بدأ الأطفال خلال الثمانينيات شيئاً
فشيئاً يشكلون وجوداً مهماً فى السينما الإيرانية. ومن خلال استخدام بعض المخرجين
للأطفال، لم يغيروا فقط من السينما الإيرانية ولكن أيضاً من رؤية إيران من الخارج.
وكانت هذه الأفلام تتميز فى المهرجانات السينمائية العالمية باعتبارها تنتمى إلى
"موجة جديدة" فى السينما الإيرانية. وكانت تنال المديح باعتبارها
أعمالاً فنية غير تجارية، ذات شكل ورؤية جديدين. والأطفال فى هذه الأفلام تمكن
رؤيتهم على نحو أكبر باعتبارهم ذاتاً بديلة عالمية شاملة، كما أنهم قدموا نقيضاً
لرؤية إيران غير المتمدينة التى كانت تروج لها وسائل الإعلام الأجنبية طوال
العقدين السابقين.
وفى أعقاب سنوات الحرب مباشرة، قدمت أفلام الواقعية
الشعرية – خاصة أفلام عباس كياروستامى – رد فعل فورياً للرغبة فى نفس الميراث
المادى والأيديولوجى للعنف. واستخدام الأطفال فى هذه الأفلام أدان فظائع الحرب، أو
تناول تيمات تتعلق بإعادة البناء مثل الفقر، والبطالة، ونقص المساكن، والصراع
الاجتماعى. وعلاوة على ذلك، فمن خلال اتساع نطاقها الاجتماعى والجغرافى مثلت
محاولة لإعادة تعريف معالم الهوية القومية والثقافية. لقد كانت هذه الواقعية تلائم
مزاج إيران ما بعد الحرب: رغبة جماهيرية لرؤية أكثر صدقاً لإيران. ونجحت هذه
الواقعية فى أن تأخذ السينما الإيرانية بعيداً عن منطقة الميلودراما، لتضعها حيث
يجب أن تكون فى الشوارع ومع الناس العاديين.
إن الواقع مفهوم مراوغ فى أفضل الأحوال، وفهمنا له هو
بشكل ما أمر ذاتى. والواقعية فى سياق هذه الأفلام توحى بالأخلاق والصدق فى الهدف
أكثر من الالتزام الصارم بمبدأ الملاحظة المحايدة للظواهر الاجتماعية، وهى فى حالة
أفلام عباس كياروستامى – التى تستخدم الذاتية الشخصية – تقلب مفهوم الموضوعية.
والسينمائيون الذين عرضت أعمالهم خارج إيران خلال تلك الفترة (من المخضرمين مثل
أمير نادرى إلى كياروستامى والمخرجين الأصغر مثل محسن مخملباف وابنته سميرة) كانوا
ملتزمين نظرياً بالواقعية، ومع ذلك فإنهم لم يقدموا واقعاً خاماً. وكان ذلك يعود
جزئياً إلى أن الواقع قد مر من خلال النظم السينمائية الجديدة، أحياناً كأداة
للتعليم، وفى بعض الأحيان عكس اهتماماً بتطوير السينما كشكل فنى. وبالإضافة إلى
ذلك، فإن استخدام الشخصيات والتيمات المعاصرة، والتركيز على الطبقات الدنيا، واختيار
ممثلين غير معروفين وغير محترفين كشخصيات أصيلة، ميز هذه الأفلام عن الأفلام
التجارية لتلك الفترة. ومع ذلك فإنها قدمت تناقضاً مثيراً للاهتمام. فمن ناحية،
كان الفن الأسلوبى والسرد الروائى يشكلان انحرافاً عن الحياة الحقيقية، ومن ناحية
أخرى كان يمكن رؤيتها كانعكاس لواقع غريب يميز إيران. وعلى سبيل المثال، فإن فيلم
"التفاحة" (1998) لسميرة مخملباف، و"الحياة تستمر..." (1990)
لكياروستامى، كانا تقريراً فنياً شخصياً، وفى الوقت ذاته فيلمين عن إيران
المعاصرة.
إن قصصاً بسيطة مثل بحث طفل عن صديقه المفقود، أو عن مال
مسروق، أصبحت شائعة فى تلك الفترة. وإذا كان للمرء أن يحدد أهم السمات لسينما
إيران ما بعد الثورة، فإن من السهل فهم كيف أصبح الأطفال فى المقدمة. وهذه السمات
تتضمن التخلى عن أغلبية الممثلين والممثلات المعروفين فى صناعة السينما، وعدم وجود
الجنس، والغناء، والرقص. لقد أصبح من الأصعب الحصول على سيناريو وافقت عليه
الرقابة، كما تم التخلى عن كثير من القوانين والرموز التى استخدمت فى عصر الشاه.
ولم يكن ظهور الأطفال فى أفلام الثمانينيات أمراً
متفرداً فى إيران وبلاد أخرى مثل البرازيل، وفرنسا، والسويد، ويوغوسلافيا، والتى
كانت تقوم بالتجريب بموضوعات مشابهة. لكن هذه التقاليد فى إيران كان لها جذورها
التى تعود إلى أواخر الستينيات، عندما تأسست وكالة حكومية معروفة باسم "مركز
التنمية الذهنية للأطفال والشباب الصغير" (وعرفها الإيرانيون باسم
"كانون")، وتأسست من أجل صنع ونشر كتب للأطفال والصغار. وبدأت هذه
الوكالة بإنتاج أفلام قصيرة وتحريك، واستخدمت قليلاً من المخرجين وفنانى التحريك فى
البداية، لكن النتائج الأولى كانت مختلفة تماماً عن الأفلام التجارية لتلك الفترة.
وبعد الثورة، استمرت وكالة "مركز التنمية الذهنية" فى نشاطاتها
على مجال أصغر بسبب مشكلات مالية، رغم أن قليلاً من أفلامها عرضت فى دور العرض.
وقامت بين عامى 1980 و1990 بصنع عدد قليل من الأفلام الروائية الواقعية حول موضوع
المشكلات الاجتماعية، وضمت هذه الأفلام فيلم كياروستامى "أين منزل
صديقى؟" (1987)، و"الواجب المدرسى المنزلى" (1989)، وفيلم بياضى
"باشو، الغريب الصغير". وهذه الأفلام التى تدور حول مشكلات الأطفال هى
من بين كلاسيكيات السينما الإيرانية المعاصرة. وهذا النوع من صناعة الأفلام، الذى
يعتمد على نموذج "مركز التنمية الذهنية"، ويستخدم ممثلين غير محترفين فى
دراسات للحياة اليومية، اكتسبت قوة بسبب النجاح الهائل الذى حققته أفلام
كياروستامى خارج إيران.
يقوم فيلم "الواجب المدرسى المنزلى" على إجراء
مقابلات مع تلاميذ المدارس الصغار. ويبدو كأنه يركز على مشكلاتهم مع الواجب
المدرسى، لكن تيماته تمتد إلى مسائل أعمق تتعلق بالعائلة والمجتمع، وأوجه الحرب،
وعسكرة المجتمع الإيرانى. وكان فيلم إبراهيم فوروزيش "المفتاح" (1986) –
الذى أنتجته الوكالة أيضاً – قد حقق نجاحاً كبيراً فى المهرجانات العالمية، وهو
يحكى قصة بسيطة حول طفل ذى أربعة أعوام يتولى مسئولية أخيه الرضيع بينما أمه خارج
المنزل. وكل الحدث – الذى لا تكاد الكاميرا فيه أن تغادر الغرف الضيقة للمنزل –
يدور حول جهود الطفل لكى يجد مفتاح الباب الرئيسى. وكل فعل وموقف يمكن رؤيته كجزء
من لغز، وانعكاس للحياة الإيرانية. وعلى سبيل المثال فإن الطفل يمثل الجيل الأصغر،
بينما سلسلة الكبار الذين يتواصل معهم من النافذة يمثلون طبقات مختلفة من المجتمع.
وفيلم فوروزيش "الرجل الصغير" (1994) يدور حول صبى ذى اثنى عشر عاماً،
وابن لعائلة مزارعة، يقرر أن يساعد أمه باستخدام أرض مهجورة من أجل تحويلها إلى
حديقة. وعنوان الفيلم يشير إلى المسئولية التى يضعها على عاتقه.
وهذه الأفلام تصور التغيرات التاريخية التى تحدث فى
إيران خلال الثمانينيات والتسعينيات، وفيها يمثل الأطفال الشعب الإيرانى. إن هذه
الأداة الرمزية للطفل الرقيق، المثالى البرئ، والذى يعمل عملاً شاقاً، كانت تستخدم
لإعطاء أفكار مجردة بعينها، مثل البراءة المفقودة فى عالم تتحكم فيه السياسة،
بينما هى لا تبتعد أبداً عن مجال الواقعية. وأحد الأفلام الإيرانية الأولى التى تم
الاحتفاء بها فى بداية الثمانينيات كان "العدَّاء" (أمير نادرى، 1981).
وعدم وجود معتقد سياسى جامد، وسيطرة تيمة الإنسان مقابل الطبيعة فى هذا الفيلم،
منحاه جاذبية عالمية.
يتعقب نادرى نمو صبى من وجود تسيطر عليه الفوضى إلى
الرجولة والنضج الروحى فى ظل ظروف قاسية. إن أميرو الوحيد يحلم بالارتحال إلى مكان
مجهول. وهو يعيش فى ناقلة صدئة مهجورة على ساحل فى حى عشوائى، ويكسب قوت يومه من
خلال جمع القمامة وتوزيع وبيع المياه. وبعد أن يسرق صبيان أكبر زجاجات الماء
والثلج منه يتعلم أن يرد الهجوم. ويهزمهم فى سباق. والتصوير السينمائى بسيط
وتقليدى، وذو تكوين محكم بما يوحى بالظروف الحياتية المزدحمة والسواحل العاصفة. إن
الوعد الدائم للهروب والأبدية يتمثل فى سماء الخليج الفارسى. والبحر المرحب، وتلك
أداة تخبرنا أكثر بالسياق الاجتماعى والاقتصادى للقصة مقارنة بالمحاولات السطحية
بشكل ما للتحليل السياسى الذى يقوم به بطل الفيلم.
وفيلم مجيد مجيدى الأول "بادوك" (1992) يصور
شقيقاً وشقيقة يتم بيعهما لتجار مخدرات عرب. إنه فيلم قاتم مرير يدور على الحدود
بين إيران وباكستان، ونجح فى شباك التذاكر والمهرجانات السينمائية. أما فيلمه
الثانى "الأب" (1995) فكان عن صبى يتمرد على أمه وزوج أمه. وفى هذه
الموجة من الأفلام حول الأطفال، والتى بدأت بنجاح عالمى كبير لأفلام مثل
"العدَّاء"، لم يكن من الغريب أن يكون أول فيلم إيرانى (من إخراج مجيدى
أيضاً) يترشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبى هو "أطفال الجنة" (1998). هناك
شقيق وشقيقة، ابنان لعائلة فقيرة، يتقاسمان زوج الأحذية لكى يذهبا إلى المدرسة.
وبالنسبة للأخت – التى يتسع الحذاء على قدميها – تلبسهما فى الصباح، ثم تركض عائدة
لتعطيه لأخيها لفترة ما بعد الظهيرة. إن دراسة مجيدى القوية لعائلة تعيش فى قبضة
الفقر تزداد قوة فى الطابع، لكن هذا الحل يتميز بجودة بصرية وسخاء وجدانى، تركا
أثرهما القوى على أعضاء لجنة الأوسكار. لقد أعطى هذا الفيلم الفرصة للجمهور
العالمى لكى يلاحظ شخصيات حياتها مختلفة تماماً، لكن مخاوفها هى شديدة العالمية.
والطفلة الجادة التى لا تقاوم، ذات السبعة أعوام، فى
فيلم "البالون الأبيض" (1995) من إخراج جعفر باناهى، هى البطلة الجوهرية
لسينما الطفل الإيرانية. إنها تضيع المال الذى أعطوه لها لكى تشترى سمكة ذهبية،
فتقرر فى إصرار أن تستعيده. ومثل شخصيات أخرى فى هذا النمط الفيلمى، تتحول من
السذاجة والموقف السلبى إلى حالة الفعل المتطرف. وبهذا المعنى فإن الفيلم يحمل
مضموناً سياسياً متضمناً. إنها نزعة اشتراكية عاطفية، توحى بأن الفقر ليس عقبة فى
عالم ناسه كلهم يتسمون بالعطف والكرم. لكن تلك هى السمة الأقل أهمية، وليست حاسمة
فى نجاحه، فعاطفية الفيلم تصب فى نزعة إنسانية عالمية، والحنين الأيديولوجى
والسذاجة يضيفان فقط للسحر القديم للقصص التى تحكى جيداً. وفاز "البالون
الأبيض" بجائزة فى مهرجان كان السينمائى، وأصبح واحداً من أكثر الأفلام
الأجنبية ربحاً فى الولايات المتحدة وأوربا.
لقد حرر الأطفال الأفلام من سيطرة الحبكة، وأدخلوا
أحداثاً واهتمامات غير أساسية، مثل التسكع فى شارع، أو قضاء وقت فى منطقة ريفية.
كما أنهم تفادوا القيود العديدة حول إظهار العواطف الحقيقية للكبار. ونمط أفلام
الأطفال لا يعرض أى نوع من الاتساق الأسلوبى يسمح بسهولة التصنيف، لكننا فى العادة
نرى العالم من خلال عينى الطفل. وفى بعض الأحيان يتحقق الحدث فى شكل مقاومة شخصيات
الكبار، بما يخلق موقفاً من التحدى. والعائلة بالطبع تتلقى الكثير من الاهتمام فى
هذا النمط الفيلمى، لكن دون أن تصبح الخلية الأساسية للمجتمع أو المصدر النهائى
للحب، أو الدعم، أو الأخلاق، لكن يتم تقديمها ككتلة من التوتر والصراع. إن الكبار
يظهرون على نحو سيئ بالمقارنة مع هؤلاء الأطفال، الذين يكتسبون طابعاً من
الرومانسية الراقية ينكرها عليهم الآباء اللامبالون. إن الآباء والأمهات كما يتم
تصويرهم من وجهة نظر الطفل لا يبدون يتحدثون اللغة ذاتها التى يتحدث بها أبناؤهم.
·
مقتطفات من كتاب "السينما الإيرانية:
تاريخ سياسي"
·
تحت الطبع بالمركز القومي
للترجمة، وزارة الثقافة المصرية