Monday, August 30, 2010
أفلام التحريك بين الحواديت والرسائل الأخلاقية والسياسية
ظلت أفلام التحريك – التي نسميها أحيانا على نحو خاطئ افلام الكرتون – مصدرا للمتعة السينمائية الخالصة عند الأطفال, في تلك الشرائط القصيرة التي كانت تعرض قبل أفلام الكبار الروئية الطويلة, وأصبحت شخصيات مثل " ميكي ماوس " و" توم وجيري " تمثل بالنسبة للطفل كائنات حقيقية يصدق وجودها, ففي عالم سينما التحريك تكتسب الحيوانات والدمى وحتى الجمادات ملامح إنسانية في الشكل والسلوك, تتصارع وتتصالح وتخوض مغامرات تنقل الطفل إلى عالم يمزج بين الواقع والخيال, لكنها كانت في كل الحالات تخاطب في الطفل الجانب المطمئن المتفائل حين تجعله يعيش في عالم سينمائي لا يعرف معني الخوف أو الألم, فقد يسقط القط "توم" من علو شاهق لتتناثر شظاياه لكنه في المشهد التالي يظهر صحيحا معافي دون خدش واحد, ليستمر من جديد في مطاردة الفأر " جيري ", فهي دائما شخصيات لا تعرف التجارب القاسية المؤلمة التي يحتشد بها الواقع الحقيقي.
كانت هذه الأفلام الأولى للتحريك تتعامل فقط مع الجانب الخيالي الخصب في وجدان الطفل, في حكايات – أو بالأحرى " نمر" – ينتصر فيها الخير دائما على الشر, والضعيف على القوي, حتى لو تحدثت أحيانا وبرفق بالغ عن بعض الأحاسيس الحزينة مثل شعور " البطة السوداء " بالغربة عن رفاقها والاضطهاد من الكبار, أو فقدان الفيل الصغير " دامبو" لأمه, لكن سرعان ما كانت سحابات الحزن تنقشع, لتنتهي الحدوتة دائما على نحو مغرق في التفاؤل, ليخرج الطفل من قاعة العرض وقد أفرغ – بتوحده مع هذه الشخصيات – توتراته البسيطة, مستعدا ليمارس طفولته البريئة مع العالم الواقعي من جديد.
ولشركة " ديزني" الفضل في تحويل هذه الأفلام القصيرة إلى أفلام روائية طويلة مع " الأميرة البيضاء والأقزام السبعة" (1937) , كما كان لها الفضل أيضا بعد حوالي ستة عقود في إعادة نمط فيلم التحريك الروائي الطويل في العديد من الأفلام كان أشهرها " الملك الأسد" (1994) , وبين هذين الفيلمين كانت رحلة طويلة لفن التحريك سواء على مستوى الشكل حين أصبح من الممكن استخدام تقنيات الكومبيوتر التي تتيح بالضغط على بعض الأزرار تنفيذ ما كان فنانو التحريك يستغرقون شهورا طويلة في تحقيقه , او على مستوى المضمون عندما تحولت هذه الأفلام من إعادة إنتاج قصص الأطفال المعروفة إلى كتابة سيناريوهات مبتكرة لا صلة بينها وبين الحواديت التقليدية . ومع الإيرادات الضخمة التي حققها " الملك الأسد" عرفت السينما الأمريكية أن نمط فيلم التحريك الروائي الطويل يمكن استثماره ليحتل مكانا ثابتا كل عام بين الأنماط الأخرى , وأن هذا الاستثمار قد يصل إلى مدى أبعد مع تسويق البضائع المرتبطة بهذا الفيلم أو ذاك : القمصان والدمى والحقائب والدفاتر وألعاب الفيديو وشرائط موسيقى الفيلم , لكن الأهم هو إدراك صناع هذه الأفلام أنه يمكن لهم توسيع قاعدة الجمهور الذي يراها بحيث تصلح للصغار والكبار معا , وهو ما يعني أن فيلم التحريك – الذي يبدو في ظاهره موجها للمتعة الطفولية – يحمل مستويات عديدة من التفسير والتحليل , حين تكون عناصر التسلية والامتاع في حقيقتها وسائل لبث " رسائل" موجهة لوعي الطفل ولاوعيه في وقت واحد , وهي الرسائل التي تتفاوت بين الإيحاء للطفل – والمتفرج الكبير أيضا – بأنه " ليس في الإمكان أبدع مما كان" , وبين مساعدة الطفل على إدراك حقائق الحياة الحقيقية , وامتلاك حاسة نقدية تجاه الواقع من أجل تطويره وتغييره . انتقلت إذن أفلام التحريك الروائية الطويلة من عالم البراءة الفنية إلى عالم فني أكثر تعقيدا يقتضي أن ننظر إلى هذه الأفلام وقد تخلينا عن افتراض نواياها الطيبة التي تزعم أنها تسعى إلى التسلية وحدها , فهي التسلية التي لا تتخلى لحظة واحدة عن ترسيخ متعمد لمفاهيم ومواقف محددة في وجدان الأطفال .
من البراءة إلى الدهاء
يمكنك أن تجد نموذجا مجسدا للفارق الهائل بين أفلام التحريك الروائية القديمة والجديدة إذا ما قارنت بين فيلمي شركة " ديزني" : "الأميرة البيضاء والأقزام السبعة" و "الملك الأسد" , فالفيلم الأول كان مايزال واقفا على أرض تقنيات التحريك التقليدية من خلال أسلوب الرسم "الكادر الجديد بعد الكادر السابق" , وإن كان الفيلم قد حقق قفزة إلى الأمام مع استخدام الألوان والمنظور اللذين يوحيان بعالم ثلاثي الأبعاد حين تتحرك الكائنات والأشياء في مقدمة الكادر على نحو أسرع من تلك التي تقبع في خلفيته , ومع إتقان تحديد الملامح "الإنسانية" الواضحة لكل شخصية تعيش في أماكن تحاكي الواقع في تفاصيله . لكن "الأميرة البيضاء" ظل ملتصقا بحواديت الأطفال التقليدية , وهو الذي يعتمد على إحدى حكايات "الأخوين جريم" الشهيرين, التي تدور عن عالم خيالي وسحري تعيش فيه شخصيات مثل الأميرة الجميلة المضطهدة , التي تأكل تفاحة مسحورة فتنام في تابوت زجاجي نوما طويلا لن يوقظها منه إلا فارس الأحلام , وتقطن ذلك البيت الصغير حيث يدور في فلكها أقزام سبعة خفيفو الظل , بينما تطاردها زوجة الأب الشريرة بمرآتها السحرية , لتنتهي الحدوتة بطبيعة الحال إلى انتصار الخير على الشر .
في "الملك الأسد" لن يفاجئك فقط أن يكون فن التحريك التقليدي قد استعان ببعض تقنيات الكومبيوتر لكي يزيد من " واقعية" ما نراه على االشاشة , لكن المفاجأة الحقيقية هي أنه لا يعتمد على أية حدوتة معروفة للأطفال , بل إنه يستعير بعض خيوطه الدرامية من مآس إغريقية قديمة مثل "ألأوريستية" أو من التراجيديا الشكسبيرية "هاملت" , حيث يكون على البطل أن ينتقم لمصرع أبيه الملك على يد العم الخائن !! قد نتصور للوهلة الأولى – وهذا صحيح إلى حد بعيد – أن تلك الإحالات الى الأغريق أو شكسبير سوف تفوت على الإدراك "الواعي" لمعظم الأطفال , لكن ما يجب ألا نتجاهله أن الرسائل المتضمنة داخل هذه الحدوتة سوف تستقر في "لا وعي" المتفرج الطفل . في المشهد الافتتاحي من "الملك الأسد" الذي يدور في غابة افريقية سوف نشهد ولادة "الطفل" الشبل سيمبا لأبيه الملك الأسد موفاسا , لتحتفل كل حيوانات الغابة بهذا الحدث وتغني أغنية "دائرة الحياة" فرحة بمولد الطفل الذي سوف يحق له وحده أن يرث أباه على عرش الغابة .
إن الشبل سيمبا يستغرق في العالم اللاهي للطفولة منصرفا عن "حقائق" العالم الذي يعيش فيه , مستهترا كأي طفل بالأخطار أو غير مدرك لها , متصورا أن كل حيوانات الغابة تحبه وتحنو عليه , لكن العم الشرير سكار – الذي يغار من شقيقه الملك – سوف يدبر لاغتيال الشقيق ويوهم الطفل سيمبا بأنه كان السبب في خطأ غير مقصود وراء مصرع الأب , فتجتاح نفس الطفل مشاعر الذنب وينفي نفسه بعيدا عن المملكة ليعيش في مقبرة جرداء للأفيال , لكنه سوف يعرف الحقيقة عندما يظهر له شبح الأب مرددا – كما في "هاملت" تماما – ضرورة أن يسعى الإبن للانتقام له . سوف يتوحد المتفرج الطفل بالطبع مع الشبل سيمبا في رحلته للانتقام وإعادة "الحق" إلى نصابه , لكن القراءة المتأنية للدلالات المتضمنة سوف تقود لا وعي الطفل إلى العديد من "الحقائق" أو التي يفترض الفيلم أنها حقائق , ولتتأمل تلك الدلالات – التي أشارت إلى بعضها الناقدة الأمريكية كارين شوالم – من أن الحياة في العالم الإنساني تطابق "عالم الغابة" بكل ثوابته : إن الطبيعة تفرض سلما هرميا محددا لا يمكن تغييره أو تجاوزه , حيث " سلسلة تغذية" حيوان بالتهامه حيوانا أضعف هي قانون ازلي أبدي وينطبق بشكل ضمني على البشر أيضا , وأن القوة هي المعيار الوحيد الذي يحتم أن يكون الأسد حاكما على الغابة من أعلى التل, بينما يجب على كل الحيوانات الأخرى أن تقبع في قاع الوادي لتقوم بدور الأتباع المخلصين فتلك هي "دائرة الحياة التي تحركنا جميعا" , أو فلتقل بكلمات أكثر وضوحا : الحل الأمثل هو الإبقاء على الوضع السائد.
مجموعة " بيكسار " والرسائل التقدمية
هاأنت ترى إذن أن فيلما مثل " الملك الأسد" قام بالعكس تماما من الفرضيات الأولى لفن التحريك , فبدلا من أن يضفي على الحيوانات ملامح إنسانية فإنه أكد على أن الحياة الإنسانية تدخل في إطار قوانين "الطبيعة" التي تشمل الحيوان والإنسان معا . وسوف تتراوح منذ ذلك الحين أفلام التحريك الروائية الطويلة التي تنتجها السينما الأمريكية بين رسالتين متناقضتين , حين تخصصت شركة " دريم ووركس" في صنع الأفلام ذات الاتجاه المحافظ والرسائل الرجعية, بينما نشأت مجموعة "بيكسار" – التي انضوت في البداية تحت جناح شركة "ديزني" ثم استقلت مؤخرا عنها – لتحمل في كل أفلامها رسائل تقدمية تدعو إلى إعادة النظر في "الوضع السائد" وضرورة تغييره .
كانت مجموعة " بيكسار" هي أول من قام بإنجاز فيلم روائي طويل يعتمد كلية على تقنيات الكومبيوتر لصنع أفلام التحريك ثلاثية الأبعاد , في فيلم "قصة لعبة" (1995) , وفيه تكتسب الدمى التي يلهو بها الأطفال حياة حقيقية وملامح إنسانية تتنوع في أشكالها وصفاتها وأخلاقياتها , حيث نرى الدمية راعي البقر وودي الذي كان طوال ست سنوات هو اللعبة المفضلة لدى صاحبه الطفل , لكن وودي يفاجأ ذات يوم بقدوم الدمية التي تعمل بالبطاريات بازلايت يير , لينشأ بينهما صراع حول مكانة كل منهما عند صاحبه , لكن هذا الصراع سوف يقودهما إلى العالم الحقيقي حيث يواجهان أخطارا مشتركة , ليكون عليهما تجاوز خلافاتهما والتكاتف معا , لتتأكد قيمة ورسالة الصداقة الحميمة, وتصالح القديم مع الجديد .
في الجزء الثاني " قصة لعبة2" (2001) سوف يصبح الإبهار التقني المتزايد أمرا عاديا ومألوفا , لكن مجموعة " بيكسار" سوف تهتم بالمضمون الأكثر نضجا بقدر اهتمامها بالشكل . إن الدمية راعي البقر وودي يصيبه التلف فيضعه صاحبه الطفل على الرف إلى جانب الدمى القديمة الأخرى التي نراها وهي تأسى لحالها , ويصبح وودي مهددا بالبيع لتاجر الدمى التالفة الذي يقوم بترميمها تمهيدا لبيعها إلى أحد المتاحف اليابانية , ليتحول الفيلم كله إلى الرحلة الصعبة التي يخوضها رفاق وودي من أجل استعادته وإنقاذه من هذا المصير , وهي رحلة حافلة بالمغامرات بدءا من عبور الشارع وسط السيارات المسرعة , وحتى إنقاذ وودي قبل ثوان قليلة من صعوده في صندوق إلى الطائرة التي سوف تحمله إلى المنفى . وهكذا فإن الفيلم يحتشد بالعديد من القيم الأخلاقية والرسائل السياسية : إن علينا أن نقبل أحيانا – من أجل مزيد من النضج – فكرة التغير , فالطفل قد يهمل دميته عندما تتغير اهتماماته , لكن الدمية يمكن أن تجد العزاء في إمكانية أن تصبح مصدر سعادة لطفل آخر , وأن من المهم الحفاظ على التراث وعدم بيعه للأجانب في مقابل المال , وإن لم يكن كل ما في التراث جميلا فهناك دمية راعي بقر عجوز يرضخ للأمر الواقع ويقاوم وودي ويتحايل لكي يأخذه معه إلى المتحف الياباني , وأن تحقيق الحلم – باستعادة وودي – لن يأتي عن طريق أية بطولات فردية , وإنما من خلال تكاتف الدمى جميعا من أجل هدف واحد .
سوف تتردد فكرة البطولة الجماعية في كل أعمال مجموعة "بيكسار", ففي فيلمهم التالي "حياة حشرة" (1998) نرى حكاية النملة الذكر فليك الذي يؤرقه أن " قانون الطبيعة" – الذي كرسه فيلم ديزني "الملك الأسد" – يفرض دائما على النمل صغير الحجم أن يكدح طوال العام لتأتي حشود الجراد لتلتهم ما قام " شغيلة" النمل بجمعه, لذلك يحاول فليك ان يخترع أشياء تساعده ورفاقه في الدفاع عن أنفسهم , لكن محاولاته تبوء بالفشل , وتحفز الجراد على الانتقام . وفي محاكاة ساخرة عن فيلم " الساموراي السبعة" يأخذ فليك إذنا من ملكة النمل بالذهاب إلى المدينة لاستئجار محاربين محترفين يدافعون عن النمل , لتقوده قدماه إلى مجموعة من الحشرات المختلفة الذين يقبلون بالمهمة من أجل المال , لكن الحقيقة سوف تتكشف أنهم ليسوا إلا حشرات هاربة من السيرك , ويدرك فليك الحقيقة : إن على النمل أن يدافع عن نفسه بتجميع كل الجهود , وأن ذلك لن يأتي عن طريق البطولات الفردية أبدا , وان كونك صغير الحجم لا يعني أنه ليس أمامك إلا أن تستسلم لطغيان كبار الأحجام .
وعن الكبار المخيفين سوف يدور فيلم " شركة الوحوش المحدودة" (2001) , فالوحوش التي تظهر للأطفال خلال الليل لتثير رعبهم تعيش في مدينة مغلقة تبدو كأنها شركة رأسمالية عملاقة – يشير أحد النقاد الأمريكيين إلى تشابهها مع مدينة نيويورك في لحظات الذروة !! – حيث يعمل االوحوش الذين ينتقلون في الليل لغرف نوم الأطفال لإفزاعهم , وحين يصرخ الأطفال من الخوف تقوم الوحوش بتجميع هذه الصرخات في "أنابيب" خاصة, فمن هذا الصراخ يستمد الوحوش طاقة مدينتهم . تأمل هذه الفكرة اللامعة في أن الوحوش تريد أن يبقى "الصغار" خائفين مرتعدين فتلك هي مادة الحياة التي يعيش عليها الوحوش "االكبار" , لكن المفارقة الأكثر دلالة – وخفة ظل أيضا – هي أن الوحوش في حقيقتهم يخافون من الأطفال , لتبدأ حبكة الفيلم مع الطفلة الصغيرة "بو" التي تعلقت بفراء الوحش الأزرق طيب القلب سوليفان , لتتسلل دون أن يعلم إلى مدينة الوحوش , وعندما يكتشفون أمرها تعلن حالة الطوارئ وتظهر إدارة "سي دي إيه" – يشير بعض النقاد الأمريكيين إلى تشابهها مع "سي آي إيه" ! – والتي تعني " فريق الكشف عن الأطفال وآثارهم" للبحث عن الطفلة وتطهير المدينة من آثارها. وبينما تبدو كل الوحوش الأخرى مهتمة ومهمومة بالعثور على الطفلة والتخلص منها , فإن الوحش سوليفان سوف يبدي تعاطفا وحبا أبويا تجاهها , ليكتشف – وياللمفاجأة ! – أن ضحك الأطفال يخلق طاقة أكبر بكثير من تلك االتي يخلقها صراخهم , وهو الأمر الذي سوف يجعل الوحوش في نهاية االفيلم يغيرون من سياساتهم تجاه الصغار , فيبعثون بوحوش صغيرة لطيفة لتدغدغ الأطفال وتضحكهم للحصول على الطاقة !
إن الرسالة الأخلاقية والسياسية هنا تؤكد على "التفاعل" وليس الصراع , بين الصغار والكبار أيا كان المستوى الذي تتحدث عنه , وهي الرسالة التي سوف تصبح أكثر تعقيدا ونضجا مع فيلم "البحث عن نيمو" (2003) الذي يحكي عن الأب السمكة مارلين الذي يفقد زوجته وأطفاله بسبب هجوم مباغت من أسماك متوحشة كبيرة , ولا يبقى له سوى إبن وحيد بزعنفة ضامرة هو نيمو – ذلك هو إسم قائد الغواصة الخيالية في "عشرون ألف فرسخ تحت الماء" – ويكرس الأب حياته لرعاية إبنه حتى أنه يطارده في كل مكان حتى لا يغيب عن بصره , ويمنعه من الذهاب إلى المدرسة خوفا عليه من تجارب الحياة , لذلك ينشأ التوتر بين الأب الخائف عصبي المزاج والإبن الذي يريد أن يمارس حياته " كإنسان" طبيعي .
إن ذلك يدفع نيمو للهرب من رقابة أبيه أحيانا لكي يثبت لأصدقاء طفولته أنه يستطيع أن يجاريهم في جرأتهم , فيسبح بعيدا حيث يتم اصطياده عن طريق غواصين , لينتهي به المطاف حبيسا في حوض صغير للأسماك في عيادة طبيب للأسنان . ويدءا من تلك اللحظة يكون على الأب أن يتخلى عن تردده وخوفه من مواجهة المخاطر, ليمضي في رحلة طويلة بحثا عن إبنه نيمو , بينما يكون على نيمو أن يجد وسيلة للهرب من حوض الأسماك لكي يعود إلى المحيط . تامل استحالة أن يجد الأب إبنه في هذا البحر الواسع أو أن يعود الإبن من الحوض إلى البحر, لكن الفيلم يعلم الأطفال – ويعلمنا – أنه ليس هناك مستحيل إذا ما كان علينا أن نحصل على حريتنا . وإذا كان الفيلم لا يتخلى لحظة واحدة عن عنصر الإمتاع من خلال الطيف اللوني الواسع للكائنات البحرية , أو إضفاء ملامح شكلية ونفسية إنسانية على كل منها ( مثل محاولة أسماك القرش أن تتخلى عن أكل اللحم لتصبح نباتية! ), أو من خلال مشاهد المطاردات والتشويق العديدة , فإنه لا ينسى أن يؤكد على القيم الأخلاقية التي يريد توصيلها إلى المتفرج الطفل : إن كل التضحيات تهون إلى جانب الحصول على الحرية , وأن الإنسان – المجسد أمامنا على الشاشة في صورة سمكة – يمكن أن يقهر الخوف والتردد كما في حالة الأب , وأن يقهر العجز الجسماني للزعنفة الضامرة كما في حالة الإبن , وأن على الجيل الأكبر أن يتخلى عن بعض نزعاته المتسلطة حتى ينمو الأبناء ليصبحوا قادرين على مواجهة العالم , وأن الجيل الأصغر سوف يدرك يوما أن حرص الآباء عليهم لم يكن قهرا لكنه حب حقيقي , لكن الأهم هو تلك القيم السياسية التي تتجسد في أن تنوع أسماك المحيط يجب ألا يعني الصراع بينها بل التفاعل والتكامل , وأن الأهداف لا يمكن الوصول إليها على نحو فردي , فالإبن نيمو ليس بطلا فرديا على الطريقة الهوليوودية , وجهوده للحصول على حريته والعودة إلى المحيط تأتي من اشتراك كل الأسماك الأخرى السجينة معه داخل حوض الأسماك الضيق .
النزعة الفردية الهروبية عند " دريم ووركس"
وإذا كانت مجموعة "بيكسار" تؤكد دائما على هذه البطولة االجماعية, وعدم خداع المتفرجين من الأطفال والكبار, بل مساعدتهم على مواجهة المواقف الجادة في الحياة على مختلف مستوياتها , فإن أفلام التحريك الروائية الطويلة التي تصنعها شركة " دريم ووركس" تفعل العكس تماما , فهي تغرس في وجدان الطفل مفهوم البطولة الفردية , وتعمد إلى تعقيد الحبكة وتحميلها بإشارات وإحالات إلى العديد من أفلام الكبار , وتختار نجوما مشهورين لأداء أصوات كائنات التحريك الخيالية , مما يقود المتفرج في النهاية إلى عالم سحري هروبي يحتشد بالعديد من القيم السلبية المحافظة .
ففي العام 1998 الذي قدمت فيه مجموعة " بيكسار" فيلم "حياة حشرة" , أتى من " دريم ووركس" فيلم "النملة زي" , الذي يحتشد بالتعقيد والتفلسف بدءا من عنوانه بالإنجليزية , الذي يعني عند نطقه " النمل" أو "النملة زي" , بل إن الحرف "زي" نفسه يشير في اللغة اليونانية إلى معنى الحياة بقدر إشارته للحرف الهجائي الذي يقبع في نهاية الأبجدية ! يحكي الفيلم عن النملة الذكر " زي" (صوت وودي ألين) الذي نراه في المشهد الافتتاحي مسترخيا على سرير طبيب نفسي وهو يشكو من أنه لا يستطيع التواؤم مع الحياة في مستعمرة االنمل , وعلى عكس بطل " حياة حشرة" الذي كان يحاول أن يحث كل النمل على عدم الاستسلام للضعف والهوان أمام الجراد , فإن كل ما يبحث عنه "زي" هو الفردية والاختلاف عن بقية النمل , أو كما يقول لطبيبه النفسي : " إنني أعاني من أنني الأخ الأوسط لخمسة ملايين من الأشقاء ... هل من المفروض علي أن أصنع كل ما أصنعه من أجل الآخرين والمستعمرة؟ ماذا عن احتياجاتي أنا؟ ". وبالصدفة يقابل " زي" الأميرة النملة بالا ( صوت شارون ستون ) في أحد المراقص , وبينما تنخرط جموع النمل في رقصة ميكانيكية فإن " زي " يرقص بطريقته العفوية الحيوية , مما يجعل الأميرة تفتتن به , ولأن " زي " يريد أن يبدو أمامها بطلا فإنه يحتال حتى ينتحل شخصية ضابط في الجيش , لكن حيلته تنقلب عليه عندما يجد نفسه مساقا وسط الحشود إلى حرب دموية طاحنة ضد النمل الأبيض المفترس , وهي الحرب التي تحاكي مشهدا عنيفا مماثلا في " إنقاذ الجندي رايان " , وهو ما ليس غريبا على أية حال فهو الفيلم الذي أخرجه سبيلبيرج أحد الشركاء الرئيسيين في شركة " دريم ووركس " , وهكذا فإن الرسالة المتضمنة في " النملة زي " تتحدث عن التفرد والبطولة – حتى لو كانت زائفة – وهو ما يكرس القيم السائدة بالفعل في الثقافة الأمريكية الراهنة بدلا من إعادة النظر فيها و تغييرها .
في فيلمي " شريك "(2001) و " شريك2 " (2004) سوف تصبح الرسالة الأخلاقية والسياسية أكثر غموضا والتباسا , مع مزيد من الاقتباس عن عشرات الأفلام الروائية للكبار , والسخرية الجامحة من الشركة المنافسة ديزني سواء في شخص مديريها المسئولين أو شخصياتها الكارتونية ! يحكي الفيلم عن الغول شريك قبيح الشكل الذي يريد أن يعيش وحده في مستنقع بعيدا عن العالم , وهو يستمتع بقبحه وفرديته ويدافع عنهما لكنه يجد نفسه مضطرا – في مقابل استعادة وحدته – أن يقبل مهمة إنقاذ الأميرة الحسناء ( صوت كاميرون دياز) من التنين الذي سجنها في قلعته . لقد كانت الأميرة تنتظر أن يأتي فارس أحلام وسيم لكي يحررها ويتزوجها , لكن أملها خاب عندما رأت مخلصها الغول , وإن كانت العاطفة المشبوبة سوف تدب بينهما , ليصبح السؤال الأخلاقي المحوري أمام الطفل : هل سوف تقبل الأميرة الجميلة الزواج من الغول القبيح طيب القلب ؟ أو بكلمات أخرى : هل من الممكن قبول الاختلاف بين الأعراق والثقافات ؟ أن معالجة قديمة لحدوتة " االجميلة والوحش " جعلت من الحب قوة دافعة ليستعيد الوحش هيئته البشرية الكامنة بداخله , كما أن مجموعة " بيكسار" لم تكن لتفكر أصلا في أن تجعل من هذه الشخصية الفردية المتوحدة بطلا للأطفال , لكن معالجة " شريك " بجزئيه سوف تذهب في اتجاه آخر تماما , فالأميرة تقبل أن تتحول إلى غولة قبيحة الشكل لكي تتزوج من حبيبها ! على السطح قد يبدو الفيلم منحازا إلى الجانب الأضعف – أو بالأحرى الأكثر قبحا في الطبيعة الإنسانية ! – لكن الحقيقة أنه يؤكد على أنه ليس هناك إمكان تفاعل بين الثقافات , فالاختيار الوحيد الممكن هو أن تذوب ثقافة في ثقافة أخرى , وليبق الغول غولا إلى الأبد , ولتذهب الأميرة وحدها إليه وتتحول إلى غولة , ليعيشا معا في مستنقعه البعيد , ومن المؤكد أن المتفرج الطفل لن يتوحد لحظة واحدة مع هذا االغول , خاصة عندما يرى أمامه على الشاشة حمامة بيضاء تموت من الرعب عندما ترى الغول القبيح !
وأخيرا يأتي فيلم شركة " دريم ووركس " الذي يحمل إسم " حكاية سمك القرش " (2004) , الذي سوف يذهلك أنه موجه للأطفال رغم أنه يعتمد في حبكته على فيلم " الأب الروحي " , فهناك عصابة من أسماك القرش تفرض سيطرتها على عالم البحر : الأب القاسي دون لينو ( صوت روبرت دي نيرو , الذي أثار اعتراض الأمريكيين من أصل إيطالي بسبب أدائه لصوت هذا الدور ! ) , وهو الأب ذو القلب المتحجر رئيس عصابة المافيا لكنه يحمل أخلاقيات النزاهة القديمة , وابنه فرانكي التابع المخلص لأبيه ووريثه المأمول لاستمرار عمل العصابة , والإبن الثاني ليني الذي قرر أن يكون نباتيا ( فيما يشبه السرقة عن أحد أفكار "البحث عن نيمو" ) . إن الأب يأمر الإبن المطيع بأن يأخذ الإبن المتمرد إلى عالم البحر الواسع في رحلة يتعلم فيها هذا الأخير كيف يكون سمكة قرش حقيقية , لكن الأقدار تؤدي إلى مصرع فرانكي , وتنسب التهمة خطأ إلى السمكة الصغيرة الذكر أوسكار ( ويل سميث ) الذي يعمل في مغسلة للحيتان , وهكذا يتحول أوسكار – الذي تكبر شهرته كلما كبرت الكذبة – إلى بطل في أعين الأسماك الصغيرة , فيتخلى عن حبيبته الوفية (رينيه زيلويجر) ليخونها مع العشيقة الحسناء ( أنجلينا جولي ) .
في هذا الفيلم يتجسد تماما كيف يمكن لرسائل مغرقة في سلبيتها أن تتسلل إلى أحد أفلام التحريك الروائية الطويلة الموجهة للأطفال , فكيف يمكن لطفل أن يستوعب الصراع النفسي داخل السمكة أوسكار بين الوفاء لحبيبته الطيبة أو نزواته الجنسية مع عشيقته ؟ وكيف لهذا الطفل أن يتوحد مع " بطل " مزعوم زائف ؟ لكن هذا هو مايريده الفيلم وشركة " دريم ووركس " , كما يريد أن يضع المتفرج الطفل في هذا الصراع المقتبس عن " الأب الروحي " , الذي يدور بين " أخلاقيات " المجرمين التقليديين , وأقرانهم الجدد , وعلى الطفل أن يختار بين هذين النوعين من الإجرام , وياله من اختيار !!
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment