انتشرت في الآونة الأخيرة الأعمال الدرامية عن سيرة حياة
بعض المشاهير، وسار على الألسنة تعبير خاطئ بسب تداوله في الصحافة الفنية، وهو
"السيرة الذاتية"، وعبثا حاول البعض منا التذكير بأن هذا التعبير يعني
أن صاحب السيرة نفسه هو الذي يكتبها، ويبدو أننا نعشق التمسك بالأخطاء، فقد زاد
الإصرار عليه، كما بدا أن دراما سيرة حياة المشاهير تمضي بدورها في اتجاه مشوش
مضطرب!
تأمل من بعض الأمثلة كيف أن هذا النوع من الدراما يمضي
من سيء إلى أسوأ، فقد بدأ بمسلسل عن سيرة ذاتية كتبها الدكتور طه حسين عن حياته في
كتابه الشهير "الأيام" بأجزائه الثلاثة، وكان عملا تليفزيونيا مهما خلال
الثمانينيات، وفي المرة الوحيدة التي عاد فيها التليفزيون إلى حياة الأدباء كانت
هذا العام في مسلسل "في حضرة الغياب"، الذي حول حياة الشاعر محمود درويش
إلى سلسلة من الغراميات والمغامرات، ناهيك عن التمثيل الذي يذكرك بأسلوب يوسف
وهبي! أما الجواسيس فقد كان لهم نصيب كبير في هذا المجال، حتى أصبحت مسلسلاتهم بديلا
عن النضال ضد العدو الإسرائيلي في زمن "السلام" المزعوم، واتخذنا أبطالا
من نوعية جمعة الشوان في "دموع في عيون وقحة" ثم "رأفت
الهجان"، لكن مع "عابد كرمان" هذا العام باتت سيرة الجواسيس باهتة
مملة، ولا ندري إن كان ذلك بسبب ضعف الدراما، أم أنها التغيرات البطيئة الحثيثة
التي طرأت على المشاعر الوطنية في الفترةالأخيرة، بسبب العديد من الضغوط
الاقتصادية والسياسية.
وسوف تكتشف أن للعلماء في تاريخنا نصيبا هزيلا من هذا
النوع من الدراما، فلم يظهر إلا هذا العام فقط مسلسل عن واحد منهم، هو مصطفى مشرفة
في "رجل من هذا الزمان"، بينما كان نصيب الأسد للمطربين، ونذكر من بينهم
أم كلثوم وأسمهان وليلى مراد وعبد الحليم وصباح (ولتتأمل منحنى الضعف الفني
المتزايد حتى في هذا المجال). أما التاريخ فكان فقط من حق "الملك
فاروق"، ثم دخلت أهواء النجمات إلى الساحة، حين حلا لنادية الجندي أن تقوم
بدور الملكة نازلي أم فاروق في "ملكة في المنفى"، الذي لم يكن تاريخا
حقيقيا لمصر، بقدر ما هو تاريخ لبطلة نادية الجندي الدائمة، تماما كما اختارت
سولاف فواخرجي أن تجسد دور "كليوباترا"، وتوقف صناع المسلسل عند إظهار
جمال الممثلة في لقطات قريبة!!
لماذا إذن نصنع دراما عن حياة المشاهير؟ مفتاح الإجابة
في كلمة "الدراما"، أن تجد النقطة الجوهرية التي تمثل الشخصية بحق،
ليصبح العمل الفني مثالا لرحلة إنسانية فيها الخطأ والصواب، وتحتشد بالصراع مع
الظروف لكن الأهم هو الصراع مع النفس، لتحقيق حلم يبدو عصيا لكن المثابرة تحوله
إلى حقيقة، وهنا يصبح التاريخ "درسا"، ليس بالمعنى الوعظي للكلمة، وإنما
لأن التاريخ ذاته هو "الدراما". الأهم هنا هو أن يصبح العمل الفني
تفسيرا وليس سردا لحياة الشخصية من المهد إلى اللحد كما نتصور أحيانا، ومن خلال
حياة الفرد يتم إلقاء الضوء على الفترة التاريخية بأكملها.
ليس الأمر إذن بالسهولة التي يتصورها البعض، فالعبء
الأكبر يقع أولا على المؤلف، الذي يكون عليه أن يبحث عن هذه المفاتيح ولا يكتفي
ببعض الأحداث التي يجمعها من قصاصات الصحف، ويتحمل الممثل المسئولية الثانية، حين
يجب عليه أن يدخل تحت إهاب الشخصية ويتوحد معها، حتى يتمكن من تفسيرها. ولعل
السينما تعطينا نماذج أكثر نضجا في هذا السياق، فالممثل الكوميدي جيم كاري يتحول
إلى شخصية مريرة وإن كانت تعمل في مجال
إضحاك الجماهير، وهو آندي كاوفمان في "رجل على القمر"، كما يصبح جيمي
فوكس في فيلم "راي" هو ذاته الموسيقي والمغني الزنجي الضرير راي تشارلز،
ليصور رحلة كفاحه بقدر ما يصور عذابه من إحساسه طوال حياته بالذنب لأنه كان مسئولا
بشكل ما عن غرق أخيه الصغير، وأخيرا يأتي النجم ويل سميث ليتحول تماما إلى الملاكم
محمد علي كلاي في فيلم "علي"، ويتخلى عن صورة النجومية التي عرف بها.
تتعرض دراما سيرة حياة المشاهير لمشكلات فنية عديدة على
صناع العمل حلها، لعل من أهمها الحرص أحيانا على عدم التعرض لنقاط سلبية في حياة
الشخصية، تجنبا للدعاوى القانونية، وإن كان ذلك قد أصبح أقل كثيرا في السينما
الأمريكية (لكننا ما زلنا نعاني منها)، لذلك تمكن مثلا أوليفر ستون أن يصنع فيلمه
"نيكسون" بقدر كبير من حرية التعبير والتفسير، خاصة أن بطله يحمل أوزارا
عديدة تعتبر من وصمات التاريخ الأمريكي المعاصر. وفي بعض الأحيان تتركز الدراما
حول الشخصية الأساسية وحدها، ليبدو الجميع إلى جانبه أقزاما أو كومبارس، وربما
أشرارا أيضا، كما في فيلم "الرجل السيندريلا"، الذي يحكي عن ملاكم في
فترة الكساد الكبير خلال الثلاثينيات، وقام بدوره راسيل كرو، ففي هذا الفيلم تحول
المنافسون جميعا إلى خصوم نتوحد – نحن المتفرجين – مع البطل وهو يهزمهم، حتى لو
كان ذلك مخالفا للحقيقة التاريخية. ويصل التدخل في التاريخ أحيانا لدرجة اختراع
شخصيات ليس لها وجود، ففي فيلم "ناسخة بيتهوفن" يختلق صناعه شخصية شابة
جميلة تساعد بيتهوفن في نسخ سيمفونيته التاسعة، وتلهمه قيادتها من وراء الستار في
فترة كان الصمم قد استولى عليه تماما. لكن أرقى الأمثلة في هذا السياق هو فيلم
"أماديوس"، الذي يحكي عن الموسيقي العظيم موزار، من وجهة نظر خصمه سالييري،
الذي يتعذب لأنه لا يملك نفس القدر من الموهبة، ويكرس حياته للقضاء على موزار
باستنزاف فنه إلى آخر قطرة.
ليست هناك في السينما المصرية أمثلة كثيرة وناضجة على
هذا النوع من الدراما، فقد بدأت سيرة حياة المشاهير من كتب التراث، فمن كتاب
"الأغاني للأصفهاني" تأتي "سلامة" متجسدة في أم كلثوم، ومن
نوادر وبطولات العرب يظهر "عنترة بن شداد"، و"خالد بن
الوليد"، ناهيك بالطبع عن "قيس وليلى"، و"رابعة
العدوية"، و"السيد أحمد البدوي"، وكانت قصص حياة هؤلاء جميعا تمتزج
فيها الحقيقة بالأسطورة. كما كان للحكايات
الشعبية وجود في أفلام مثل "أدهم الشرقاوي" و"شفيقة ومتولي"، بينما
يكاد التاريخ المعاصر أن يقتصر على "مصطفى كامل" و"ناصر 56" و"أيام
السادات". وبالطبع لن تنسى السينما المصرية بعض المطربين والمطربات، في أفلام
مثل "ألمظ وعبده الحامولي" و"سيد درويش" و"كوكب
الشرق" و"حليم".
كان أغلب هذه الأفلام يتسم بالضعف الفني، إما لأنها أكثر
التصاقا بالممثل منها إلى الشخصية التي تدور عنها، أو لأنها التزمت بأفكار جاهزة
سائدة عن هذه الشخصية فلم تأت بجديد بشأنها، أو لأنها اكتفت بأن تسرد في رتابة
أحداثا من حياة الشخصية "من الجلدة للجلدة". ولم يفلت من هذا المصير سوى
أفلام قليلة، لعل من أهمها "الناصر صلاح الدين"، الذي سعى أن يكون
إسقاطا على الفترة التاريخية المعاصرة بينما يبدو على السطح كأنه يعود إلى فترة
الحروب الصليبيبة. وهذا الإسقاط يظهر كثيرا في أفلام يوسف شاهين، الذي يمكن
اعتباره الوحيد الذي امتلك الجرأة (أحيانا) في سرد سيرة ذاتية بالمعنى الكامل
للكلمة، في أفلامه "اسكندرية ليه" و"حدوتة مصرية" و"اسكندرية
كمان وكمان" و"اسكندرية نيويورك"، لكنه حتى في أفلامه التي تدور عن
شخصيات من الماضي، مثل النبي يوسف في "المهاجر"، أو الفيلسوف ابن رشد في
"المصير"، يضع لمحات من حياته الشخصية، كأنه يتوحد مع هذا البطل على نحو
ما. لكن المفارقة تصل إلى أقصاها مع أفلام نادية الجندي، مثل "الجاسوسة حكمت
فهمي"، و"امرأة هزت عرش مصر" عن ناهد رشاد عميلة الملك في فترة ما
قبل ثورة 1952، فليست هناك ولو علاقة واهية بالتاريخ في هذه الأفلام، وإنما هي
تكرار ممل لنفس البطلة التي كانت تجسدها الممثلة باستمرار، قاهرة الرجال الذين
يتساقطون تحت أقدامها واحدا بعد الآخر!!
ما زلنا ننتظر أن تظهر في الدراما العربية أعمال عن سيرة
حياة المشاهير، يتلاقى فيها الخاص مع العام، والذاتي مع الموضوعي، وقصة الحياة مع
التاريخ. وليس مهما إلى درجة كبيرة مدى الدقة التاريخية، فالباحث عنها يمكن أن
يجدها في كتب التاريخ ومراجعه، أما وظيفة
الدراما فهي أن تجعلنا "نعيش" تجربة شخص آخر، لنتعلم منها كيف يكون
الصراع مع الحياة.