Friday, September 03, 2010
تأملات فى أحوال السينما التسجيلية فى مصر
هل تذكر النكتة البايخة التى تتحدث عن الرجل الأمريكى الذى أراد أن يفحم رجلا مصريا فى المقارنة بين أحوال الديموقراطية فى البلدين، فأكد الأمريكى أنه يستطيع أن ينتقد رئيس الولايات المتحدة كما يشاء، فأجابه المصرى : "وماذا فى ذلك؟ وأنا أيضا أستطيع أن أنتقد رئيس الولايات المتحدة كما أشاء"؟ أرجو ألا يخشى القارئ انزلاقنا إلى السياسة، أولا لأننا أكدنا ـ ضمانا للسلامةـ على بواخة النكتة، وثانيا لأننا هنا فى الصفحات الفنية حيث نتخفف من أعباء السياسة بعيدا عن وجع الدماغ، لكن هذه النكتة سوف تقفز إلى راسك عندما نتذكر أنه منذ عام مضى كنا مشغولين بفيلم تسجيلى أمريكى هو "فهرنهايت911" من إخراج الفنان السينمائى المشاغب مايكل مور، يتحدث عن الانتخابات الرئاسية الأمريكية بقدر هائل من السخونة جعلت الدم يغلى فى عروقنا، وكان هذا الفيلم واحدا من العديد من الأفلام التسجيلية الأمريكية التى تناولت هذا الحدث بوجهات نظر مختلفة، لكن المأساة أن الانتخابات الرئاسية المصرية ـ التى تحدث لأول مرة فى تاريخنا ـ قذ مرت دون أن يفكر أحد سينمائيينا فى توثيق هذا الحدث، من خلال التيار المهم داخل أى صناعة سينما فى العالم كله، والذى يحمل اسم السينما التسجيلية التى يبدو أننا حذفناها من حساباتنا لتضيع فى زوايا النسيان.
فى الحقيقة ولكى نكون منصفين فإننا نتذكر السينما التسجيلية مرة كل عام، وهاهى سنوية السينما التسجيلية تحل هذه الأيام فى مهرجان الاسماعيلية، وفى الاسماعيلية نرى بعض الأفلام القليلة التى صنعناها طوال اثنى عشر عاما كاملة، ونمنح بعضها الجوائز، وننسى الأمر بعدها ونعود للحديث عن "عوكل" وأقرانه من الأفلام، التى يبدو أن صناعة السينما المصرية لا تتصور أنه يوجد غيرها لمخاطبة الجماهير، وإن كان غياب السينما التسجيلية على هذا النحو المثير للدهشة والأسى يشكل أحد الأعراض التى تشير إلى مرض عضال ـ ولا نقول أزمة حتى لا نثير حساسية البعض من هذه الكلمة ـ وهذا المرض يجب تشخيصه بدقة لنجيب على السؤال الجوهرى حول إذا ماكنا نعرف "ما هى السينما" أصلا، وهو السؤال الذى يطرح بدوره العديد من الأسئلة الأخرى : لمن نتوجه بالأفلام؟ ولماذا؟
الغريب فى الأمر أن كل من يشتغل بفن السينما يعرف ـ أو ينبغى أن يعرف ـ أن السينما كانت نقطة تحول فى تاريخ الفنون، فقد كانت الأب الشرعى لما يعرف باسم الفنون "التسجيلية" أو "التوثيقية" التى تعتمد على أدوات تقنية فى صناعتها وتذوقها، وتقوم على تسجيل الواقع حتى لو تلاعبت به، فالسينما فى جوهرها تبدأ دائما بعملية "تسجيل" مايدور أمام الكاميرا سواء كان واقعا حقيقيا أو متخيلا ، كما أن المتفرجين حين رأوا القطار فى فيلم الأخوين لوميير يتحرك لأول مرة على الشاشة فى اتجاههم أصابهم الرعب خوفا من أن يدوسهم لأنهم تصوروه للحظة قطارا حقيقيا.وماتزال هذه الحقيقية قائمة بعد ما يزيد من قرن كامل على اختراع ما نعرفه باسم فن السينما حتى عندما قام الكومبيوتر بخلق واقع افتراضى، فالمتفرج فى ظلام قاعة العرض ـ حتى فى الأفلام الروائية، بل فى الأفلام الروائية على نحو خاص ـ يذوب فى تلك الكتلة الإنسانية التى نطلق عليها "الجمهور" ليستقر فى وعيه ولاوعيه أن الفيلم الذى رآه ليس إلا امتدادا للعالم الواقعى، ويتبنى وجهة نظر البطل والنجم عن الحياة.
إن هذا التداخل بين الواقع والسينما هو الذى جعل السينما التسجيلية رافدا مهما فى صناعات السينما طوال تاريخها، وداخل هذا الرافد يوجد تنوع أسلوبى قد تستغرب وجوده للوهلة الأولى، فالفيلم التسجيلى ليس هو تلك الجريدة السينمائية التى يظل فيها صوت التعليق يزن بشرح ما تراه على الشاشة . لقد أخذ فلاهرتى الكاميرا فى العشرينات إلى القطب الشمالى ليقدم مايشبه الدراسة العلمية عن الإسكيمو فى فيلم "نانوك من الشمال"، وعلى الجانب الآخر تماما انشغل ماكلارين فى الستينات بتسجيل حركات راقصى الباليه فى "أداجيو" ويحولها إلى موسيقى بصرية، كما كان يوريس إيفنز يصنع أفلاما هى مزيج من الشهادة السياسية وقصائد الشعر. كانت هذه الأفلام يتم صنعها بجهد فائق حين كانت التقنيات ما تزال فى مهدها، أما اليوم فالأمر يختلف تماما مع التقنيات المعاصرة التى تسمح للفنان أن يحمل كاميرا لا تزيد عن بضع مئات من الجرامات، ويقوم بمونتاج الفيلم على كومبيوتر منزلى، ليصنع فيلمه التسجيلى ويشترك فى عشرات المهرجانات السينمائية عبر الكرة الأرضية، وهكذا أصبح الفيلم التسجيلى قادرا ليس فقط على غزو شاشات التليفزيون الفضائى، لكنه كسب أرضا لا يستهان بها حين استولى من السينما الروائية على نصيبه من شباك التذاكر، وليس ببعيد أن يبدأ منذ أسابيع وعلى استحياء عرض الفيلم التسجيلى الفرنسى "مسيرة البطاريق" فى بضع عشرات من دور العرض الأمريكية، لينافس بعد أيام قليلة على المركز الأول محتلا الألاف من دور العرض التجارية.
إن شئت الدقة فقد ذاب الخط الفاصل بين السينما الروائية ـ أو المتخيلة كما تعنى كلمة الرواية فى الإنجليزية ـ وبين السينما التسجيلية، وربما جاء التأثير الأهم للسينما الروائية الهوليودية علينا من أنها تبنت حتى فى أكثر أفلامها جموحا فى الخيال أسلوبا ذا طابع تسجيلى، كشوارع المدينة المستقبلية فى فيلم الخيال العلمى "تقرير الأقلية"، أو تضفى بهذا الأسلوب التسجيلى صدقا على وقائع تاريخية غير مؤكدة مثل الهولوكوست فى "قائمة شيندلر" ـ وليس غريبا أن يكون هذان الفيلمان من إخراج سبيلبيرج سيد صناعة السينما الهوليودية! ـ أو أن يتحول فنان سينمائى مهم مثل هيرتزوج تحولا كاملا إلى السينما التسجيلية، ففى أفلامه التى تعرض الآن فى أمريكا مثل "رجل الدببة" و"الماسة البيضاء" يكتشف هيرتزوج الجانب الخفى من النفس البشرية التى تتحدى الطبيعة والمجهول، بعد أن حاول اكتشافها فى أفلام روائية ضخمة مثل "غضب الرب" و "نوسفيراتو"، أو أن يعود بيرجمان فى فيلم "ساراباند" بعد عشرين عاما كاملة ليتقصى ماحدث لأبطال فيلمه "مشاهد من زواج" وكأنهم يعيشون فى واقع الحياة، مثلما فعل الأمريكى الشاب لينكليتر بين فيلميه "قبل الشروق" و "قبل الغروب" الذى سجل فيهما بأسلوب تسجيلى خالص علاقة بين فتاة فرنسية وفتى أمريكى التقيا على نحو عابر، وماطرأ على هذه العلاقة فى الفترة التى تفصل بين الفيلمين، أو أن يقوم المخرج المبتدئ مورجان سبورلوك فى فيلمه "إجعلنى ساندويتش سوبرسايز" بإجراء تجربة على نفسه يسجلها بالصورة والصوت ليرصد التشوهات الصحية التى عانى منها بعد شهر كامل من اعتماده على طعام النفايات الأمريكى!
ترانا هل نتحدث عن فجوة هائلة لا يمكن تجاوزها بين صناعتنا السينمائية ومثيلاتها فى العديد من دول العالم؟ أم أن عبور هذه الفجوة سيمثل الجسر الذى يمنح السينما المصرية الانفراجة للخروج من أزمتها؟ دعنا نوجز النقاط الأساسية ولنتفق بعدها أو نختلف : فالسينما للجماهير بكل شرائحها واهتماماتها وليست لزبائن المولات فقط ، والسينما يجب أن تتحدث لنا وعنا بأكبر قدر من الصدق والمصداقية حتى فى الأفلام الروائية وفى أكثرها سخرية وضحكا وهزلا، والعقلية "التوثيقية" يجب أن تزداد عمقا لدى صناع الأفلام عندنا، وهو ما يدعو المسئولين ـ الذين لا يسألهم أحد! ـ للتخلى فورا عن كل القوانين المتخلفة التى لا مثيل لها فى الدنيا وتحظر على السينمائى أن يحمل كاميرته بحرية ويسجل بها كل ما يراه فى واقعه سعيا لتفسيره وتغييره. وإذا كنا بدأنا بالحديث عن السياسة من بعيد، فإن ما يدمى القلب حقا هو أن يقوم مذيع تليفزيون إسرائيلى مرموق، وعلى حسابه الخاص، بصنع فيلم تسجيلى عن وجهات النظر المختلفة فى الانسحاب الإسرائيلى من قطاع غزة يتحدث فيه المستوطنون الصهاينة عن "مأساتهم" ـ!!ـ بينما لا نكاد نتذكر فيلما تسجيليا مصريا معاصرا عن المأساة الحقيقية التى يعيشها الشعب الفلسطينى فى حياته اليومية التى تمنح مادة ثرية لعشرات الأفلام. هل تذكر الآن النكتة التى بدأنا بها؟ فلتكن الخاتمة عن نكتة أيضا وعن فيلم تسجيلى أمريكى يعرض حاليا يدعى "الأستقراطيون"، ويسجل لنكتة واحدة يستخدمها عشرات الممثلين الكوميديين فى عروضهم، ليقول لك ان المهم ليس النكتة وإنما فن الإلقاء، ولك أن تتصور أن نكتة أمريكية واحدة صنعت فيلما تسجيليا، بينما النكتة المريرة أنه لا توجد عندنا سينما تسجيلية حقيقية مع أن واقعنا يزخر بملايين النكات!!
Monday, August 30, 2010
أفلام التحريك بين الحواديت والرسائل الأخلاقية والسياسية
ظلت أفلام التحريك – التي نسميها أحيانا على نحو خاطئ افلام الكرتون – مصدرا للمتعة السينمائية الخالصة عند الأطفال, في تلك الشرائط القصيرة التي كانت تعرض قبل أفلام الكبار الروئية الطويلة, وأصبحت شخصيات مثل " ميكي ماوس " و" توم وجيري " تمثل بالنسبة للطفل كائنات حقيقية يصدق وجودها, ففي عالم سينما التحريك تكتسب الحيوانات والدمى وحتى الجمادات ملامح إنسانية في الشكل والسلوك, تتصارع وتتصالح وتخوض مغامرات تنقل الطفل إلى عالم يمزج بين الواقع والخيال, لكنها كانت في كل الحالات تخاطب في الطفل الجانب المطمئن المتفائل حين تجعله يعيش في عالم سينمائي لا يعرف معني الخوف أو الألم, فقد يسقط القط "توم" من علو شاهق لتتناثر شظاياه لكنه في المشهد التالي يظهر صحيحا معافي دون خدش واحد, ليستمر من جديد في مطاردة الفأر " جيري ", فهي دائما شخصيات لا تعرف التجارب القاسية المؤلمة التي يحتشد بها الواقع الحقيقي.
كانت هذه الأفلام الأولى للتحريك تتعامل فقط مع الجانب الخيالي الخصب في وجدان الطفل, في حكايات – أو بالأحرى " نمر" – ينتصر فيها الخير دائما على الشر, والضعيف على القوي, حتى لو تحدثت أحيانا وبرفق بالغ عن بعض الأحاسيس الحزينة مثل شعور " البطة السوداء " بالغربة عن رفاقها والاضطهاد من الكبار, أو فقدان الفيل الصغير " دامبو" لأمه, لكن سرعان ما كانت سحابات الحزن تنقشع, لتنتهي الحدوتة دائما على نحو مغرق في التفاؤل, ليخرج الطفل من قاعة العرض وقد أفرغ – بتوحده مع هذه الشخصيات – توتراته البسيطة, مستعدا ليمارس طفولته البريئة مع العالم الواقعي من جديد.
ولشركة " ديزني" الفضل في تحويل هذه الأفلام القصيرة إلى أفلام روائية طويلة مع " الأميرة البيضاء والأقزام السبعة" (1937) , كما كان لها الفضل أيضا بعد حوالي ستة عقود في إعادة نمط فيلم التحريك الروائي الطويل في العديد من الأفلام كان أشهرها " الملك الأسد" (1994) , وبين هذين الفيلمين كانت رحلة طويلة لفن التحريك سواء على مستوى الشكل حين أصبح من الممكن استخدام تقنيات الكومبيوتر التي تتيح بالضغط على بعض الأزرار تنفيذ ما كان فنانو التحريك يستغرقون شهورا طويلة في تحقيقه , او على مستوى المضمون عندما تحولت هذه الأفلام من إعادة إنتاج قصص الأطفال المعروفة إلى كتابة سيناريوهات مبتكرة لا صلة بينها وبين الحواديت التقليدية . ومع الإيرادات الضخمة التي حققها " الملك الأسد" عرفت السينما الأمريكية أن نمط فيلم التحريك الروائي الطويل يمكن استثماره ليحتل مكانا ثابتا كل عام بين الأنماط الأخرى , وأن هذا الاستثمار قد يصل إلى مدى أبعد مع تسويق البضائع المرتبطة بهذا الفيلم أو ذاك : القمصان والدمى والحقائب والدفاتر وألعاب الفيديو وشرائط موسيقى الفيلم , لكن الأهم هو إدراك صناع هذه الأفلام أنه يمكن لهم توسيع قاعدة الجمهور الذي يراها بحيث تصلح للصغار والكبار معا , وهو ما يعني أن فيلم التحريك – الذي يبدو في ظاهره موجها للمتعة الطفولية – يحمل مستويات عديدة من التفسير والتحليل , حين تكون عناصر التسلية والامتاع في حقيقتها وسائل لبث " رسائل" موجهة لوعي الطفل ولاوعيه في وقت واحد , وهي الرسائل التي تتفاوت بين الإيحاء للطفل – والمتفرج الكبير أيضا – بأنه " ليس في الإمكان أبدع مما كان" , وبين مساعدة الطفل على إدراك حقائق الحياة الحقيقية , وامتلاك حاسة نقدية تجاه الواقع من أجل تطويره وتغييره . انتقلت إذن أفلام التحريك الروائية الطويلة من عالم البراءة الفنية إلى عالم فني أكثر تعقيدا يقتضي أن ننظر إلى هذه الأفلام وقد تخلينا عن افتراض نواياها الطيبة التي تزعم أنها تسعى إلى التسلية وحدها , فهي التسلية التي لا تتخلى لحظة واحدة عن ترسيخ متعمد لمفاهيم ومواقف محددة في وجدان الأطفال .
من البراءة إلى الدهاء
يمكنك أن تجد نموذجا مجسدا للفارق الهائل بين أفلام التحريك الروائية القديمة والجديدة إذا ما قارنت بين فيلمي شركة " ديزني" : "الأميرة البيضاء والأقزام السبعة" و "الملك الأسد" , فالفيلم الأول كان مايزال واقفا على أرض تقنيات التحريك التقليدية من خلال أسلوب الرسم "الكادر الجديد بعد الكادر السابق" , وإن كان الفيلم قد حقق قفزة إلى الأمام مع استخدام الألوان والمنظور اللذين يوحيان بعالم ثلاثي الأبعاد حين تتحرك الكائنات والأشياء في مقدمة الكادر على نحو أسرع من تلك التي تقبع في خلفيته , ومع إتقان تحديد الملامح "الإنسانية" الواضحة لكل شخصية تعيش في أماكن تحاكي الواقع في تفاصيله . لكن "الأميرة البيضاء" ظل ملتصقا بحواديت الأطفال التقليدية , وهو الذي يعتمد على إحدى حكايات "الأخوين جريم" الشهيرين, التي تدور عن عالم خيالي وسحري تعيش فيه شخصيات مثل الأميرة الجميلة المضطهدة , التي تأكل تفاحة مسحورة فتنام في تابوت زجاجي نوما طويلا لن يوقظها منه إلا فارس الأحلام , وتقطن ذلك البيت الصغير حيث يدور في فلكها أقزام سبعة خفيفو الظل , بينما تطاردها زوجة الأب الشريرة بمرآتها السحرية , لتنتهي الحدوتة بطبيعة الحال إلى انتصار الخير على الشر .
في "الملك الأسد" لن يفاجئك فقط أن يكون فن التحريك التقليدي قد استعان ببعض تقنيات الكومبيوتر لكي يزيد من " واقعية" ما نراه على االشاشة , لكن المفاجأة الحقيقية هي أنه لا يعتمد على أية حدوتة معروفة للأطفال , بل إنه يستعير بعض خيوطه الدرامية من مآس إغريقية قديمة مثل "ألأوريستية" أو من التراجيديا الشكسبيرية "هاملت" , حيث يكون على البطل أن ينتقم لمصرع أبيه الملك على يد العم الخائن !! قد نتصور للوهلة الأولى – وهذا صحيح إلى حد بعيد – أن تلك الإحالات الى الأغريق أو شكسبير سوف تفوت على الإدراك "الواعي" لمعظم الأطفال , لكن ما يجب ألا نتجاهله أن الرسائل المتضمنة داخل هذه الحدوتة سوف تستقر في "لا وعي" المتفرج الطفل . في المشهد الافتتاحي من "الملك الأسد" الذي يدور في غابة افريقية سوف نشهد ولادة "الطفل" الشبل سيمبا لأبيه الملك الأسد موفاسا , لتحتفل كل حيوانات الغابة بهذا الحدث وتغني أغنية "دائرة الحياة" فرحة بمولد الطفل الذي سوف يحق له وحده أن يرث أباه على عرش الغابة .
إن الشبل سيمبا يستغرق في العالم اللاهي للطفولة منصرفا عن "حقائق" العالم الذي يعيش فيه , مستهترا كأي طفل بالأخطار أو غير مدرك لها , متصورا أن كل حيوانات الغابة تحبه وتحنو عليه , لكن العم الشرير سكار – الذي يغار من شقيقه الملك – سوف يدبر لاغتيال الشقيق ويوهم الطفل سيمبا بأنه كان السبب في خطأ غير مقصود وراء مصرع الأب , فتجتاح نفس الطفل مشاعر الذنب وينفي نفسه بعيدا عن المملكة ليعيش في مقبرة جرداء للأفيال , لكنه سوف يعرف الحقيقة عندما يظهر له شبح الأب مرددا – كما في "هاملت" تماما – ضرورة أن يسعى الإبن للانتقام له . سوف يتوحد المتفرج الطفل بالطبع مع الشبل سيمبا في رحلته للانتقام وإعادة "الحق" إلى نصابه , لكن القراءة المتأنية للدلالات المتضمنة سوف تقود لا وعي الطفل إلى العديد من "الحقائق" أو التي يفترض الفيلم أنها حقائق , ولتتأمل تلك الدلالات – التي أشارت إلى بعضها الناقدة الأمريكية كارين شوالم – من أن الحياة في العالم الإنساني تطابق "عالم الغابة" بكل ثوابته : إن الطبيعة تفرض سلما هرميا محددا لا يمكن تغييره أو تجاوزه , حيث " سلسلة تغذية" حيوان بالتهامه حيوانا أضعف هي قانون ازلي أبدي وينطبق بشكل ضمني على البشر أيضا , وأن القوة هي المعيار الوحيد الذي يحتم أن يكون الأسد حاكما على الغابة من أعلى التل, بينما يجب على كل الحيوانات الأخرى أن تقبع في قاع الوادي لتقوم بدور الأتباع المخلصين فتلك هي "دائرة الحياة التي تحركنا جميعا" , أو فلتقل بكلمات أكثر وضوحا : الحل الأمثل هو الإبقاء على الوضع السائد.
مجموعة " بيكسار " والرسائل التقدمية
هاأنت ترى إذن أن فيلما مثل " الملك الأسد" قام بالعكس تماما من الفرضيات الأولى لفن التحريك , فبدلا من أن يضفي على الحيوانات ملامح إنسانية فإنه أكد على أن الحياة الإنسانية تدخل في إطار قوانين "الطبيعة" التي تشمل الحيوان والإنسان معا . وسوف تتراوح منذ ذلك الحين أفلام التحريك الروائية الطويلة التي تنتجها السينما الأمريكية بين رسالتين متناقضتين , حين تخصصت شركة " دريم ووركس" في صنع الأفلام ذات الاتجاه المحافظ والرسائل الرجعية, بينما نشأت مجموعة "بيكسار" – التي انضوت في البداية تحت جناح شركة "ديزني" ثم استقلت مؤخرا عنها – لتحمل في كل أفلامها رسائل تقدمية تدعو إلى إعادة النظر في "الوضع السائد" وضرورة تغييره .
كانت مجموعة " بيكسار" هي أول من قام بإنجاز فيلم روائي طويل يعتمد كلية على تقنيات الكومبيوتر لصنع أفلام التحريك ثلاثية الأبعاد , في فيلم "قصة لعبة" (1995) , وفيه تكتسب الدمى التي يلهو بها الأطفال حياة حقيقية وملامح إنسانية تتنوع في أشكالها وصفاتها وأخلاقياتها , حيث نرى الدمية راعي البقر وودي الذي كان طوال ست سنوات هو اللعبة المفضلة لدى صاحبه الطفل , لكن وودي يفاجأ ذات يوم بقدوم الدمية التي تعمل بالبطاريات بازلايت يير , لينشأ بينهما صراع حول مكانة كل منهما عند صاحبه , لكن هذا الصراع سوف يقودهما إلى العالم الحقيقي حيث يواجهان أخطارا مشتركة , ليكون عليهما تجاوز خلافاتهما والتكاتف معا , لتتأكد قيمة ورسالة الصداقة الحميمة, وتصالح القديم مع الجديد .
في الجزء الثاني " قصة لعبة2" (2001) سوف يصبح الإبهار التقني المتزايد أمرا عاديا ومألوفا , لكن مجموعة " بيكسار" سوف تهتم بالمضمون الأكثر نضجا بقدر اهتمامها بالشكل . إن الدمية راعي البقر وودي يصيبه التلف فيضعه صاحبه الطفل على الرف إلى جانب الدمى القديمة الأخرى التي نراها وهي تأسى لحالها , ويصبح وودي مهددا بالبيع لتاجر الدمى التالفة الذي يقوم بترميمها تمهيدا لبيعها إلى أحد المتاحف اليابانية , ليتحول الفيلم كله إلى الرحلة الصعبة التي يخوضها رفاق وودي من أجل استعادته وإنقاذه من هذا المصير , وهي رحلة حافلة بالمغامرات بدءا من عبور الشارع وسط السيارات المسرعة , وحتى إنقاذ وودي قبل ثوان قليلة من صعوده في صندوق إلى الطائرة التي سوف تحمله إلى المنفى . وهكذا فإن الفيلم يحتشد بالعديد من القيم الأخلاقية والرسائل السياسية : إن علينا أن نقبل أحيانا – من أجل مزيد من النضج – فكرة التغير , فالطفل قد يهمل دميته عندما تتغير اهتماماته , لكن الدمية يمكن أن تجد العزاء في إمكانية أن تصبح مصدر سعادة لطفل آخر , وأن من المهم الحفاظ على التراث وعدم بيعه للأجانب في مقابل المال , وإن لم يكن كل ما في التراث جميلا فهناك دمية راعي بقر عجوز يرضخ للأمر الواقع ويقاوم وودي ويتحايل لكي يأخذه معه إلى المتحف الياباني , وأن تحقيق الحلم – باستعادة وودي – لن يأتي عن طريق أية بطولات فردية , وإنما من خلال تكاتف الدمى جميعا من أجل هدف واحد .
سوف تتردد فكرة البطولة الجماعية في كل أعمال مجموعة "بيكسار", ففي فيلمهم التالي "حياة حشرة" (1998) نرى حكاية النملة الذكر فليك الذي يؤرقه أن " قانون الطبيعة" – الذي كرسه فيلم ديزني "الملك الأسد" – يفرض دائما على النمل صغير الحجم أن يكدح طوال العام لتأتي حشود الجراد لتلتهم ما قام " شغيلة" النمل بجمعه, لذلك يحاول فليك ان يخترع أشياء تساعده ورفاقه في الدفاع عن أنفسهم , لكن محاولاته تبوء بالفشل , وتحفز الجراد على الانتقام . وفي محاكاة ساخرة عن فيلم " الساموراي السبعة" يأخذ فليك إذنا من ملكة النمل بالذهاب إلى المدينة لاستئجار محاربين محترفين يدافعون عن النمل , لتقوده قدماه إلى مجموعة من الحشرات المختلفة الذين يقبلون بالمهمة من أجل المال , لكن الحقيقة سوف تتكشف أنهم ليسوا إلا حشرات هاربة من السيرك , ويدرك فليك الحقيقة : إن على النمل أن يدافع عن نفسه بتجميع كل الجهود , وأن ذلك لن يأتي عن طريق البطولات الفردية أبدا , وان كونك صغير الحجم لا يعني أنه ليس أمامك إلا أن تستسلم لطغيان كبار الأحجام .
وعن الكبار المخيفين سوف يدور فيلم " شركة الوحوش المحدودة" (2001) , فالوحوش التي تظهر للأطفال خلال الليل لتثير رعبهم تعيش في مدينة مغلقة تبدو كأنها شركة رأسمالية عملاقة – يشير أحد النقاد الأمريكيين إلى تشابهها مع مدينة نيويورك في لحظات الذروة !! – حيث يعمل االوحوش الذين ينتقلون في الليل لغرف نوم الأطفال لإفزاعهم , وحين يصرخ الأطفال من الخوف تقوم الوحوش بتجميع هذه الصرخات في "أنابيب" خاصة, فمن هذا الصراخ يستمد الوحوش طاقة مدينتهم . تأمل هذه الفكرة اللامعة في أن الوحوش تريد أن يبقى "الصغار" خائفين مرتعدين فتلك هي مادة الحياة التي يعيش عليها الوحوش "االكبار" , لكن المفارقة الأكثر دلالة – وخفة ظل أيضا – هي أن الوحوش في حقيقتهم يخافون من الأطفال , لتبدأ حبكة الفيلم مع الطفلة الصغيرة "بو" التي تعلقت بفراء الوحش الأزرق طيب القلب سوليفان , لتتسلل دون أن يعلم إلى مدينة الوحوش , وعندما يكتشفون أمرها تعلن حالة الطوارئ وتظهر إدارة "سي دي إيه" – يشير بعض النقاد الأمريكيين إلى تشابهها مع "سي آي إيه" ! – والتي تعني " فريق الكشف عن الأطفال وآثارهم" للبحث عن الطفلة وتطهير المدينة من آثارها. وبينما تبدو كل الوحوش الأخرى مهتمة ومهمومة بالعثور على الطفلة والتخلص منها , فإن الوحش سوليفان سوف يبدي تعاطفا وحبا أبويا تجاهها , ليكتشف – وياللمفاجأة ! – أن ضحك الأطفال يخلق طاقة أكبر بكثير من تلك االتي يخلقها صراخهم , وهو الأمر الذي سوف يجعل الوحوش في نهاية االفيلم يغيرون من سياساتهم تجاه الصغار , فيبعثون بوحوش صغيرة لطيفة لتدغدغ الأطفال وتضحكهم للحصول على الطاقة !
إن الرسالة الأخلاقية والسياسية هنا تؤكد على "التفاعل" وليس الصراع , بين الصغار والكبار أيا كان المستوى الذي تتحدث عنه , وهي الرسالة التي سوف تصبح أكثر تعقيدا ونضجا مع فيلم "البحث عن نيمو" (2003) الذي يحكي عن الأب السمكة مارلين الذي يفقد زوجته وأطفاله بسبب هجوم مباغت من أسماك متوحشة كبيرة , ولا يبقى له سوى إبن وحيد بزعنفة ضامرة هو نيمو – ذلك هو إسم قائد الغواصة الخيالية في "عشرون ألف فرسخ تحت الماء" – ويكرس الأب حياته لرعاية إبنه حتى أنه يطارده في كل مكان حتى لا يغيب عن بصره , ويمنعه من الذهاب إلى المدرسة خوفا عليه من تجارب الحياة , لذلك ينشأ التوتر بين الأب الخائف عصبي المزاج والإبن الذي يريد أن يمارس حياته " كإنسان" طبيعي .
إن ذلك يدفع نيمو للهرب من رقابة أبيه أحيانا لكي يثبت لأصدقاء طفولته أنه يستطيع أن يجاريهم في جرأتهم , فيسبح بعيدا حيث يتم اصطياده عن طريق غواصين , لينتهي به المطاف حبيسا في حوض صغير للأسماك في عيادة طبيب للأسنان . ويدءا من تلك اللحظة يكون على الأب أن يتخلى عن تردده وخوفه من مواجهة المخاطر, ليمضي في رحلة طويلة بحثا عن إبنه نيمو , بينما يكون على نيمو أن يجد وسيلة للهرب من حوض الأسماك لكي يعود إلى المحيط . تامل استحالة أن يجد الأب إبنه في هذا البحر الواسع أو أن يعود الإبن من الحوض إلى البحر, لكن الفيلم يعلم الأطفال – ويعلمنا – أنه ليس هناك مستحيل إذا ما كان علينا أن نحصل على حريتنا . وإذا كان الفيلم لا يتخلى لحظة واحدة عن عنصر الإمتاع من خلال الطيف اللوني الواسع للكائنات البحرية , أو إضفاء ملامح شكلية ونفسية إنسانية على كل منها ( مثل محاولة أسماك القرش أن تتخلى عن أكل اللحم لتصبح نباتية! ), أو من خلال مشاهد المطاردات والتشويق العديدة , فإنه لا ينسى أن يؤكد على القيم الأخلاقية التي يريد توصيلها إلى المتفرج الطفل : إن كل التضحيات تهون إلى جانب الحصول على الحرية , وأن الإنسان – المجسد أمامنا على الشاشة في صورة سمكة – يمكن أن يقهر الخوف والتردد كما في حالة الأب , وأن يقهر العجز الجسماني للزعنفة الضامرة كما في حالة الإبن , وأن على الجيل الأكبر أن يتخلى عن بعض نزعاته المتسلطة حتى ينمو الأبناء ليصبحوا قادرين على مواجهة العالم , وأن الجيل الأصغر سوف يدرك يوما أن حرص الآباء عليهم لم يكن قهرا لكنه حب حقيقي , لكن الأهم هو تلك القيم السياسية التي تتجسد في أن تنوع أسماك المحيط يجب ألا يعني الصراع بينها بل التفاعل والتكامل , وأن الأهداف لا يمكن الوصول إليها على نحو فردي , فالإبن نيمو ليس بطلا فرديا على الطريقة الهوليوودية , وجهوده للحصول على حريته والعودة إلى المحيط تأتي من اشتراك كل الأسماك الأخرى السجينة معه داخل حوض الأسماك الضيق .
النزعة الفردية الهروبية عند " دريم ووركس"
وإذا كانت مجموعة "بيكسار" تؤكد دائما على هذه البطولة االجماعية, وعدم خداع المتفرجين من الأطفال والكبار, بل مساعدتهم على مواجهة المواقف الجادة في الحياة على مختلف مستوياتها , فإن أفلام التحريك الروائية الطويلة التي تصنعها شركة " دريم ووركس" تفعل العكس تماما , فهي تغرس في وجدان الطفل مفهوم البطولة الفردية , وتعمد إلى تعقيد الحبكة وتحميلها بإشارات وإحالات إلى العديد من أفلام الكبار , وتختار نجوما مشهورين لأداء أصوات كائنات التحريك الخيالية , مما يقود المتفرج في النهاية إلى عالم سحري هروبي يحتشد بالعديد من القيم السلبية المحافظة .
ففي العام 1998 الذي قدمت فيه مجموعة " بيكسار" فيلم "حياة حشرة" , أتى من " دريم ووركس" فيلم "النملة زي" , الذي يحتشد بالتعقيد والتفلسف بدءا من عنوانه بالإنجليزية , الذي يعني عند نطقه " النمل" أو "النملة زي" , بل إن الحرف "زي" نفسه يشير في اللغة اليونانية إلى معنى الحياة بقدر إشارته للحرف الهجائي الذي يقبع في نهاية الأبجدية ! يحكي الفيلم عن النملة الذكر " زي" (صوت وودي ألين) الذي نراه في المشهد الافتتاحي مسترخيا على سرير طبيب نفسي وهو يشكو من أنه لا يستطيع التواؤم مع الحياة في مستعمرة االنمل , وعلى عكس بطل " حياة حشرة" الذي كان يحاول أن يحث كل النمل على عدم الاستسلام للضعف والهوان أمام الجراد , فإن كل ما يبحث عنه "زي" هو الفردية والاختلاف عن بقية النمل , أو كما يقول لطبيبه النفسي : " إنني أعاني من أنني الأخ الأوسط لخمسة ملايين من الأشقاء ... هل من المفروض علي أن أصنع كل ما أصنعه من أجل الآخرين والمستعمرة؟ ماذا عن احتياجاتي أنا؟ ". وبالصدفة يقابل " زي" الأميرة النملة بالا ( صوت شارون ستون ) في أحد المراقص , وبينما تنخرط جموع النمل في رقصة ميكانيكية فإن " زي " يرقص بطريقته العفوية الحيوية , مما يجعل الأميرة تفتتن به , ولأن " زي " يريد أن يبدو أمامها بطلا فإنه يحتال حتى ينتحل شخصية ضابط في الجيش , لكن حيلته تنقلب عليه عندما يجد نفسه مساقا وسط الحشود إلى حرب دموية طاحنة ضد النمل الأبيض المفترس , وهي الحرب التي تحاكي مشهدا عنيفا مماثلا في " إنقاذ الجندي رايان " , وهو ما ليس غريبا على أية حال فهو الفيلم الذي أخرجه سبيلبيرج أحد الشركاء الرئيسيين في شركة " دريم ووركس " , وهكذا فإن الرسالة المتضمنة في " النملة زي " تتحدث عن التفرد والبطولة – حتى لو كانت زائفة – وهو ما يكرس القيم السائدة بالفعل في الثقافة الأمريكية الراهنة بدلا من إعادة النظر فيها و تغييرها .
في فيلمي " شريك "(2001) و " شريك2 " (2004) سوف تصبح الرسالة الأخلاقية والسياسية أكثر غموضا والتباسا , مع مزيد من الاقتباس عن عشرات الأفلام الروائية للكبار , والسخرية الجامحة من الشركة المنافسة ديزني سواء في شخص مديريها المسئولين أو شخصياتها الكارتونية ! يحكي الفيلم عن الغول شريك قبيح الشكل الذي يريد أن يعيش وحده في مستنقع بعيدا عن العالم , وهو يستمتع بقبحه وفرديته ويدافع عنهما لكنه يجد نفسه مضطرا – في مقابل استعادة وحدته – أن يقبل مهمة إنقاذ الأميرة الحسناء ( صوت كاميرون دياز) من التنين الذي سجنها في قلعته . لقد كانت الأميرة تنتظر أن يأتي فارس أحلام وسيم لكي يحررها ويتزوجها , لكن أملها خاب عندما رأت مخلصها الغول , وإن كانت العاطفة المشبوبة سوف تدب بينهما , ليصبح السؤال الأخلاقي المحوري أمام الطفل : هل سوف تقبل الأميرة الجميلة الزواج من الغول القبيح طيب القلب ؟ أو بكلمات أخرى : هل من الممكن قبول الاختلاف بين الأعراق والثقافات ؟ أن معالجة قديمة لحدوتة " االجميلة والوحش " جعلت من الحب قوة دافعة ليستعيد الوحش هيئته البشرية الكامنة بداخله , كما أن مجموعة " بيكسار" لم تكن لتفكر أصلا في أن تجعل من هذه الشخصية الفردية المتوحدة بطلا للأطفال , لكن معالجة " شريك " بجزئيه سوف تذهب في اتجاه آخر تماما , فالأميرة تقبل أن تتحول إلى غولة قبيحة الشكل لكي تتزوج من حبيبها ! على السطح قد يبدو الفيلم منحازا إلى الجانب الأضعف – أو بالأحرى الأكثر قبحا في الطبيعة الإنسانية ! – لكن الحقيقة أنه يؤكد على أنه ليس هناك إمكان تفاعل بين الثقافات , فالاختيار الوحيد الممكن هو أن تذوب ثقافة في ثقافة أخرى , وليبق الغول غولا إلى الأبد , ولتذهب الأميرة وحدها إليه وتتحول إلى غولة , ليعيشا معا في مستنقعه البعيد , ومن المؤكد أن المتفرج الطفل لن يتوحد لحظة واحدة مع هذا االغول , خاصة عندما يرى أمامه على الشاشة حمامة بيضاء تموت من الرعب عندما ترى الغول القبيح !
وأخيرا يأتي فيلم شركة " دريم ووركس " الذي يحمل إسم " حكاية سمك القرش " (2004) , الذي سوف يذهلك أنه موجه للأطفال رغم أنه يعتمد في حبكته على فيلم " الأب الروحي " , فهناك عصابة من أسماك القرش تفرض سيطرتها على عالم البحر : الأب القاسي دون لينو ( صوت روبرت دي نيرو , الذي أثار اعتراض الأمريكيين من أصل إيطالي بسبب أدائه لصوت هذا الدور ! ) , وهو الأب ذو القلب المتحجر رئيس عصابة المافيا لكنه يحمل أخلاقيات النزاهة القديمة , وابنه فرانكي التابع المخلص لأبيه ووريثه المأمول لاستمرار عمل العصابة , والإبن الثاني ليني الذي قرر أن يكون نباتيا ( فيما يشبه السرقة عن أحد أفكار "البحث عن نيمو" ) . إن الأب يأمر الإبن المطيع بأن يأخذ الإبن المتمرد إلى عالم البحر الواسع في رحلة يتعلم فيها هذا الأخير كيف يكون سمكة قرش حقيقية , لكن الأقدار تؤدي إلى مصرع فرانكي , وتنسب التهمة خطأ إلى السمكة الصغيرة الذكر أوسكار ( ويل سميث ) الذي يعمل في مغسلة للحيتان , وهكذا يتحول أوسكار – الذي تكبر شهرته كلما كبرت الكذبة – إلى بطل في أعين الأسماك الصغيرة , فيتخلى عن حبيبته الوفية (رينيه زيلويجر) ليخونها مع العشيقة الحسناء ( أنجلينا جولي ) .
في هذا الفيلم يتجسد تماما كيف يمكن لرسائل مغرقة في سلبيتها أن تتسلل إلى أحد أفلام التحريك الروائية الطويلة الموجهة للأطفال , فكيف يمكن لطفل أن يستوعب الصراع النفسي داخل السمكة أوسكار بين الوفاء لحبيبته الطيبة أو نزواته الجنسية مع عشيقته ؟ وكيف لهذا الطفل أن يتوحد مع " بطل " مزعوم زائف ؟ لكن هذا هو مايريده الفيلم وشركة " دريم ووركس " , كما يريد أن يضع المتفرج الطفل في هذا الصراع المقتبس عن " الأب الروحي " , الذي يدور بين " أخلاقيات " المجرمين التقليديين , وأقرانهم الجدد , وعلى الطفل أن يختار بين هذين النوعين من الإجرام , وياله من اختيار !!
الفرسان الثلاثة للسينما المصرية فى المرحلة الكلاسيكية
كانت السنوات بين عامى 1952 و 1970 هى الفترة الى قدمت أهم الأفلام لأهم مخرجى هذه المرحلة الكلاسيكية، ولأن السينما تعكس الواقع (حتى لو لم تكن تعى ذلك) فإن هذا الواقع قد تجلى فى صور عديدة، نستطيع أن نضرب عليها بعض الأمثلة إذا توقفنا عند ثلاثة مخرجين وأعمالهم فى تلك الفترة، هم يوسف شاهين، وصلاح أبو سيف، وتوفيق صالح.
يوسف شاهين ؛ المتمرد
اعتـادت معظـم الكتابـات النقديـة على وصف سينــما يوســف شاهيـن بأنهــا”سيــرة ذاتيــة”، وتلك نصف الحقيقة فقط، أما الجانب الأخر من الحقيقة ( والذي أراه أكثر أهمية حتى في السيرة الذاتية الخالصة ) أن أفلامه كانت”صورة للواقع في مرآة الذات”، ويمكنك أن تقول أن أي عمل فني هو كذلك بالفعل، لكن النتيجة تتفاوت طبقا لتحدب أو تقعر المرآة، أو استوائها إذا ما أراد الفنان أن يكون – بقدر ما يستطيع – موضوعيا محايدا.
وإذا كان يوسف شاهين قد حاول الحديث عن نفسه، فإنه – مثل معظم من صنعوا سيرا ذاتية – لم يكن صادقا كل الصدق، إنه لم يتحدث عن نفسه كما كانت بالفعل بقدر ما تحدث عنها كما يحلم بها أن تكون. إن أردت اقترابا من عالم يوسف شاهين، من خلال الأفلام التي صنعها في المرحلة الكلاسيكية من تاريخ السينما المصرية، فيمكنك أن تلخص في أنه يصور واقعا خانقا ( برغم رحابته الظاهرة )، ويحاول البطل التمرد عليه والخروج منه.
وعندما أراد يوسف شاهين أن يسجل بعضا من سيرته الذاتية في فيلمه”حدوتة مصرية”( 1982 )، تحت اسم”يحيى مراد”، قام بتغيير بعض الحقائق التاريخية، فهو على سبيل المثال يقول أن فيلمه”ابن النيل”( 1951 ) عرض في مهرجان كان عام 1955، وكان الفيلم الذي عـرض هو”صـراع في الـوادي”( 1954 )، كما أن شاهيــن يتجاهــل أفـلام”صـراع في المينــاء”و”ودعت حبك”( 1956 ) و”أنت حبيبي”( 1957 )، ليقفز مباشرة إلى”باب الحديد”( 1958 ). ولم يكـن ذلك محـض مصادفـة بالطبــع، فالفيلمـان :”ابـن النيـل”و”بـاب الحديـد”، يقدمان بطلا واحدا وإن تغيرت ملامحه، حتى أنه يمكنك أن تقول أن”قناوى”ليس إلا”حميدة”بعد أن”نجح”في تحقيق حلمه بالذهاب إلى القاهرة، ونضع فعل النجاح بين قوسين لأنه انتهى إلى مأساة دامية.
إن”حميدة”في”ابن النيل”يعيش في قرية نائية في أقصى الصعيد، إنه لا يرى في الريف أي نوع من الجمال، والحياة فيه ليست إلا يوما مملا طويلا ممتدا بلا نهاية. لذلك يسمع حميدة صفير القطار الذاهب إلى القاهرة كأنه يسمع نــداء غامضـا يدعـــوه – كالنداهة – إلى عالـم سحــري، يتسامى في خياله فوق الحياة العادية. لذلك فإنه يترك القرية هاربا من أسر علاقته بالمرأة التي أحبته، ومن كل القيود التي تشده بأغلالها إلى الواقع اليومي الذي اعتاده الآخرون ورضوا بقبوله أو الإذعان له. يفر حميدة إلى القاهرة ليضيع في زحامها، ويفشل مرة أخرى في أن يحقق ذاته، ويكتشف أنه لا مفر من النكوص.
أما”قناوى”فإنه كسلفه حميدة يهرب من بلدته في الصعيد، ليستقر في”باب الحديد”، في القاهرة، لكنه أيضا لا يجد لأزمته الذاتية حلا في هذا الواقع الجديد، بل تأخذ هذه الأزمة شكلا أكثر حدة، فاغترابه عن الواقع من حوله يزداد عمقا بسبب ساقه العرجاء. ( قام يوسف شاهين فى”حدوتة مصرية”بإلقاء الضوء على هذا الملمح من الشخصية بقوله :”كل واحد فينا أعرج بطريقته”، وكأن الساق العرجاء ليست إلا معادلا موضوعيا للاختلاف عن الآخرين، هذا الاختلاف الذي يرفضه الآخرون ! ). وأرجو أن تتأمل كيف أن قناوى يصنع لنفسه عالما”طوباويا إذ يعلق صور نجمات السينما على جدران كوخه، فالسينما ملجأه وملاذه، وحين يخرج من عالمها ليحاول التفاعل مع الواقـع – مجسدا في”هنومــة”– فإنه يواجـه بالرفـض، مما يدعـوه للانتقـام الدامـي، وحين يساق في أخر الفيلم – في مشهد يذكرني كثيرا بالمشهد الأخير من الفيلـم الامريكـى”سانصــيت بوليفـارد”( 1950 ) – مقتـادا إلـى مستشفــى المجــانيـن، فإنـه يصــرخ :”هاأوريـكــم”، وبالفعل قام يوسـف شاهيـن في أفلامـه التاليـة بتنفيـذ وعـده وانتقامـه، بأن”أورانا”أفلاما تتحدث دائما عن واقع يخنق الذات.
وبقدر إعجاب شاهين بشخصية قناوى، حتى انه قام بتمثيلها بنفسه، فإنه كان يرى أوجه النقص الخطيرة فيها ( وفيه ؟ )، وأرجو أن تلاحظ الحبكة الفرعية ( أو الخلفية بكلمات أدق ) التي تدور عليها قصته قناوى، لقد كان رئيس الحمالين في محطة”باب الحديد”يسعى لإنشاء نقابة، ويخوض صراعات عاتية، لقد كان الواقع يموج بتغيرات هائلة، لكن قناوى ظل لاهيا عنه بصور نجمات السينما وعشقه من طرف واحد تجاه هنومة. وليس غريبا أن تصبح هاتان الحبكتان،الرئيسية والفرعية، هما محور أهم أفلام شاهين – من وجهة نظري –”إسكندرية كمان وكمان”( 1990 )، إذ يبدو يحيى مشغولا بفتاه الذي هجره، وكان يجد فيه صورته الشابة في الفن والحياة، بينما في الخلفية يدور إضراب الفنانين الشهير، مطالبين بنقابة ديموقراطية. وفى هذا الفيلم الأخير صرخت نبقة في يحيى الاسكندرانى :”إنت تعمل عننا روايات وبس، وكلها كدب في كدب، زى المرهم الأسود اللي كنت حاطه على وشك يوم”باب الحديد”، لكن إحنا الزفت بحق وحقيق”!
كأن ذلك اعتراف من يوسف شاهين بأنه لم يكن صادقا مع الواقع الخارجي لأنه كان مهتما بواقعه الداخلي الذاتي، ومن نفس الفيلم أيضا نقتبس اعترافا أخر، انه يقول لامرأة بسيطة أن ( أحسن أفلامي” إسكندرية ليه”، هو اللي أخذ جوايز )، فتهز رأسها في استهانة قائلــة : ( لأ، أحسن أفلامك”الأرض”... ). وبالفعل كان”الأرض”تتويجا للمرحلة الكلاسيكية من تاريخ السينما المصرية، وهو الفيلم الذي ما يزال يحتل القمـة في معظم استفتـاءات النقـاد المصرييـن، لأنه حدوتة إنسانية بسيطة وعميقة في آن واحد، تصور نضالا تاريخيا من خلال شخصيات تكاد أن تتوحد معها في ألامها وأحلامها، لأن هذه الأحلام لم تكن الهروب من الواقع أو التمرد الذاتـي عليـه، وإنما الانطلاق من هذا الواقع لتحقيق واقع أكثر جمالا وعدلا.
صلاح أبو سيف ؛ الحكواتى
كلما جاء ذكر صلاح أبو سيف وردت إلى الذهن على الفور صفة”الواقعية”، بسبب المفهوم الشائع – الذي نراه غير دقيق – عن أبو سيف والواقعية معا، فالواقعية أكثر دقة وحدة من أسلوب أبو سيف، وعالم أبو سيف أكثر اتساعا من أن يقتصر على الواقعية وحدها. لذلك اخترت الملمح الرئيسي عنده كبؤرة لأعماله في المرحلة الكلاسيكية أو المرحلة اللاحقة لها، وهو قدرته الرائعة على السرد السينمائي على نحو يصل إلى المتفرج العادي والمثقف على السواء، وهو من أجل هذا السرد يستعين بالكثير من عناصر الحدوتة الشعبية ليدفع الحبكة إلى الإمام، مثل الاراجوز في”الوحش”( 1954 ) أو شاعر الربابة في”الفتوة”( 1957 )، كما لابد أنك قرأت كثيرا عن "المجاز" عند أبوسيف وتشبيهاته التى ينثرها فى أفلامه ، مثل إعـلان المشـروب الغـازي”كبيـرة ولذيـذة”، وبغل السرجة في”شباب امرأة”( 1956 )، أو مثل قرني الثور المعلقتين على الجدار في”القاهرة 30”( 1966 )، وإن كان هذا التشبيه الأخير قد شاهدته في فيلم تجارى إيطالي حوالي تلك الفترة ذاتها. لكن ما أريد أن أشير له هنا أن أبو سيف لم يكن يتردد عن استخدام التعبيرية – نقيض الواقعيــة – عندما يضطـر إلى ذلك، ففي فيـلم”أنا حـرة”( 1959 ) يصــور”الضمير”في مشهد حلم، إنه يأتـي كظـل غامــض ينبثـق من الخلفيـة ويمتد حتى مقدمـة الكـادر، حتى لو كان تنفيذ المشهد يحاكى مشهــدا من فيـلم هيتشكوك”إني اعتـرف” ( 1953 )، كما أن الموسيقى مأخوذة من الفيلم الامريكى”تأمين مزدوج”( 1944 ). ( قارن أيضا المشاهد التعبيرية للحظات القتل فى "ريا وسكينة"، أو لحظة فقدان نفيسة بكارتها في”بداية ونهاية”).
إن أهمية صلاح أبو سيف من وجهة نظري تنبع من اهتمامه بالتفاصيل الصغيرة و الرقيقة التي أضفت على أفلامه”مظهرا”واقعيا، لكن الأهم هو أنه كان واعيا كل الوعي بضرورة أن يترك أثرا باقيـا و عميقـا على المتلقــي، وهو في سبيـل ذلك يستعيـن بكل التوابــل السينمائيـة الجماهيــريـة، الأغنية والرقصة والخناقة التي تمزج بين العنف والكوميديا، وحتى المشاهد الجنسية الساخنة. وإنني أعتقد أن هناك في هذا المجال تأثيرا جدليا بين نجيب محفوظ و صلاح أبو سيف، اللذين اشتركا معا في صناعة بعض من أهم أفلام تلك الفترة، وعندهما تجد عناصر الميلودراما ( وليس في الميلودراما أي عيب كما يتصور البعض، وليرجع القارئ إلى دراسات الدكتور على الراعي في هذا السياق )، كما تجد المصادفة، والشخصيات النمطية مثل المومس الفاضلة، والشيخ الغامض صاحب الأسرار، والفتوة الذي يتصارع بداخله الخير والشر.
أن تكون”واقعيا”بالمعنى الدقيق للكلمة قد يعنى – في الكثير من الحالات، خاصة في سياق تاريخي غير مستقر – أن تتصادم أحيانا مع الواقع، لذلك تريد أن تكشف عنه لكي يتغير. وعلى العكس كان أبو سيف يسعـى إلى نــوع من”الحـل الوسـط”سواء مع الواقـع أو مع جمهـور السينـما، فلم يكن يفكر مرة واحدة في أي من أفلامه إلا وكان الجمهور في مقدمة حساباته، كما أنه نادرا ما كان يحاول نقض الأفكـار والمفاهيـم السائـدة في عصره. إنه يريـد تطويـرها لا تغييـرها، وإن كانت هناك استثناءات نادرة مثل”بين السماء والأرض”( 1959 )، أو الفيلم المشابهة له في المرحلة اللاحقة”البداية”( 1986 ). ولعل هذا هو السر في أن صلاح أبو سيف كان وما يزال أكثر اقترابا من الجمهور البسيط، على نحو لم يستطع تحقيقه فنانون آخرون لا يقلون عنه موهبة وأصالة، كما أن معظم أفلام أبو سيف لم تكن في جوهرها نقدا للواقع”المعاصر”، بل كانت تميل في الأغلب إلى أن ترفع الشعارات الصريحة التي تعلن عنها السلطة السائدة، ولعل المقارنة بين تفسير رواية نجيب محفوظ “القاهرة الجديدة”وتحويلها إلى فيلم ”القاهرة 30”( 1966 ) يشير إلى ذلك بوضوح. ( هل كان يملك الجرأة الفنية على تحويل زمن الرواية إلى الواقع الراهن ؟! ).
لم يكن غريبا أن يختفى – أو يكاد – انتقاد الواقع الراهن السائد في معظم أفلام أبو سيف، فكانت معظم أفلامه ذات المضمون”الثوري”تدور في أطار الإحالـة إلى”عهـد بائـد”، مثل”الوحـش”و”الفتوة”و”بداية و نهاية”و”القاهرة 30”و”الزوجة الثانية”، وحتى”المواطن المصري”( 1991 ). كما أتت أفلام أخرى له لتشيد بالعمل الوطني والفدائـي في فتـرة سابقـة تجاوزهـا العصـر، مثل”لا وقت للحب”، وأن ترفع أفلام مثل”هذا هو الحب”و”أنا حرة”و”الطريق المسدود”شعارات الدعوة لحرية المرأة في سياق يرحب بهذا الشعار. ( قارن ذلك بفيلم ”وسقطت في بحر العسل”( 1977 )، كان السياق السياسي والاجتماعي والثقافي قد تغير، فبدت المرأة في هذا الفيلم وكأنها قد عادت بإرادتها عشرات السنين إلى عصر الحريم ! ).
لقد كان”الوحش”مرتبطا في عملياته الإجرامية بالإقطاع، كما كان”الفتوة”صنيعة لفساد القصر”الملكي”، و قصة السقوط الاجتماعي في حضيض الفقر في”بداية و نهاية”مرتبطة بمجتمع”ما قبل الثورة”، والانحراف الأخلاقى في”القاهرة 30”ليس إلا نتيجة للحياة الحزبية المهترئة في العهد البائد، والعمدة الظالم في”الزوجة الثانية”ينتمي إلى ماضي الظلم والهـوان... إن مثـل هذه المعالجـات”شبـه الواقعيــة”لا تتيـح للمتلقـي أن يفهـم واقعـه المعاصـر، وبالتالي فإنه لن يسعى إلى تغييره. لكن”اللمسات الواقعية”في التفاصيل الصغيرة تملأ أفلام صلاح أبو سيف : قضبان ديكور الحديد المشغول في قصر المرأة الثرية في”الأسطى حسن”( إنها قد ترمز أيضا إلى حصار البطل الفقير عندما يدخل هذا العالم )، وتلك اللحظات الحميمة في”هذا هو الحب”للأم وهى تتأمل المطر من وراء زجاج النافذة، وذلك الأب الحنون، الموظف متواضع الحال في”الوسادة الخالية”، والمشهد الافتتاحي من”شباب امرأة”لمسيرة أقدام عارية خشنة، وحبل ممتد، وسيقان جاموسة، وأيدي تتداول تبادل الجاموسة والنقود، ويد تحنو على رقبتها كأنها لحظة وداع، لنعرف أن الأم الفلاحة تبيع جاموستها لكي يستطيع ابنها أن يذهب لاستكمال تعليمه في القاهرة.
وجهة نظري الخاصة أن صلاح أبو سيف كان”انتقائيا”، يأخذ من كل مذهب فني ( ومن كل من ساعده طوال حياته الفنية ) أفضل العناصر التي يصهرها في عالمه، وبهذا المعنى فإن صلاح أبو سيف كان”واقعيا”في حياته الفنية أكثر مما كان في فنه... إنه تجسيد لحكمة”ابن البلد”في قدرته على التفاعل مع العالم الذي يعيش فيه، وإيجابيته في التعامل والتكيف مع الواقع، وليس تغييره.
توفيق صالح ؛ خارج السياق، وفى القلب منه!
برغم أن أفلام توفيق صالح”المصرية”( إنتاجا ) لا تتجاوز الخمسة أفلام ( وجميعها تم صنعها في هذه المرحلة الكلاسيكية )، فإنني أعترف أنه من الصعب تلخيص عالمه الفني في هذه المساحة المحدودة، لكنني سوف أحاول. إن شئت نقطة انطلاق إلى هذا العالم فهي أن توفيق صالح من أكثر أبناء جيـله هما و اهتمامـا بالواقع، إنه يحـاول دائمـا الاقتـراب منه إلى أقصى حد ممكــن، وفهمه، والبحث عن إيجابياته وسلبياته، وإثارة الرغبة دائما لتغيير هذا الواقع نحو الأجمل، والأعدل.
حتى وهو يعالج سينمائيا الرواية الأدبية”يوميات نائب في الأرياف”( 1968 ) لتوفيق الحكيم، والتي تدور - بالمصطلحات التقليدية – في”العهد البائد”، فإن توفيق صالح ينهى فيلمــه بأن كلمـات مثل”الشعـب”أو”العدالــة”ما تزال غامضــة. وفى معالجـة أخرى، عـن”المتمردون”( 1968 ) لصلاح حافظ، تبدو مصحة الأمراض الصدرية، المعزولة عن العالم، أشبه بالمعتقل الذي ينفى فيه النظام المختلفين معه وعنه ( حتى لا يصيبوا الآخرين بالعدوى، التي تعنى هنا التمرد على الواقع الراهـن )، كما أن عالـم المصحـة – الذي يبدو في الظاهـر عالمـا دراميـا مغلقـا – هو في حقيقة عالم مصغر ( ميكروكوزم ) للعالم خارجه، أو بالأحرى للنظام الاجتماعي الذي يكرس الفوارق بين الطبقات. وفى”السيــد البلطــي”( 1968 ) يدور الصـراع حول تياريـن : الالتصاق بموروثات الماضي، والانطلاق نحو المستقبل، أو أنه يدور بكلمات أدق حول ضرورة التقدم والتطور. أما في”صراع الأبطال”( 1962 ) فإن نضال طبيب شاب ضد تفشى وباء الكوليـرا في قريــة صغيـرة يكشــف لـه – ولنـا – أنه ليـس نضـالا”طبيـا”، وإنمـا هـو نضــال”سياسي”، من أجل الحصول على حرية الوطن والمواطن، وعلى الحق في حياة كريمة لا تعرف الفقـــر والجهــل والمـرض والظلــم الاجتماعــي. وما دمنا نمضـى مع أفلامــه من أخرهــا إلى أولهـا، فسوف ننتهـي إلـى”درب المهابيل”( 1955 )، وفيه أقسى وأصدق صورة سينمائية لما يمكن للفقر أن يصنعه في نفوس البشر، إنه ينزع عنهم حتى إنسانيتهم ويحولهم إلى وحوش.
أهم ما في المعالجة السينمائية عند توفيق صالح هو وعيه الدائم بشكل التأثير في المتفرج، ليس على طريقة صلاح أبو سيف الذي يميل إلى”تدليل”هذا المتفرج سواء في الشكل أو المضمون، بل يأخذ هذا التأثير عند توفيق صالح شكل الاستفزاز، إنه يدفع المتفرج دائما إلى التساؤل حول ما يراه على الشاشة، وبالتالي التساؤل حول الواقع الذي تطرحه هذه الصورة السينمائية للواقع. وفى كل أفلام توفيق صالح هناك ملامح تتكرر، تبدو شديدة الاقتراب من”الواقعية”بتعريفها الدقيق الذي طرحناه في بداية هذا البحث، حيث الشخصيات تعيش في”سياق”ذي أبعاد متكاملـة، والواقع الفيلمي يشير إلى واقع أكثر امتدادا و عمقا، ويكاد صانع الفيلم أن يختفي ليترك المتفرج أمام الواقع ( الفيلمي و الحقيقي ) وجها لوجه.
إن هذه الملامــح السينمائيــة تتجلــى في العناصــر التاليـة ( قد لا أستطيــع إحصاءها كاملـــة، وليسامحني القارئ، عن إغفال بعضها ) : المكان واضح المعالم تماما، يبذل فيه توفيق صالح جهدا فائقا لكي يصبح كالبلورة التي يتكثف فيها الواقـع بكل أبعاده، والزمـان محـدد تمامـا، تكاد أن تضع له قوسي البداية والنهاية دون عناء، ومع ذلك فإنك ترى ما قبل البداية وما بعد النهاية، لأن هذا الزمان ليس إلا لحظة من زمان أكبر كان وما يزال مستمرا، أما الحدث فهو شديد الكثافة ( إلى حد يشكل إرهاقا على المتفرج في بعض الأحيان )، ولا يترك توفيق صالح سيناريوهات أفلامه دون أن يعالجها بنفسه، لأنه يريد لها أن تتصاعد دائمـا نحو ذروة دراميــة”تتصادم”فيها أطراف الصراع، كأنه يدرك أن هذا الصدام هو الطريق الوحيد لحل تناقضات الواقع.
وأرجو أن تتوقف قليلا عند البطل فى أفلام توفيق صالح، الذي يخطئ بعض النقاد – للأسف – بوصفه أنه ينتمي إلى”الواقعية الاشتراكية”، فالحقيقة أن الأمر على العكس تماما : البطل عند توفيق صالح يريد التغيير ويسعى إليـه، لكنه هو نفسـه يحتوى على صراعـات ذاتيـة داخليـة، إنه يحارب التخلف أحيانا لكنه لا يزال يحمل بعض أثار هذه القيم المتخلفة، وهو يناضل ضد الديكتاتورية لكنه يمارسها عندما تؤول المسئولية إليه، وهو يحارب الأسطورة لكنه ما يزال واقفا في أسرها وسحرها. وهذا الصراع الداخلي هو الذي يجعل الدراما أكثر عمقا، وقل أيضا أكثر واقعية. وليست هناك”نهاية سعيدة”في أفلام توفيق صالح، لأنه ليست هناك حلول توفيقية أو تلفيقية لتناقضات الواقع، ليخرج المتفرج وهو يطرح على نفسه عشرات الأسئلة باحثا لها عن إجابات.
لقد كان توفيق صالح هو الأقرب إلى قلب الواقع، وهو فى نفس الوقت على اليسار منه، لقد كان مع الثورة، لكنه كان يرى سلبياتها أيضا، ويتمنى لو استطاعت أن تتجاوز هذه السلبيات. بكلمات أخرى فإنه كان "يحب" الثورة، ولأنه الأكثر صدقا فى حبها من أعماقه فإن ككل محب عاشق كان قاسيا وقاطعا فى رغبته أن تمضى الثورة نحو مستقبل أكثر جمالا وعدلا .... لكن الثورة ذاتها كانت تمضى نحو منعطف خطر، فمنذ السبعينات وحتى اليوم وهى تعيش انقلابا حقيقيا وكاملا عليها، ولتتأمل حالنا على المستوى الداخلى والخارجى لتدرك أن الزمان دار دورة كاملة، ليعود من جديد إلى النقطة التى اندلعت فيها الثورة!
Subscribe to:
Posts (Atom)