على طريقة "امسك حرامي"، يحلو لبعض النقاد
والصحفيين السينمائيين أحيانا تصيد بعض الملاحظات في الأفلام، ويصنعون بعدها من
الحبة قبة، ومن هذه الملاحظات ما يرد على لسان ممثل ما كلام عن سلعة محددة، فيسارع
البعض باتهام صناع الفيلم بالترويج الإعلاني لهذه السلعة. هل يمكن أن يكون هذا
اتهاما بالمعنى الحقيقي للكلمة؟ من المؤكد أن الشخصيات داخل الفيلم سوف تركب سيارة
ما، وتستخدم الهاتف، وترتدي ملابس، وترتاد المحلات، وتتناول المشروبات والمأكولات،
وتتفرج على التليفزيون، فهي لا تعيش في عالم تجريدي، لذلك كله لا يمكن أن تتصور
أنه عالم يخلو من السلع والبضائع التي نستعملها جميعا في حياتنا اليومية.
أعرف وأعترف أن هناك في المنطق السابق قليلا من
المغالطة، وأكاد أسمع القارئ يقول: ولماذا سلعة ذات علامة تجارية محددة، وليست
علامة أخرى؟ وذلك بلا شك هو بيت القصيد، لماذا مثلا تتوقف الكاميرا في لقطة قريبة
من فيلم "تقرير الأقلية" نرى فيها النجم توم كروز يتحدث في هاتف محمول
من "ماركة" معينة؟ والغريب أيضا أنه فيلم خيال علمي تدور أحداثه بعد
خمسين عاما من الآن!! وإذا أردت مزيدا من أفلام الخيال العلمي التي تتضمن إعلانات
فهناك "أنا إنسان آلي" حيث يرتدي ويل سميث نوعا محددا من الأحذية
الرياضية الشهيرة، ويقول لك الفيلم أنها تساعده على الجري بسرعة فائقة، كما أن
ثلاثية "ماتريكس" تحتشد بمشاهد المطاردات بسيارات ذات علامة تجارية
واضحة.
أما الأمثلة من السينما المصرية فهي بدورها عديدة، فمنذ
بداياتها كانت أفلامنا "تحشر" الإعلانات حشرا مضحكا، بل كانت هناك عادة
في "تيترات" الأفلام لوحة خاصة تقول لك بوضوح: "الأثاث من المحل
الفلاني"، ولا مانع أيضا – كما في فيلم "ليلى بنت الريف" أن تذكر
لك زوزو شكيب اسم هذا المحل في جملة مقحمة على الحوار، وفي فيلم "سي
عمر" يدخل نجيب الريحاني صيدلية تبدو لافتتها واضحة تماما للعيان. أما
السينما المصرية المعاصرة فيمكنك أن تدخل في سباق مع نفسك وأنت تشاهد أي فيلم من
إخراج طارق العريان، الذي يضرب رقما قياسيا في هذا المجال، سواء في
"تيتو" أو "السلم والثعبان". أما أطرف المواقف هنا فهو فيلم
أحمد مكي الأخير "سينما علي بابا"، فقد انهالت عليه القضايا المرفوعة
ضده من جهات عديدة، لأنه استخدم أسماء بعض الأدوية لتحملها شخصيات ذات سمات
عدوانية، أو لأنه ذكر اسم "محل كشري" في سياق يدعو للسخرية!!
الحقيقة أن العلاقة بين السينما والإعلان علاقة وثيقة
وقديمة، وهي تتلخص في التمويل، فإذا كان البطل سوف يشعر في مشهد ما بالاضطراب، ويخرج
علبة سجائر من جيبه ليدخن إحداها، فلماذا لا يتفق صناع الفيلم مع شركة السجائر على
إظهار العلامة التجارية الخاصة بها، مقابل أن تدفع الشركة مبلغا محددا، وإن لم
توافق فسوف يذهب المنتج لشركة سجائر أخرى؟ (سوف نتوقف عند هذا المثال لاحقا بتفصيل
أكثر). فالسينما في جانب مهم منها عملية تجارية تهدف للربح، والفيلم الذي لا يغطي
تكاليفه ويحصد قدرا من الأرباح لن يمكن منتجه من صنع فيلم آخر. ومن هنا تبدأ في
صناعات السينما الراسخة تخصصات في التسويق، الذي يستخدم الإعلان داخل الفيلم
بطريقتين، يمكن أن نسمي الأولى الإعلان من المنبع، والأخرى الإعلان عند المصب.
ومثال شركة السجائر هي النموذج على الطريقة الأولى، أما الثانية فهي الأهم والتي
تكاد أن تكون غائبة تماما عن صناعات السينما في بلادنا، وهي خلق "سلع
مرتبطة" بالفيلم (وهذه هي الترجمة العربية الدقيقة لوصفها)، وقد لا يصدق
القارئ مثلا أن هذه السلع تحقق ربحا أكبر من الفيلم ذاته، فالملابس التي تشبه ما
ارتاده أبطال سلسلة "حرب النجوم" تباع في كل المحلات الأمريكية على نطاق
مذهل، والنماذج المصغرة من شخصيات أفلام التحريك (مثل وودي أو باز من سلسلة أفلام
"قصة لعبة") تستخدم لترويج بعض المأكولات حيث تباع إلى جانبها، وكل
أفلام الأكشن الأمريكية تتحول على الفور إلى لعبة فيديو مستقلة، يشعر فيها
المستخدم أنه يعيد إخراج الفيلم بطريقته!
ذلك واقع لا يمكن تجنبه في صناعة وتجارة مثل السينما،
وإن كان الأخطر هو نوع آخر خفي من الإعلان، ليس عن سلعة بعينها، بل عندما يصبح
الفيلم كله هو هذا الإعلان. تأمل مرة أخرى البطل الذي يدخن سيجارة كلما استولى
عليه القلق: إن الفيلم – دون أن تشعر – يقول لك أن هذا هو السلوك
"الطبيعي"!! أنت هنا أمام "ترويج" طريقة في الحياة، وكل
السينما في الحقيقة تقوم بهذا الأمر. في الخمسينيات كانت السينما الأمريكية تقول
لك أن النساء نوعان: رقيقة حالمة مثل دوريس داي، وفاتنة عاصفة مثل مارلين مونرو،
وعليك أن تختار الأولى كزوجة، لكن لا مانع من الأخرى كنزوة!! وإذا مددت الخط إلى
آخره فلن تجد وجودا لفتاة مستقلة وحرة ولها اختياراتها، وترفض أن تكون تابعة
للرجل، وكل النماذج التي ظهرت على هذا الشكل كان الفيلم يعاقبها في النهاية على
تمردها، وهكذا كانت السينما تروج وتصنع إعلانات خفية عن النموذج التي تريد به
تشكيل وعي جماعي واجتماعي بطريقة سابقة التجهيز.
لا شك أن ذلك يتم عمدا في صناعات السينما القوية،
كالسينما الأمريكية التي تستعين بخبرات السياسيين وعلماء الاجتماع لصياغة
المفاهيم، وإن اضطرت أحيانا أن تأخذ طريقا عكسيا، عندما تروج لمفهوم طارئ وجد
انتشارا بين الجماهير، فقد كان جيل الخمسينيات الشاب المتمرد الذي ظهر في أمريكا،
ويرفض أن يصدق حقيقة تضحيات الجيل السابق في الحرب العالمية الثانية التي يسمع
عنها ولم يشارك فيها، هذا الجيل يجد تجسيدا في صورة مارلون براندو أو جيمس دين،
لكن هذا البطل المتمرد في السينما يكتشف أن تصرفه سوف يؤدي به إلى الهلاك، وهكذا
"تروج" السينما وتعلن عن ضرورة عودة الابن الضال مرة أخرى إلى القطيع.
في هذا العقد ذاته، يمكنك أن تجد السينما المصرية
"تقلد" قرينتها الأمريكية، فثنائية "الملاك – الشيطان" التي
تجسد المرأة على الشاشة تراها في صورتي فاتن حمامة وهند رستم، والفتى المتمرد
تجدها مثلا في أحمد رمزي ثم حسن يوسف. لكن أكثر صور الإعلانات السياسية خبثا في
السينما هي التي تتسلل إليك دون أن تنتبه لها، وليس أكثر وضوحا على ذلك من أفلام
جيمس بوند، حيث يصب هذا الفيلم أو ذاك فى لاوعيك صورة محددة عن
"الرجولة"، التي تمزج بين العنف البارد والجاذبية الجنسية معا، مع إضفاء
ظلال عنصرية تجعلك تكره شعوبا بأكملها، وحسب تاريخ إنتاج كل فيلم سوف تجد
"الأشرار" ينتمون إلى قومية بعينها، هم أحيانا الروس، أو اليابانيون، أو
الصينيون، وهم مؤخرا العرب والمسلمون!
الإعلان هنا ليس عن سلعة، بل السلعة هي نمط
الحياة، وطريقة التفكير، والموقف السياسي، لقد تحول الفيلم كله في هذه الحالة إلى
إعلان مدته ساعتان، والأهم أنك تدخل بغرض التسلية وتقضي وقتا لطيفا في قاعة العرض،
بينما لا تدرك أنك تتعرض – بالمعنى الحرفي للكلمة – لعملية غسيل مخ، وتخرج بعدها
بمفاهيم تم زرعها في عقلك ووجدانك، وتصبح مادة طيعة في أيدي من يقررون لك مصيرك.
والحل؟ قدر غير قليل من الوعي ونحن نتفرج على الأفلام، ليس فقط لننتبه إلى السلع الاستهلاكية
التي يتم الإعلان عنها هنا وهناك بطريقة صريحة، ولكن الوعي بالرسائل الغامضة
والخفية التي تشكل بها الأفلام حياتنا دون أن نشعر، فتلك هي الإعلانات الأهم
والأخطر على الإطلاق.
No comments:
Post a Comment