Friday, September 03, 2010
تأملات فى أحوال السينما التسجيلية فى مصر
هل تذكر النكتة البايخة التى تتحدث عن الرجل الأمريكى الذى أراد أن يفحم رجلا مصريا فى المقارنة بين أحوال الديموقراطية فى البلدين، فأكد الأمريكى أنه يستطيع أن ينتقد رئيس الولايات المتحدة كما يشاء، فأجابه المصرى : "وماذا فى ذلك؟ وأنا أيضا أستطيع أن أنتقد رئيس الولايات المتحدة كما أشاء"؟ أرجو ألا يخشى القارئ انزلاقنا إلى السياسة، أولا لأننا أكدنا ـ ضمانا للسلامةـ على بواخة النكتة، وثانيا لأننا هنا فى الصفحات الفنية حيث نتخفف من أعباء السياسة بعيدا عن وجع الدماغ، لكن هذه النكتة سوف تقفز إلى راسك عندما نتذكر أنه منذ عام مضى كنا مشغولين بفيلم تسجيلى أمريكى هو "فهرنهايت911" من إخراج الفنان السينمائى المشاغب مايكل مور، يتحدث عن الانتخابات الرئاسية الأمريكية بقدر هائل من السخونة جعلت الدم يغلى فى عروقنا، وكان هذا الفيلم واحدا من العديد من الأفلام التسجيلية الأمريكية التى تناولت هذا الحدث بوجهات نظر مختلفة، لكن المأساة أن الانتخابات الرئاسية المصرية ـ التى تحدث لأول مرة فى تاريخنا ـ قذ مرت دون أن يفكر أحد سينمائيينا فى توثيق هذا الحدث، من خلال التيار المهم داخل أى صناعة سينما فى العالم كله، والذى يحمل اسم السينما التسجيلية التى يبدو أننا حذفناها من حساباتنا لتضيع فى زوايا النسيان.
فى الحقيقة ولكى نكون منصفين فإننا نتذكر السينما التسجيلية مرة كل عام، وهاهى سنوية السينما التسجيلية تحل هذه الأيام فى مهرجان الاسماعيلية، وفى الاسماعيلية نرى بعض الأفلام القليلة التى صنعناها طوال اثنى عشر عاما كاملة، ونمنح بعضها الجوائز، وننسى الأمر بعدها ونعود للحديث عن "عوكل" وأقرانه من الأفلام، التى يبدو أن صناعة السينما المصرية لا تتصور أنه يوجد غيرها لمخاطبة الجماهير، وإن كان غياب السينما التسجيلية على هذا النحو المثير للدهشة والأسى يشكل أحد الأعراض التى تشير إلى مرض عضال ـ ولا نقول أزمة حتى لا نثير حساسية البعض من هذه الكلمة ـ وهذا المرض يجب تشخيصه بدقة لنجيب على السؤال الجوهرى حول إذا ماكنا نعرف "ما هى السينما" أصلا، وهو السؤال الذى يطرح بدوره العديد من الأسئلة الأخرى : لمن نتوجه بالأفلام؟ ولماذا؟
الغريب فى الأمر أن كل من يشتغل بفن السينما يعرف ـ أو ينبغى أن يعرف ـ أن السينما كانت نقطة تحول فى تاريخ الفنون، فقد كانت الأب الشرعى لما يعرف باسم الفنون "التسجيلية" أو "التوثيقية" التى تعتمد على أدوات تقنية فى صناعتها وتذوقها، وتقوم على تسجيل الواقع حتى لو تلاعبت به، فالسينما فى جوهرها تبدأ دائما بعملية "تسجيل" مايدور أمام الكاميرا سواء كان واقعا حقيقيا أو متخيلا ، كما أن المتفرجين حين رأوا القطار فى فيلم الأخوين لوميير يتحرك لأول مرة على الشاشة فى اتجاههم أصابهم الرعب خوفا من أن يدوسهم لأنهم تصوروه للحظة قطارا حقيقيا.وماتزال هذه الحقيقية قائمة بعد ما يزيد من قرن كامل على اختراع ما نعرفه باسم فن السينما حتى عندما قام الكومبيوتر بخلق واقع افتراضى، فالمتفرج فى ظلام قاعة العرض ـ حتى فى الأفلام الروائية، بل فى الأفلام الروائية على نحو خاص ـ يذوب فى تلك الكتلة الإنسانية التى نطلق عليها "الجمهور" ليستقر فى وعيه ولاوعيه أن الفيلم الذى رآه ليس إلا امتدادا للعالم الواقعى، ويتبنى وجهة نظر البطل والنجم عن الحياة.
إن هذا التداخل بين الواقع والسينما هو الذى جعل السينما التسجيلية رافدا مهما فى صناعات السينما طوال تاريخها، وداخل هذا الرافد يوجد تنوع أسلوبى قد تستغرب وجوده للوهلة الأولى، فالفيلم التسجيلى ليس هو تلك الجريدة السينمائية التى يظل فيها صوت التعليق يزن بشرح ما تراه على الشاشة . لقد أخذ فلاهرتى الكاميرا فى العشرينات إلى القطب الشمالى ليقدم مايشبه الدراسة العلمية عن الإسكيمو فى فيلم "نانوك من الشمال"، وعلى الجانب الآخر تماما انشغل ماكلارين فى الستينات بتسجيل حركات راقصى الباليه فى "أداجيو" ويحولها إلى موسيقى بصرية، كما كان يوريس إيفنز يصنع أفلاما هى مزيج من الشهادة السياسية وقصائد الشعر. كانت هذه الأفلام يتم صنعها بجهد فائق حين كانت التقنيات ما تزال فى مهدها، أما اليوم فالأمر يختلف تماما مع التقنيات المعاصرة التى تسمح للفنان أن يحمل كاميرا لا تزيد عن بضع مئات من الجرامات، ويقوم بمونتاج الفيلم على كومبيوتر منزلى، ليصنع فيلمه التسجيلى ويشترك فى عشرات المهرجانات السينمائية عبر الكرة الأرضية، وهكذا أصبح الفيلم التسجيلى قادرا ليس فقط على غزو شاشات التليفزيون الفضائى، لكنه كسب أرضا لا يستهان بها حين استولى من السينما الروائية على نصيبه من شباك التذاكر، وليس ببعيد أن يبدأ منذ أسابيع وعلى استحياء عرض الفيلم التسجيلى الفرنسى "مسيرة البطاريق" فى بضع عشرات من دور العرض الأمريكية، لينافس بعد أيام قليلة على المركز الأول محتلا الألاف من دور العرض التجارية.
إن شئت الدقة فقد ذاب الخط الفاصل بين السينما الروائية ـ أو المتخيلة كما تعنى كلمة الرواية فى الإنجليزية ـ وبين السينما التسجيلية، وربما جاء التأثير الأهم للسينما الروائية الهوليودية علينا من أنها تبنت حتى فى أكثر أفلامها جموحا فى الخيال أسلوبا ذا طابع تسجيلى، كشوارع المدينة المستقبلية فى فيلم الخيال العلمى "تقرير الأقلية"، أو تضفى بهذا الأسلوب التسجيلى صدقا على وقائع تاريخية غير مؤكدة مثل الهولوكوست فى "قائمة شيندلر" ـ وليس غريبا أن يكون هذان الفيلمان من إخراج سبيلبيرج سيد صناعة السينما الهوليودية! ـ أو أن يتحول فنان سينمائى مهم مثل هيرتزوج تحولا كاملا إلى السينما التسجيلية، ففى أفلامه التى تعرض الآن فى أمريكا مثل "رجل الدببة" و"الماسة البيضاء" يكتشف هيرتزوج الجانب الخفى من النفس البشرية التى تتحدى الطبيعة والمجهول، بعد أن حاول اكتشافها فى أفلام روائية ضخمة مثل "غضب الرب" و "نوسفيراتو"، أو أن يعود بيرجمان فى فيلم "ساراباند" بعد عشرين عاما كاملة ليتقصى ماحدث لأبطال فيلمه "مشاهد من زواج" وكأنهم يعيشون فى واقع الحياة، مثلما فعل الأمريكى الشاب لينكليتر بين فيلميه "قبل الشروق" و "قبل الغروب" الذى سجل فيهما بأسلوب تسجيلى خالص علاقة بين فتاة فرنسية وفتى أمريكى التقيا على نحو عابر، وماطرأ على هذه العلاقة فى الفترة التى تفصل بين الفيلمين، أو أن يقوم المخرج المبتدئ مورجان سبورلوك فى فيلمه "إجعلنى ساندويتش سوبرسايز" بإجراء تجربة على نفسه يسجلها بالصورة والصوت ليرصد التشوهات الصحية التى عانى منها بعد شهر كامل من اعتماده على طعام النفايات الأمريكى!
ترانا هل نتحدث عن فجوة هائلة لا يمكن تجاوزها بين صناعتنا السينمائية ومثيلاتها فى العديد من دول العالم؟ أم أن عبور هذه الفجوة سيمثل الجسر الذى يمنح السينما المصرية الانفراجة للخروج من أزمتها؟ دعنا نوجز النقاط الأساسية ولنتفق بعدها أو نختلف : فالسينما للجماهير بكل شرائحها واهتماماتها وليست لزبائن المولات فقط ، والسينما يجب أن تتحدث لنا وعنا بأكبر قدر من الصدق والمصداقية حتى فى الأفلام الروائية وفى أكثرها سخرية وضحكا وهزلا، والعقلية "التوثيقية" يجب أن تزداد عمقا لدى صناع الأفلام عندنا، وهو ما يدعو المسئولين ـ الذين لا يسألهم أحد! ـ للتخلى فورا عن كل القوانين المتخلفة التى لا مثيل لها فى الدنيا وتحظر على السينمائى أن يحمل كاميرته بحرية ويسجل بها كل ما يراه فى واقعه سعيا لتفسيره وتغييره. وإذا كنا بدأنا بالحديث عن السياسة من بعيد، فإن ما يدمى القلب حقا هو أن يقوم مذيع تليفزيون إسرائيلى مرموق، وعلى حسابه الخاص، بصنع فيلم تسجيلى عن وجهات النظر المختلفة فى الانسحاب الإسرائيلى من قطاع غزة يتحدث فيه المستوطنون الصهاينة عن "مأساتهم" ـ!!ـ بينما لا نكاد نتذكر فيلما تسجيليا مصريا معاصرا عن المأساة الحقيقية التى يعيشها الشعب الفلسطينى فى حياته اليومية التى تمنح مادة ثرية لعشرات الأفلام. هل تذكر الآن النكتة التى بدأنا بها؟ فلتكن الخاتمة عن نكتة أيضا وعن فيلم تسجيلى أمريكى يعرض حاليا يدعى "الأستقراطيون"، ويسجل لنكتة واحدة يستخدمها عشرات الممثلين الكوميديين فى عروضهم، ليقول لك ان المهم ليس النكتة وإنما فن الإلقاء، ولك أن تتصور أن نكتة أمريكية واحدة صنعت فيلما تسجيليا، بينما النكتة المريرة أنه لا توجد عندنا سينما تسجيلية حقيقية مع أن واقعنا يزخر بملايين النكات!!
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment