعب دور صاحب الاتجاه السياسي المضاد. لكن هدف البرنامج ليس إثارة الأفكار كما قد تتصور للوهلة الأولى، بل إثارة الرعب، فبعد أن يحتدم الجدال بين الطرفين، يقتحم الاستوديو فجأة مجموعة من "البلطجية"، يرغمون الضيف على التوقيع على موقف يناقض مبادئه. ومرة أخرى، ماذا يمكن أن تنتظر من إنسان أن يفعل، وقد فاجأته هذه المجموعة التي تهدد بالعنف؟ كما أن الانطباع الذي قد يبقى في لا وعي المتفرج أن كلا من الموقفين السياسيين ليس في حقيقته إلا نوعا من البلطجة التي لا تستند إلى أي حق أو حقيقة.
عبثا تحاول أن تجد "مضمونا" من أي نوع لكل هذه البرامج دون استثناء، لكن لها "تأثيرا" ما في المتفرج بطبيعة الحال. إنها جميع تقوم على مفهوم "التلصص"، كأنك تنظر على شخص ما من ثقب الباب، وهو غير واع أن هناك من يراقبه، لأنه هنا يتصرف بشكل تلقائي تجاه موقف نعرف نحن (بينما لا يعرف هو) أنه موقف زائف مفتعل. وإذا كان التلصص في بعض الأحوال مفيدا لدراسة سلوك الناس وهي على طبيعتها، فإنه في أغلب الأحوال يكون تجسيدا لمرض نفسي يعاني منه الشخص الذي يقوم بالتلصص، وهذا ما تقوم به للأسف هذه البرامج مع جمهورها، أن تزيد هذا المرض عمقا، وتضفي عليه مشروعية، بحجة الضحك!!
لكن الضحك الصحي بالفعل هو ذلك الذي يجعلنا نضحك من عيوبنا ونقاط ضعفنا، عندما نراها في الكوميديا الراقية متجسدة في شخص آخر، أما عندما نضحك لأن شخصا غيرنا أصيب بمكروه، ونستمتع كلما زادت أزمته أو خوفه أو إهانته، فهذا ليس إلا تأكيدا على مشاعر العدوانية التي تثيرها هذه البرامج، وتصل إلى درجة الإصابة بمرض "السادية"، الذي لا علاقة له بالترفيه أو التسلية، وإنما يحتاج إلى الذهب فورا إلى طبيب نفسي بحثا عن علاج!!