بين النهاية
المرحة السعيدة لأفلام عبد الحليم حافظ ، والنهاية المتشائمة الحزينة لأفلام أحمد
زكى، فارق هائل بين عصرين كأنهما ينتميان لعالمين مختلفين تماما، ومع ذلك فإن هناك
بين النهايتين والعصرين والعالمين صلة عميقة، تتجلى فى تلك الغلالة من الشجن
والحزن التى تلفهما، وتعبر دائما عن شوق عارم للحياة وحرب ضارية ضد الموت، بالمعنى
الحقيقى والمجازى معا. هذا هو الخيط الرقيق الدقيق الذى لا يكاد يرى ـ وإن يكن
قويا بحق ـ بين صورة النجم عبد الحليم والنجم أحمد زكى، قد يرى البعض أنه تجمعهما
بعض الملامح الظاهرية لكن الحقيقة أن الذى يجمعهما هو التجربة المشتركة، ولعل هذا
هو السبب فى أن صناع فيلم "حليم" الذى لم يعرض بعد اختاروا أحمد زكى
بطلا له برغم ـ أو بسبب؟! ـ مرضه الشديد خلال مرحلة التصوير، حتى أنه لن يرى كيف
استطاع أن يجسد عبد الحليم لأنه رحل عن عالمنا.
على السطح
فإنه يمكنك أن تجد فى التجربة المشتركة بينهما نفس الظروف التى تجمعهما مع ملايين
المصريين فى آلاف القرى المصرية الصغيرة : الواقع الاقتصادى الصعب، ومحنة فقد أحد
الوالدين أو كليهما، ورحلة المعاناة الطويلة للبحث عن مكان تحت الشمس، لكن ماكان
يفرقهما عن غيرهما فهو ذلك الإيمان الذى لا يتزعزع بأن الله أعطى كلا منهما موهبة
يجب الحفاظ عليها وصقلها واستغلالها حتى الرمق الأخير، فلا تبقى فى الكأس قطرة
واحدة من الموهبة لم يرتشفها ويذق حلاوتها ومرارتها.
فى الجانب
الآخر، تستطيع أيضا أن تستفيض فيما يجمعهما من قسمات الوجه المجهد والعينين
الذابلتين وإن كانتا تفيضان بالحياة، لكن البصمة التى تركها عبد الحليم وأحمد زكى
لا تتوقف أبدا عند تلك الجوانب من حياة وملامح كل منهما، فالأهم هو أن تجربتهما فى
عالم الفن استطاعت أن تعبر عن بطلين من زمانين مختلفين، القاسم المشترك بينهما هو
"الصدق" فى هذا التعبير، لكن ماأبعد الفرق بين بطل وآخر، مات الأول ماديا
ومعنويا لأنه عانى من الانكسار بعد الانتصار، بينما مات الثانى لأنهم لم يمنحوه فرصة
الفرحة بالنجاح الذى حققه، بل سرقوه منه وأعطوه كابوسا لا ينتهى ومايزال يجثم على
الصدور.
عندما ظهر عبد
الحليم فى الخمسينات كانت مصر والوطن العربى كله فى حالة بحث عن الهوية، بحث عن
المستقبل دون فقدان للماضى، وكما كان هذا العصر يمثل على المستوى السياسى جسرا بين
مرحلة وأخرى، كان صوت عبد الحليم هو الجسر بين كلاسيكية محمد عبد الوهاب وفريد
الأطرش، وشعبية وتلقائية محمد فوزى وعبد العزيز محمود، لذلك لم يكن غريبا أن يتسم
أداء عبد الحليم بالرصانة والسهولة معا، كما كانت صورته على الشاشة تمثل شباب
الطبقة المتوسطة الذى يحلم، ويجد بين يديه أدوات تحقيق حلمه، بأن يحقق ذاته. ولم
يكن غريبا أيضا أن تجد فى بعض أفلام عبد الحليم ملامح ولمحات من حياته الشخصية،
فبين "لحن الوفاء" (1955) لابراهيم عمارة و"شارع الحب" (1958)
لعز الدين ذو الفقار، تتردد سمات الطفل اليتيم الذى عاش طفولة بائسة، والشاب
المكافح الذى يبذل كل ما يستطيع لكى يحقق المجد والشهرة. وبرغم أن هذه الأفلام لا
تخلو من التوليفة الميلودرامية الغنائية التقليدية، فإنها صنعت بطلا له ملامح
جديدة، والمفارقة هنا أن هذه الملامح كانت بسبب عدم امتلاك عبد الحليم لدقائق
"حرفة" التمثيل، فكانت التلقائية والصدق هما مفتاح نجاحه الحقيقى، فهو
كأبناء الطبقة المتوسطة يعوض قلة الخبرة بالجهد الفائق.
أرجو أن تتأمل
على سبيل المثال كيف عبر عبد الحليم عن نموذج "الطالب" فى "الوسادة
الخالية" (1956) الذى لم يفقد فيه مخرجه صلاح أبو سيف اهتمامه بالتفاصيل
الحية، فأتى الفيلم نموذجا نادرا من الرومانسية والواقعية، فى تلك التيمة التى
تتحدث عن الحب الأول الذى قد يستحوذ على الفتى على نحو نبيل حزين، غير أن الحياة
التى تسفر عن جديد كل يوم تفتح أمام البشر دروبا يبلغون بها نضجهم العاطفى،
ولتتأمل أيضا تلك المشاهد التى تجمع بين بطل عبد الحليم وأبيه (عبد الوارث عسر)
الذى يضع أمام الابن حقائق الحياة بقدر عميق من البساطة والشجن.
كانت رومانسية
عبد الحليم وواقعيته هما رومانسية وواقعية ذلك الزمن وطبقته الوسطى، بينما أتى بطل
أحمد زكى الذى ظهر فى نهاية السبعينات تعبيرا عن أن أحلام الطبقة الوسطى باتت قبض
الريح، تحت تأثير متغيرات داخلية وخارجية عاصفة. كانت حواديت عبد الحليم تبدأ
بالأسى وتنتهى بالفرح، بينما كانت حواديت أحمد زكى تمضى فى الاتجاه المعاكس، خاصة
أن أحمد زكى كان بتكوينه الجسمانى والنفسى مرشحا منذ البداية لأن يعبر عن صورة
"المقهورين"، سواء هؤلاء القادمين من الحضيض ليحاولوا خوض رحلة الصعود
الاجتماعى لكن سعيهم ينتهى إلى الفشل، أو أبناء الطبقة الوسطى الذين أصبحوا عاجزين
عن تحقيق أحلامهم، أو حتى المثقفين الضائعين التائهين فى زحام الحياة. وفى فيلمين
مبكرين لأحمد زكى ترى هذه الصورة من القهر، ففى "شفيقة ومتولى" (1978)
يذهب متولى ليعمل بالسخرة فى حفر قناة السويس، ويترك أخته شفيقة بلا عائل يحميها
من نهش الرجال الذئاب، وعندما يعود يكون عليه أن يصبح قاتلا للأخت لكى يحافظ على
القانون "الأخلاقى" لمجتمع لم يضع فى منظومته الأخلاقية مكانا لهؤلاء
المقهورين. وفى "اسكندرية ليه" (1979) ليوسف شاهين يدفع الفتى الفقير
ابراهيم وحده ضريبة العمل السياسى، بينما ينعم الأثرياء بالحياة فى تحلل وفساد
كاملين، ليسأله محاميه الطيب العجوز (محمود المليجى) فى سخرية مريرة :
"وعايزنى أكسبها؟!".
عشرات الأفلام
سوف تجسد تنويعات على هذه الصورة، مثل "موعد على العشاء" (1981) لمحمد
خان، الذى نرى فيه أحمد زكى فى صورة الحلاق البسيط الذى يحاول أن يجد لقصة حبه
الصادق نهاية سعيدة لكن الأثرياء يقتلونه بقسوة لا تعرف الرحمة، وفى "العوامة
70" لخيرى بشارة جسد دور المخرج التسجيلى الذى يرى الفساد أمام عينيه لكنه
ينتهى إلى شعور قاهر بالعجز عن أن ينطق بالحقيقة التى يعلمها، وفى "الحب فوق
هضبة الهرم" (1986) لعاطف الطيب يصور عجز ابن الطبقة المتوسطة عن أن يجد
مكانا يأويه وحبيبته التى تزوجها، وفى "الهروب" (1991) لعاطف الطيب يجسد
بطلا مأساويا حاول أن يعيش بكرامته فى مجتمع ليس فيه مكان إلا للثروة أو النفوذ.
لكن أرجو أن تتأمل صورتين متناقضتين له فى "البرىء" (1986) لعاطف الطيب
و"زوجة رجل مهم" (1988) لمحمد خان، بين الجندى الأمى الريفى الساذج،
والضابط القاسى المتسلط ، ففى الفيلمين دفاع حار عن كرامة الإنسان فى مجتمع أصبح
فيه العفن والفساد يتسللان إلى كل الأركان حتى انتهى إلى ما نحن عليه اليوم.
بطريقته حاول
عبد الحليم أن يقدم دفاعه عن هذا الإنسان كما حاول أحمد زكى أيضا، برغم الفارق
الهائل بين الملابسات التى اكتنفت عصر كل منهما، فارق كأنه الهوة الفاصلة بين
الأحلام والكوابيس، ولكن لأنهما كانا صادقين حتى الثمالة فى هذا الدفاع عن الإنسان
فإنهما مايزالان يعيشان بيننا حتى اليوم، لأننا نحتاج بضراوة إلى أن نقف ضد كل أشكال
الموت الذى يريدون أن ننتهى إليه حتى ونحن أحياء، وبفضل مثل هؤلاء الأحباب ـ
الأحياء الموتى أو الموتى الأحياء ـ فإنننا سوف نظل نتمسك بالحياة.