للأسف الشديد، أعطى منع عرض فيلم "الخروج: آلهة
وملوك" أهمية لهذا الفيلم، الذى يمكن أن ندعوه دون أى مبالغة أنه "لعب
عيال"، أو لعبة فيديو مملة ورديئة، فهذا المنع – الذى قد يستند إلى ما فى
الفيلم من مغالطات تاريخية – قد يوحى بأن هناك فى الفيلم أى نوع من "التاريخ"،
وأنا على يقين من أن عرضه سوف يثير سخرية أبسط المتفرجين، ويجعلهم يقتنعون تماما
بزيف الدعاوى الصهيوينة، التى تزعم دائما أنها ترتكن على أفكار "مقدسة"،
جاءت فى الكتب "السماوية".
وليس جديدا أن نقول أنه لا يمكن لك أن تستمد الحقائق
التاريخية من أى كتاب مقدس، فكل طائفة لها كتابها الذى تقدسه ولا تصدق غيره، بل
تكذب الكتب الأخرى، حتى أنك فى النهاية لن تجد مفرا من أن تُسلم نفسك إلى كتاب
الديانة التى تنتمى إليها. لكن هل تستطيع يقينا أن تزعم أن "أحسن القصص"
هى التاريخ بالألف واللام، أم أنها تاريخ مقصود به العظة والعبرة، أما إذا كنت
تسعى للبحث عن الحقيقة، فإن لذلك أدوات أخرى.
دعنا نقترب فى البداية من عالم فيلم "الخروج: آلهة
وملوك"، الذى لا يعدو أن يكون إعادة صنع من ريدلى سكوت - وهو المغرم بالإبهار
الكومبيوترى – لفيلم سيسيل دى ميل القديم "الوصايا العشر"، والذى كان
بمؤثراته البصرية الساذجة أكثر إبهارا من الفيلم الجديد. يقول الفيلم أنه يدور فى
عام 1300 قبل الميلاد، وأن الملك المصرى الحاكم هو سيتى الثانى (فى التاريخ الحقيقى
كان حورمحب)، الذى يسكن فى منف بجوار الأهرام (فى الحقيقة كان الحكم آنذاك فى طيبة
بالجنوب، ولكن ريدلى سكوت أراد قصرا يطل على الأهرام!)، وفى البلاط شابان صديقان،
تربيا معا كشقيقين، هما ولى العهد رمسيس الثانى، والآخر هو موسى، الضابط المتميز
فى الجيش المصرى.
وهنا يضعك الفيلم أمام أول زعم صهيونى: أن الأحداث تدور
فى زمن رمسيس الثانى، وليس غيره، ليكون هو فى قابل الأيام ما يسمى "فرعون
الخروج"، أى خروج اليهود من مصر، وهذا الاختيار يعكس رغبة مريضة فى الفكر
الصهيونى كما سوف نرى فيما بعد. المهم أن المشاهد الأولى لن تختلف كثيرا عن النمط
الفيلمى المعروف باسم "السيف والصندل" (هكذا اسمه فى أدبيات هوليوود)،
وهو النمط الذى يدور حول المعارك والمبارزات فى العصور القديمة، التى كان أغلبها
فى الأفلام إغريقيا أو رومانيا، وهذا التنميط – الذى يمتد إلى كل عناصر الفيلم –
سوف يجعل رمسيس الثانى يرتدى زيا إغريقيا حربيا، وسوف يخوض الضابط موسى المعارك
إلى جانبه، بل سوف ينقذ حياته أيضا، لكى يوحى لك الفيلم بقدر الطيبة والوفاء الذى
يتمتع به موسى، فى مقابل قدر الشر والنذالة الذى يتسم به رمسيس الثانى.
وتدور الأيام دورتها، ويعتلى رمسيس عرش مصر، ولسبب غامض
ما يقال إن اليهود بدأوا يتذمرون من عبوديتهم للمصريين طوال أربعمائة عام، يقال
أيضا إنها الفترة التى قضوها فى مصر منذ دخول قبيلة يعقوب خلف ابنه يوسف، وحتى
ظهور موسى. وهنا لابد من وقفة: ما سبب هذه العبودية؟ كيف بدأت وقد كان الجد الأعلى
يوسف ذاته (طبقا للكتاب المقدس) قد جعل من المصريين عبيدا، على إثر السنوات السبع
العجاف، التى لم يذكرها التاريخ فى آثاره أبدا؟ وما السبب فى القول بأن المصريين
كانوا يعتبرون اليهود "دنسا" يجب اجتنابه؟
للإجابة على مثل هذه الأسئلة – وهى الإجابة الغائبة
تماما عن فيلم "الخروج" – يجب أن نتذكر أنه كانت هناك "دولة"
فى مصر القديمة منذ عشرات القرون قبل دخول اليهود المزعوم إليها، وأن المجتمع المصرى
كان مجتمعا زراعيا مستقرا. ورغم الابتلاءات التى حدثت بسبب الكهنة، أو اختراع
الحكام لديانات جديدة، فقد ظل الناس فى مصر القديمة – قبل ظهور اليهود بآلاف
السنين وبعدهم - يحرثون ويبذرون ويروون ويحصدون، فى إيقاع يشبه قوانين الطبيعة
ويسايرها، ويشيدون الآثار التى يزعم اليهود أنهم بناؤوها!! وهؤلاء هم
"الناس" الذين لم يظهروا قط فى فيلم ريدلى سكوت، فاليهود – العبيد – هم
الذين يصنعون كل شىء، وهم البناؤون للآثار العملاقة، وقد حان الوقت لكى ينفضوا
عبوديتهم عن كاهلهم، وينجحوا فى "الخروج".
لا تقول لنا الكتب المقدسة إنه إذا كان اليهود هم الذين
كانوا يصنعون كل شىء، فكيف استمرت مصر بعد خروجهم فى تحقيق ازدهارها وسطوتها حتى
على مناطق أسيوية، ومنها ما يقول اليهود إنها أرضهم الموعودة؟ أما لماذا كراهية المصريين
لهم، فلسبب جوهرى، هو أن من يسمون يهودا لم يتخلوا قط عن حياتهم البدائية الرعوية،
التى كان تنتشر فيها الأمراض الجلدية بسبب قلة المياه، على عكس الفلاحين المصريين
الذين يراعون كل قواعد النظافة والصحة، بفضل نهر النيل الذى لا يتوقف عن العطاء.
والحقيقة أن ما أعطى هذه القبائل اليهودية قدرة على البقاء عبر التاريخ، هو
"الكتاب المقدس" ذاته، الذى أعطاهم تاريخا، رغم أنه مكتوب بعد قرون
طويلة من الأحداث التى يرويها، لذلك فإن الزعم بأن موسى هو الذى كتب التوراة
يتناقض مع كونها تروى أنه مات ودفن فى مكان ما بشبه جزيرة سيناء، وبالمناسبة فإن لقصة
موته خبايا وخفايا غامضة، حتى أنه يقال إن اليهود أنفسهم هم الذي قتلوه.
إننا لا نطلب من ريدلى سكوت العودة إلى مراجع مهمة حول
هذا الأمر، سواء العربية منها مثل كتابات سيد القمنى، أو بلغات أخرى مثل
"موسى والتوحيد" لفرويد، وإنما على الأقل كان عليه أن يقرأ كأى شاب فى
مقتبل عمره شيئا من مقالات "ويكيبديا"، لعلها كانت سوف تجعل معلوماته
أقرب إلى الدقة. لكن ما كان يسيطر عليه طوال الوقت هو الإبهار، واستخدام
الكومبيوتر لخلق مجاميع هائلة من البشر، أو محاكاة مزعومة لمدن مصر القديمة، أو
معجزة شق البحر التي كانت فى الفيلم القديم لسيسل دى ميل أكثر إبهارا وإقناعا،
باستخدم حيلة بصرية بسيطة، بتصوير مياه تتدفق من الجانبين على أخدود، فإذا عكست
عرض الشريط بدا لك أن المياه تنحسر لكى تصنع مسارا ممتدا!
لن أتوقف طويلا أمام نزوة أن يجعل ريدلى سكوت من إله
موسى طفلا غاضبا (نقول إله موسى لأن هذا هو ما يقوله الفيلم، فهو إله اليهود
وحدهم!!)، لكن تأمل كيف أن موسى يتسم بقدر هائل من التسامح، غير أن إلهه يسعى
للانتقام لـ"شعبه"، ويضرب مصر بالعشر ضربات الشهيرة، التى لا ذكر لها فى
أى تاريخ، حتى فى وثائق الأمم المعادية لمصر، وهى ضربات تبدو على الشاشة مثيرة
للسخرية، مثل نهر الدم أو أسراب الجراد، أو أن يقتل إله اليهود الابن الأكبر لكل
مصرى، بمن فيهم الحاكم ذاته، لكنه لا ينسى أن يوصى اليهود بأن يضعوا علامة من دماء
الأغنام على بيوتهم، حتى لا "يتلخبط" فيها!! وسوف يتجاهل الفيلم كيف أن
المصريين كانوا أثرياء وطيبين مع اليهود حتى بعد هذه الضربات، وأعاروهم ذهبهم
وفضتهم، ليسرقها اليهود خلال "الخروج"!!
لن تعرف أبدا لماذا قرر الحاكم المصرى فى الفيلم مطاردة
اليهود، بعد أن سمح لهم بمغادرة مصر، ولكنه مشهد ضرورى لإبهار "تسونامى"
الذى ابتلع الجيش المصرى. الآن لدينا نقطتان لا يمكن إغفالهما، أولاهما أن اختيار
رمسيس الثانى ليكون "فرعون الخروج" المزعوم، فذلك تعبير عن حقد دفين ضد
ملك مصرى حكم ما يقرب من سبعين عاما، ومات فى حوالى التسعين من عمره، وحقق انتصارات
هائلة على امتداد كل الحدود المصرية، بما فيها أرض كنعان (فلسطين) التى استوطنها
اليهود. أما النقطة الثانية فهى أنه لم يكن هناك أى "يهود" معروفين بهذا
الاسم، إلا بعد موسى وتبشيره بإلهه الذى حمل اسم "يهوه"، فكيف يُبنى
تاريخ مزيف كامل على شعب لم يوجد بعد؟! والإجابة هى أن التزييف هو جوهر النزعة
الصهيونية ذاتها، تزييف التاريخ، وتزييف الأوطان.