iv dir="ltr" style="text-align: left;" trbidi="on">
شاع في الفترة الأخيرة مصطلح "السينما المستقلة"، ومثل غيره من المصطلحات الخاطئة أو الفارغة من المعنى، مثل مسلسلات السيرة "الذاتية" وأفلام البطولة "المطلقة"، بدا أن للسينما المستقلة وجودا مفاجئا في الساحة المصرية، حتى أن البعض حاول أن يجتهد في تفسير هذه النوعية "الجديدة" من السينما، ويبحث عن أسباب وجودها العارض من وجهة نظره، بينما الحقيقة أن الأغلب الأعم من أفلام السينما المصرية، منذ نشأتها وحتى خمسة عشر عاما مضت، كانت مستقلة بالمعنى الكامل للكلمة!!
ولعلك تسأل ياعزيزي القارئ: لماذا خمسة عشر عاما على وجه الدقة؟ لكننى سأؤجل الإجابة عن هذا السؤال حتى الجزء الأخير من هذه المقالات، لأبدأ معك الحكاية من أولها. السينما المستقلة كمصطلح لم تعرفه إلا السينما الأمريكية وشبيهاتها من صناعات السينما، التي تتسم بالشركات الضخمة التي تبتلع السوق ابتلاعا، في الفروع الثلاثة الرئيسية للصناعة: الإنتاج والتوزيع والعرض، وهي بذلك لا تترك إلا هامشا شديد الضيق للأفراد أو للشركات الصغيرة، أو لعلها تحارب وجود هذا الهامش، ومن هنا جاءت الحاجة لكيانات تدافع عن هذه السينما المستقلة. وعندما وجدت هوليوود في الفترة الأخيرة أن من الصعب القضاء على أفلام السينمائيين المسقلين، قادها ذكاؤها التجاري إلى اعتبار هذه الأفلام معمل الاختبار الذي يؤهل من ينجح فيه للانضمام إلى هوليوود، ويفقد بالتالي استقلاله إلى الأبد.
على العكس تماما ظلت السينما المصرية لا تعرف – حتى وقت قريب – الشركات الكبرى، بل إن بها سمة متفردة تماما، ربما كانت في ظروف أفضل الضمان لصنع أفلام فنية بالغة الجودة على المستوى التجاري والجمالي معا، تلك السمة هي أن الفنانين العاملين في السينما كانوا في أغلب الأحوال هم منتجو أفلامهم. وليس غريبا أن تكون عزيزة أمير، بطلة أول أفلام السينما المصرية على الإطلاق "ليلى"، هي المنتجة، والتي استمرت في إنتاج كل أفلامها حتى بداية الخمسينيات، ثم في إنتاج أفلام اكتشفت فيها نجمات أخريات مثل شادية. وسوف يحذو حذوها الكثير من الممثلات والممثلين، الذين سوف نتوقف عندهم في المقال القادم، لنركز هنا على المخرجين وغيرهم من الفنيين الذين كانوا أيضا منتجين.
وعندما يقرر مخرج ما أن ينتج أفلامه، فإن هناك دوافع عديدة وراء مثل هذا القرار. وهو إن كان فنانا بحق، وليس مجرد تاجر مغامر، تأتي أفضل أفلامه من إنتاجه. ومنذ وقت مبكر في الثلاثينيات، شهدت السينما المصرية تجربتين فريدتين، كانت أولاهما للمخرج أحمد جلال الذي كان في الأصل صحفيا وأديبا، ليكوّن مع زوجته ماري كويني ثنائيا سينمائيا متفردا بأفلام الكوميديا الاجتماعية مثل "فتش عن المرأة"، وتصبح شركتهما السينمائية ممتدة عبر الأجيال. أما التجربة الثانية فهي للطيار أحمد سالم، الذي قرر أن يصبح بطلا ومخرجا ومنتجا لأفلام الدراما النفسية مثل "الماضي المجهول" و"المستقبل المجهول".
ومع الجيل التالي من المخرجين، الذي يمكن دون تجاوز أن نطلق عليه أبناء "الحقبة الكلاسيكية" للسينما المصرية، قام المخرجون بإنتاج العديد من أفلامهم المتميزة بأسلوب كل منهم الخاص به. تأمل على سبيل المثال صلاح أبو سيف، الذي عرف عنه اهتمامه البالغ بالتفاصيل الواقعية، لكنه في الحقيقة أكثر اهتماما بالجانب الغريزي من النفس البشرية، ولم يكن غريبا بعد سنوات قليلة من بدايته أن ينتج ويخرج معالجة لرواية إميل زولا "تيريز راكان"، باسم "لك يوم ياظالم" من بطولة فاتن حمامة، ويعيد إنتاجها بعد أكثر من عشرين عاما باسم "المجرم"، كما ينتج فيلمه المثير للجدل "حمام الملاطيلي"، الذي يؤكد فيه مرة أخرى على الجانب المظلم للعوالم النفسية التي تشوهها الظروف الاجتماعية القاسية.
وفي نمط الأفلام الموسيقية الراقصة، ينتج المخرج حسين فوزي العديد من أفلامه، خاصة مع الممثلة والمغنية والراقصة نعيمة عاكف، مثل "العيش والملح"، و"لهاليبو"، ويضع فيها أسس كوميديا مصرية تمتزج فيها عناصر شعبية ومسرحية عديدة، مع قدر من خيال جامح يعكس خفة الظل المصرية في سخريتها من كل شيء، حتى السينما ذاتها!! كذلك يأتي المخرج لبناني الأصل هنري بركات، الذي يتمصر تماما ويقرر أن يترك أسلوبا رومانسيا لا تخطئه عين، لكنها رومانسية عذبة على طريقة "دعاء الكروان" الذي أنتجه بنفسه، وقام ببطولته فاتن حمامة وأحمد مظهر. وفي نوع آخر من الرومانسية ذات المذاق الأكثر مرارة، ينتج عز الدين ذو الفقار أفضل أفلامه، مثثل "بين الأطلال" و"الشموع السوداء"، بل إنه ينتج دون أن يخرج واحدا من أفضل أفلام السينما المصرية طوال تاريخها، فيلم المخرج توفيق صالح "صراع الأبطال".
وعلى النقيض من هذه الرومانسية، يبلور حسن الإمام عالمه الخاص في أفلام من إنتاجه مثل "الجسد"، الذي صنع فيه نجومية مارلين مونرو المصرية هند رستم، ويؤسس للميلودراما المحتشدة بالإثارة والدموع معا. على الجانب الآخر هناك يوسف شاهين، الذي لم يبدأ في إنتاج أفلامه إلا بعد أن صنع لنفسه اسما عالميا، ومنذ "عودة الابن الضال" في النصف الثاني من السبعينيات، وحتى "الآخر" في منتصف العقد الأول من القرن العشرين، امتلك حريته الإبداعية الكاملة من خلال الإنتاج، وكانت لشركته مساهمة في أفلام أخرى لم يخرجها، لعل من أهمها "السقا مات" لصلاح أبوسيف.
لم يخل الأمر من منتجين مخرجين دخلوا هذه الساحة من باعتبارها مصدرا لكسب المال، ومن الظواهر المتفردة في هذا المجال ناصر حسين، الذي أخرج اثنين وثلاثين فيلما في خمسة عشر عاما، معظمها من إنتاجه في فترة ازدهار سوق الفيديو وأفلام المقاولات، ومنها "المشاغبون في نويبع" و"الفلاحين أهم" و"خللي بالك من عزوز". ومع وجود هذه الظاهرة، هناك مخرجون ربما لم يكن أمامهم إلا إنتاج أفلامهم بأنفسهم، لأن لديهم رؤية فنية شديدة الخصوصية، ولعل أشهرهم رأفت الميهي، الذي يصنع واقعا مستحيل الوجود لكي يؤكد على مرارة وتناقض الواقع الحقيقي، في أسلوب أشيع عنه أنه ينتمي إلى "الفانتازيا"، في أفلام مثل "الأفوكاتو" مع عادل إمام، و"سيداتي آنساتي" مع محمود عبد العزيز ومعالي زايد. كما أن العالم الحسي الخاص عند إيناس الدغيدي في "دانتيلا" ليسرا، أو "استاكوزا" لرغدة وأحمد زكي، أو "مذكرات مراهقة" لهند صبري، لم يكن ليظهر لولا أنها أنتجت هذه الأفلام بنفسها. ومخرج مثل أسامة فوزي، يقرر منذ بداياته الأولى كمخرج – وهو ابن عائلة عريقة في الإنتاج – أن ينتج أفلاما تبدو غريبة تماما على التيار السائد في السينما المصرية، خاصة في موضوعاتها المتسمة بقدر من الجرأة، مثل "عفاريت الأسفلت" الذي يحول حياة الفقراء إلى غابة متشابكة من القيم والأخلاقيات السلبية، أو "بااحب السيما"، الذي أثار عند عرضه عاصفة من الاحتجاجات، لتعرضه لعالم أسرة مسيحية بطريقة كانت السينما المصرية تحاذر من الاقتراب منها.
بل إن كتاب السيناريو (وغيرهم عديدين من مختلف فروع الفن السينمائي) دخلوا إلى ساحة الإنتاج أيضا، ومن الأفلام شديدة التميز في السينما المصرية فيلم "الآنسة حنفي"، الذي صنع لاسماعيل يس دورين متفردين، كما دافع عن القيم التقدمية دفاعا مجيدا ومقنعا، خاصة في مجال حقوق المرأة، وكان هذا الفيلم من إنتاج كاتب السيناريو جليل البنداري. ولا يمكن أن ننسى الكاتب وحيد حامد، الذي صنع من إنتاجه أفلاما ذات مذاق خاص لعادل إمام، في فترة بدا أنه يكرر نفسه، فجاءت أفلام تخترق العالم السياسي مثل "اللعب مع الكبار"، و"طيور الظلام"، وغيرها كثير حتى فيلم "معالي الوزير" من بطولة أحمد زكي.
هذا مجرد جانب من جوانب السينما "المستقلة" في مصر، ولعلك ترى أنها سينما لا يمكن أن تكون على الهامش أبدا مثلما هو الحال في أي سينما مستقلة أخرى. لكننا سوف ننهي هذه الجانب بتجربة المخرج المتفرد محمد خان، فله تجارب عديدة في الإنتاج، مثل "فارس المدينة" لمحمود حميدة، الذي استكمل فيه حكاية بطله فارس في زمن لا يعرف الفروسية، أو "يوم حار جدا" لشيريهان ومحمد فؤاد، الذي يكاد أن يكون مرثية لا تخلو من تفاؤل لغابة المدينة، وأخيرا "كليفتي" عن صعلوك هو في الحقيقة أكثر شرفا من كثيرين آخرين، وكل خطيئته أنه يحاول أن يطفو في مجتمع الطوفان. لم تحقق هذه الأفلام لمخرجها ومنتجها مليما واحدا، وذلك هو الجانب المأساوي الذي سوف نتوقف عنده لاحقا، لسينما كانت في يوم ما "مستقلة"!!
بين عام 1927 حين أنتجت الممثلة عزيزة أمير لنفسها أول أفلام السينما المصرية "ليلى"، وعام 2001 حين قام الممثل أحمد زكى بمغامرة إنتاجية ليقوم بتجسيد الدور الذي حلم به طويلا في "أيام السادات"، بين هذين التاريخين رحلة ممتدة من مئات الأفلام التي يمكن أن نسميها "مستقلة"، وأنتجها ممثلون وممثلات لأنفسهم، بعيدا عن هيمنة شركات الإنتاج والتوزيع، وكان الدافع الأساسي في ذلك في أغلب الأحيان هو رغبة الممثل في أن يصنع صورته السينمائية، أو أن يغير هذه الصورة أحيانا حين يريد أن يخرج على إطار شخصية تقليدية وضعه فيها المنتجون، ليدخل مرحلة جديدة من مراحل حياته الفنية، مما يجعلنا نؤكد أن السينما المصرية كانت وحتى وقت قريب مستقلة في أغلب مراحلها.
وليس من الغريب أن يكتشف من يتأمل تاريخ السينما المصرية أن المرأة ساهمت بنصيب كبير في تأسيس هذه الصناعة، فإذا كانت عزيزة أميرة الممثلة قد توقفت عن التمثيل مع بداية الخمسينيات، فقد استمرت كمنتجة لتساهم في بلورة صورة نجمات مثل فاتن حمامة وشادية. ولعل نموذج آسيا وماري كويني هو الأبرز في هذا السياق، فقد بدأتا ممثلتين ومنتجتين لأفلامهما، لكن حياتهما الفنية لم تستمر طويلا في التمثيل، بينما تحولتا إلى الإنتاج، ويكفي أن نذكر أن آسيا كادت أن تفلس عندما أنتجت ببذخ بالغ فيلم "الناصر صلاح الدين"، لولا قيام الزعيم جمال عبد الناصر بمد يد العون من الدولة إليها. كما أن هناك تجارب إنتاجية نادرة ربما نسيها التاريخ، مثلما فعلت ممثلة تدعى أمينة محمد حين أنتجت لنفسها فيلم "تيتا وونج" في عام 1937، غير أن أهمية الفيلم تنبع من كونها أتاحت فرصة الظهور لوجوه جديدة أصبحت من علامات السينما المصرية، مثل حسين صدقي ومحسن سرحان وأنور وجدي.
ولهذه الأسماء ذاتها تاريخ طويل في مجال الإنتاج إلى جانب التمثيل، فمنذ أن برز اسم حسين صدقي كبطل أفلام تتحدث عن ابن الطبقة المتوسطة الباحث لنفسه بشرف عن مكان تحت الشمس، اختار أن ينتج معظم أفلامه بنفسه، وهي أفلام تتناول في الأغلب قضايا اجتماعية، مثل "العامل" و"الجيل الجديد"، بينما كان في المرحلة الأخيرة من حياته الفنية أكثر اهتماما بالتراث الديني، فصنع ممثلا ومنتجا فيلمه "خالد بن الوليد". أما أنور وجدي فقد تمتع بحاسة تجارية فائقة، وعرف كيف يصنع "توليفات" فنية تجمع بين الاستعراض والغناء و"الأكشن"، وكان له الفضل في بلورة صورة النجمة ليلى مراد منذ "ليلى بنت الفقراء" و"غزل البنات"، واكتشاف موهبة الطفلة فيروز في "ياسمين"، بل أيضا كمال الشناوي في "ليلة الحنة". وإذا كان محسن سرحان لم ينتج لنفسه إلا فيلم "أنا الحب" في عام 1954، فقد كان شريكا في بطولة العديد من الأفلام التي أنتجها يحيى شاهين، (كان ممثلو ذلك الزمن يساعدون زملاءهم في الإنتاج بتأجيل أجورهم حتى حصد الإيرادات)، ومن أفلام شاهين في هذا المجال "قرية العشاق" و"الغريب" و"رجل بلا قلب".
ولعل تاريخ السينما لا يذكر ممثلا يدعى محمد أمين، لكنه كان منذ منتصف الأربعينيات مطربا شهيرا اكتشفه محمد عبد الوهاب، ليستقل بنفسه وينتج العديد من الأفلام التي قام ببطولتها مثل "أحلام الحب". لكن عبد الوهاب نفسه يمثل ظاهرة فريدة هنا، فقد أنتج كل أفلامه منذ "الوردة البيضاء" وحتى "لست ملاكا"، لكنه لم يكتف بذلك، فقد كانت لشركته "أفلام محمد عبد الوهاب" باع طويل في الإنتاج السينمائي، ثم تحولت الشركة بمشاركة عبد الحليم حافظ إلى "صوت الفن"، التي أنتجت أفلاما مهمة مثل "الخطايا". ويحتل المطربون الممثلون مكانا مهما في عالم الإنتاج السينمائي لأفلامهم، مثل فريد الأطرش منذ "حبيب العمر" و"أحبك أنت" و"عفريتة هانم"، التي كانت تحكي دائما عن بطل مطرب مرهف الحس، تتوج رحلة معاناته بالوقوف على خشبة المسرح في أغنية تنال نجاحا كبيرا، أو عبد العزيز محمود الذي أنتج "خد الجميل" و"المقدر والمكتوب" وحتى "تاكسي الغرام"، وهي الأفلام التي صنع فيها صورته كابن للطبقة العاملة الكادحة، التي لا تتخلى أبدا مهما قست الظروف عن قيم الأخلاق والفضيلة، أو محمد فوزي الذي كان أول أفلامه منتجا "حب وجنون" شبه سيرة ذاتية يحكي فيها عن مطرب ترك قريته ليحقق النجاح في المدينة، وأصبح محمد فوزي بعدها منتجا لأفلام يقوم ببطولتها أيضا غيره من الممثلين والمطربين.
وتكاد رحلة العمر الفني لفريد شوقي أن تلخص جانبا لا يستهان به من تاريخ السينما المصرية، وكان من الممثين الذين أدركوا أهمية الإنتاج لأنفسهم من أجل تجديد صورتهم السينمائية. وكان من أفلامه الأولى منتجا "جعلوني مجرما" و"رصيف نمرة 5" و"النمرود"، وهي أفلام صنعت نجوميته في شباك التذاكر باعتباره "وحش الشاشة"، أو نجم أفلام "الأكشن" سواء كان يجسد بطلا طيبا أو شريرا، لكنه أنتج أيضا أفلاما أكدت قدرته على أن يكون ممثلا بحق مثل "الفتوة"، الذي لا يخلو من بعد سياسي يحكي عن تحالف الحكام والرأسماليين، أو فيلم "بور سعيد" الذي يتناول حكايات عن بطولة مدينة باسلة ضد العدوان الثلاثي الغاشم. وعندما تقدم العمر بالنجم فريد شوقي، ولم يعد يصلح أن يكون يطلا لأفلام "الأكشن"، جدد نجوميته في نهاية السبعينيات وما بعدها بإنتاج أفلام ميلودرامية جماهيرية، مثل "البؤساء" و"الموظفون في الأرض" و"شاويش نص الليل".
تستطيع أن تجد تنويعات عديدة - ربما كانت أقل أهمية - على صناعة النجم لصورته الفنية من خلال إنتاج أفلامه بنفسه، مثل كمال الشناوي منذ "المعلم بلبل" وحتى "أيام بلا حب" و"الوديعة"، أو فاتن حمامة في "موعد مع الحياة" و"حب ودموع"، أو شادية وعماد حمدي في تجارب إنتاجية وفنية مشتركة في "ليلة من عمري" و"شاطئ الذكريات". لكن الأقرب لتجربة فريد شوقي هو نور الشريف، الذي قرر منذ منتصف السبعينيات أن يصنع صورته (أو بالأحرى صوره) السينمائية، في عالم الأكشن في "دائرة الانتقام"، والميلودراما في "قطة على نار"، والرومانسية في "حبيبي دائما"، والكوميديا الاجتماعية في "آخر الرجال المحترمين"، بالإضافة لإنتاج أول أفلام المخرج محمد خان "ضربة شمس" الذي تم تصوير أغلبه في شوارع القاهرة. وقريبا من هذه التجربة أتت الأفلام التي أنتجها محمود ياسين، الذي أدرك مع نهاية السبعينيات أن نجوميته قد تتعرض للأفول، فصنع أفلامه ليجدد هذه النجومية مرة أخرى مثل "وضاع العمر ياولدي" وحتى "الجلسة سرية" و"نواعم".
وهناك أفلام من أفضل ما صنعت السينما المصرية كانت جميعا من إنتاج أبطالها من الممثلين والممثلات، مثل "عودة مواطن" الذي جسد فيه يحيى الفخراني أزمة الطبقة المتوسطة في زمن الانفتاح، لبطل عاد لأسرته بعد الغياب ليجد أن حلمه بلم شتاتها أصبح مستحيلا. وفيلم محمود الجندي "المرشد"، الذي يحكي عن علاقة السلطة بأبناء الطبقة الفقيرة، علاقة يسودها الاستغلال والقهر، ليتضح أن تخلي أبناء هذه الطبقة أحيانا عن الأخلاق ليس إلا أمرا عارضا مرتبطا بقهرهم. وفيلم نجلاء فتحي "سوبرماركت"، الذي يكاد أن يتحول إلى قصيدة رثاء للطبقة المتوسطة، التي أصبحت مطروحة للبيع في "سوبرماركت" المجتمع الاستهلاكي. وفيلم ممدوح عبد العليم "سمع هس" الذي يبشر بقدرة الفقراء والمطحونين على خوض المعركة ضد من يقهرونهم، وبأسلوب يحاول إعادة اكتشاف السينما الغنائية المصرية، وهو الأسلوب الذي استمر أيضا في الفيلم الذي أنتجته ليلى علوي "يا مهلبية يا"، ويحاول أن يلخص قصة الكفاح السياسي في مصر.
كانت تلك جميعا أفلاما "مستقلة"، صنعها ممثلوها وممثلاتها بأنفسهم، دون إحساس بالمخاطرة، لكنها أفلام أصبح من المستحيل اليوم صنعها، لذلك بدا أن الصحافة الفنية تكتشف شيئا جديدا اسمه "السينما المستقلة"، عندما يظهر فيلم بعيدا عن الكيانات الإنتاجية الكبرى، التي لم تعد تترك لغير أفلامها فرصة للوجود، وكانت تلك هي قصة السنوات الخمس عشرة الأخيرة من عمر السينما المصرية.
على عكس ما نتصور في أغلب الأحيان، بدأت السينما المصرية ممارسة الإنتاج السينمائي بشكل مستقل عن وجود كيانات كبرى مسيطرة، واستمرت على هذا الحال في معظم مراحل تاريخها، ولم تفقد هذا الاستقلال إلا في السنوات الأخيرة، على نحو ينذر بأزمة خطيرة بحق، لو لم تتدخل الدولة بتشريعات صارمة من جانب، وتسهيلات جوهرية من جانب آخر، وإلا فسوف تصبح هذه السينما في حالة احتضار طويل، لا يتناسب مطلقا مع تاريخها وأثرها العميق في الثقافة العربية.
بدأت هذه السينما بمحاولات إنتاجية فردية، من ممثلين وممثلات مثل عزيزة أمير وآسيا ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وغيرهم، بالإضافة إلى بعض الأجانب من المغامرين الذين تعلموا السينما بالممارسة مثل توجو مزراحي، وربما كان العامل الذي ساعد على استمرار هذا الأسلوب الفردي في الإنتاج أن مصر لم تعرف الكيانات الرأسمالية العملاقة. وحتى بعد دخول الشركات اللبنانية المبكرة مثل نحاس وبهنا وبيضا، وتكوين أول شركة سينمائية مصرية على يد طلعت حرب، هي شركة مصر للسينما التي كانت فرعا من استثمارات "بنك مصر"، فقد ظل الإنتاج الفردي هو السائد. فبرغم أن ممثلا مثل حسين صدقي صنع نجوميته الأولى من خلال فيلم لشركة مصر هو "العزيمة"، فقد قام بعد ثلاث سنوات فقط بتأسيس شركته الخاصة لينتج أفلامه بنفسه، كما فعل عديدون غيره من الممثلين والممثلات.
وحتى بعد ظهور شركات خاصة عديدة، لمنتجين كبار مثل رمسيس نجيب أو حلمى رفلة، لم يكن من الصعب على المحاولات الفردية المستقلة الخاصة أن تظهر، ولك أن تتصور على سبيل المثال كيف أن بعض أصحاب المال قرروا الدخول إلى هذا المجال، لتأسيس شركة باسم "أفلام النجاح"، وهي الشركة التي أنتجت فيلما واحدا فقط، لكنه من أهم كلاسيكيات السينما المصرية، هو فيلم المخرج توفيق صالح "درب المهايبل". والعامل الذي كان حاسما في وجود هذه المحاولات الإنتاجية المستقلة كان دور العرض، التي لم تكن تابعة لأي منتج كبير، لذلك كانت متاحة أمام كل الأفلام على قدم المساواة، لا فرق بين شركات كبيرة أو صغيرة.
ظل هذا النمط هو السائد حتى مع ظهور القطاع العام في السينما خلال الستينيات، ودخول منتجين عديدين جدد خلال العقود اللاحقة، خاصة الثمانينيات التي شهدت ما يسمى "سينما المقاولات"، وهو تعبير غير دقيق تماما، لأن هذه النوعية من السينما قليلة التكاليف معروفة في كل صناعات السينما، وهي توجد لأن هناك طلبا متزايدا على أفلام جديدة، ولأن هناك نوافذ لعرضها، وكانت النافذة آنذاك هي سوق شرائط الفيديو الذي بدا أنه يطلب المزيد من الأفلام كل يوم.
ولكي ندرس التحولات المأساوية خلال العقود الأخيرة، سوف نأخذ مثالين لشركتين إنتاجيتين ظهرتا مع وجود هذه السوق، وما تزالان مستمرتين في الإنتاج، لكن نوعية أفلام كل منهما تفسر لك طبيعة وأسباب الأزمة الراهنة. كانت الشركة الأولى هي "السبكي"، أتى أصحابها إلى مجال السينما من عالم تجارة اللحوم، يحدوهم في البداية رغبة في كسب "البرستيج" والاتصال بعالم نجوم السينما، وكان أول أفلامهم هو "عيون الصقر" من بطولة نور الشريف ورغدة، وعن سيناريو وإخراج إبراهيم الموجي، الذي أثبت موهبته ككاتب سيناريو لبعض من أهم أفلام عادل إمام، التي تجمع بين النجاح التجاري والحرفية الفنية، مثل "المشبوه" و"حب في الزنزانة" و"النمر والأنثى"، كما أخرج فيلما وحيدا جيدا لكنه لم ينل حظه من النجاح هو "المرشد".
كما جاءت التجربة الإنتاجية الثانية للشركة تميل بدورها إلى الجمع بين الطموح الفني وتحقيق الإيرادات، من خلال فيلم المخرج محمد خان "مستر كاراتيه"، الذي بدا كأنه يستعير طابع أفلام فنون القتال الأسيوية الشائعة آنذاك، ليقدم بطله أحمد زكي كنموذج لشاب مصري مطحون يحلم بأن يجد لنفسه مكانا تحت شمس الحياة. كذلك كان فيلم "الرجل الثالث" للمخرج على بدرخان يعكس نفس الطموح، في تقديم عمل سينمائي ذي ميزانية كبيرة، ويضم توليفة من "الأكشن" والتشويق. وبدت هذه التجارب كأنها "ترقص على السلم"، فلا هي حققت تميزا سينمائيا خاصا، ولا اقتربت من ذوق جمهور كان يتناقص عدده باستمرار، خاصة مع تدهور أحوال دور العرض، وبدء البث الفضائي الذي اجتذب الكثيرين للبقاء في المنزل، والاكتفاء بالفرجة على التليفزيون.
وفي عام 1997 ظهر فيلم بدا كأنه يعيد اكتشاف خريطة جماهير السينما المصرية، وكان فيلما متواضع التكاليف وبلا أي طموح فني، هو "اسماعيلية رايح جاي" لمنتج عابر اسمه حسن ابراهيم، ولمخرج لا يملك أي بصمة خاصة هو كريم ضياء الدين، لكن الفيلم أشار إلى أن الموسم التجاري المتاح الوحيد هو موسم الصيف، وأن النوعية الراهنة للجمهور هي الباحثة عن تسلية سطحية تجمع بين الكوميديا والغناء. ومن تلك اللحظة تغيرت أحوال السينما المصرية تماما، فقد بدأت سلسلة من الاستيلاء على دور العرض، وبناء القليل الجديد منها بأسلوب "الشاشات المتعددة" في المراكز التجارية، والاستعانة بممثلي وممثلات المسرح الذي كان يحمل آنذاك اسم "المسرح السياحي"!! وهكذا تحولت شركة "السبكي" – التي انقسمت بين أفراد الأسرة لعدة شركات – إلى صنع أفلام هي الأردأ في تاريخ السينما المصرية، مثل "شجيع السيما" و"لمبي" و"كلم ماما" و"عوكل" و"حاحا وتفاحة" و"لمبي 8 جيجا"!!
تكاد شركة "العدل" بدورها أن تسير في المنحنى ذاته، وكانت الشركة قد بدأت على يد الممثل سامي العدل لإنتاج أفلام يشترك فيها، وبعضها من بطولة زوجته ماجدة نور الدين، مثل "الدكتورة منال ترقص" و"طعمية بالشطة" و"مجانينو"، لتحاول الشركة في منتصف التسعينيات أن تنتج أفلاما أكثر "فنية"، مثل "حرب الفراولة" و"إشارة مرور" للمخرج خيري بشارة، و"البطل" الذي كان أول أفلام المخرج مجدي أحمد علي وبطولة أحمد زكي مع المطرب مصطفى قمر، بالاشتراك مع محمد هنيدي، لكنها كانت أيضا أفلاما تعكس أزمة جيل المخرجين الحائرين بين التميز الفني الفردي والنجاح التجاري. وبعد زلزال "اسماعيلية رايح جاي" تحولت الشركة لصنع أفلام من نوعية "صعيدي في الجامعة الأمريكية" و"همام في أمستردام" و"شورت وفانلة وكاب" و"جاءنا البيان التالي" و"اللي بالي بالك".
هل يمكنك أن تلوم هذه الشركة أو تلك لأنها تصنع أفلاما تجارية؟ لقد كانت مثل هذه الأفلام الهابطة شائعة في تاريخ السينما المصرية، لكنها لم تكن تستولي على "كل" دور العرض بحيث لا تترك مكانا لغيرها من صنع المنتجين المستقلين، الذين كانوا أكثر عددا بكثير من الشركات الكبرى ذاتها. لقد حدثت في العقدين الأخيرين تطورات هائلة، وفي ظل حالة عشوائية من إدارة الاقتصاد ومن بينها صناعة السينما، أدى الأمر إلى احتكار تام لدور العرض بواسطة كيانين اثنين فقط، هما المجموعة الفنية المتحدة (التي تضم شركات النصر، وأوسكار، والماسة، والإخوة المتحدون)، والشركة العربية للإنتاج والتوزيع.
وليس بمقدور أي منتج، كبيرا كان أو صغيرا، أن يعرض فيلمه بدون الحجز المسبق مع أي من هذين الكيانين وبشروطهما. لذلك أصبح تعبير "السينما المستقلة" فارغا من المعنى، وإذا كانت التقنيات الرقمية المعاصرة قد أتاحت في العالم كله صناعة الأفلام المستقلة وحتى الفردية بأقل التكاليف، فإن مثل هذه الأفلام في مصر لا تجد فرصة للعرض إلا في دوائر شديدة الضيق، لا تضمن لها أي قدر من الاستقرار والاستمرار.
وليس الدفاع المطلوب الآن دفاعا عن سينما مستقلة بالمعنى الحرفي للكلمة، بل دفاعا عن صناعة السينما المصرية ذاتها. وهذا لن يتحقق إلا بتدخل الدولة، كما فعلت الولايات المتحدة ذاتها حين أصدرت حكما ينص على عدم احتكار كيانات كبرى لدور العرض، فيما عرف باسم "قضية باراماونت"، وليس هناك بديل عن أن تصدر الدولة مثل هذا القانون في مصر، بالإضافة إلى تشريعات تسهل إقامة دور عرض جديدة في المدن الصغيرة والأحياء، عندها فقط تستعيد السينما المصرية عافيتها، التي كانت تملكها يوما عندما كانت "مستقلة".