بمجرد أن تسمع اسم الفيلم التسجيلى البريطانى "فاوست أمريكى: من كوندى إلى كوندى الجديدة"، سوف يتبادر إلى ذهنك على الفور صورة "فاوست" الذى باع روحه للشيطان، تلك الصورة التى أخذت أشكالا فنية عديدة عبر العصور، بدءا من مسرحيات الأخلاق التى كانت تعرض فى الكنائس فى العصور الوسطى، ومرورا بمسرحيات مارلو وجيته التراجيدية، وحتى المعالجات الحديثة التى شقت طريقها إلى السينما على نحو خاص، مثلما هو الحال فى فيلم "المسحور" Bedazzled فى نسختيه الكوميديتين: البريطانية (1967) والأمريكية (2000)، وإذا كان الشىء بالشىء يذكر، فلا مناص من أن نذكر أيضا النسخة الهزلية المصرية التى تحمل اسم "طير إنت" (2000)، وبرغم اختلاف المعالجات الفنية بينها جميعا، فهى ما تزال تطرح نفس السؤال الجوهرى الذى يلمس وترا حساسا فى أعماق كل إنسان: ماذا يفيد الإنسان إن ربح العالم وخسر نفسه؟
لكن فيلم "فاوست أمريكى" لا يتوقف عند هذا السؤال الأخلاقى، فهو ليس أمثولة ولا موعظة تقول للإنسان أن من الخير له ألا يبيع روحه للشيطان مقابل أى ثمن كان، لكن "فاوست أمريكى" فى جوهره "مذكرة ادعاء" بمعنى الكلمة، ضد من يشير إلى أنهم مجرمو حرب تجب محاكمتهم، غير أن ما نؤكد عليه من البداية أن الفيلم يتخذ طريقا مغايرا تماما لأسلوب مايكل مور، بقدر ما يقترب من أسلوب السينمائى التسجيلى الأمريكى المهم إيرول موريس، فالفيلم يبدو محايدا تماما فى وضعه "الحقائق" متجاورة، بدون تدخل واضح من صانع الفيلم الذى لا نكاد نشعر بوجوده، ولا نرى صورته أبدا، وهو لا يحفز من يقوم بتصويرهم على الإدلاء بشهادة تأخذ مسارا مسبقا، وهو بذلك أقرب إلى مدرسة "سينما الحقيقة" cinema verite منه إلى "السينما المباشرة" direct cinema، إنه يترك شخصيات الفيلم تختار الجانب الذى يعبر عن موقفها من مادة الموضوع، لكن هذا لا يعنى بالطبع أنه ليست هناك فى الفيلم "وجهة نظر"، وهى التى تنشأ عن "تجاور" اللقطات والمشاهد والحقائق، هذا التجاور الذى يقود المتفرج – دون أن يشعر – إلى تبنى وجهة النظر التى يطرحها الفيلم.
ووجهة النظر فى فيلم "فاوست أمريكى" هى تقديم هذا الـ"فاوست" للمحاكمة، ليس فقط لأنه باع روحه للشيطان، لكن لأنه لم يشتر السلطة والقوة مقابل روحه وحدها (بالمعنى المجازى للكلمة)، ولكن مقابل أرواح عشرات ومئات الآلاف من الأرواح (بالمعنى الحقيقى للكلمة) لبشر ضاعوا ضحية طموحه المجنون إلى السلطة. فى نفس الوقت فإن الفيلم يضع على طاولة التشريح فترة من أصعب الأوقات التى مرت بها البشرية فى السنوات الأخيرة، فترة امتزجت فيها السياسة بالـ"بيزينيس"، فترة يقولون أنها تشهد وجود ذلك الوهم المسمى "القرية العالمية الواحدة"، تحت الشعار الزائف بالعولمة، بينما ما تزال فى هذه القرية قصور ينعم أصحابها بالرفاهية، وأكواخ يموت قاطنوها من الجوع، وربما كان مصيرهم هو القتل إذا تصور الأغنياء أن الفقراء يمثلون خطرا عليهم، بما يذكر على الفور بالفيلم الروائى الذى نظلمه باعتباره فيلما للرعب، وهو فيلم المخرج جورج روميرو "أرض الموتى".
إذا أردت فيلم رعب تسجيليا بحق (بالطبع دون المؤثرات البصرية والسمعية لأفلام الرعب!) ففيلم "فاوست أمريكى" هو ضالتك المنشودة، الذى يبدو فى الجانب الأكبر منه كأنه تسجيل للرحلة "الأوديسية" التى سارت فيها كوندوليزا رايس، من الأحياء الفقيرة التى ولدت فيها فى النصف الأول من الخمسينات، حتى اعتلائها قمة السلطة التى يمكن أن تصل إليها، وانتهاء بالابتعاد عن الأضواء ولكن فى انتظار مستقبل ما، قد يتراوح – كما يوحى الفيلم – بين عودة "كوندى" إلى رئاسة جامعة ستانفورد، وممارسة الجولف والعزف على البيانو كما تقول هى، وبين محاكمتها وشركائها على ما يعتبره البعض جرائم حرب ارتكبوها مع سبق الإصرار، فى حق كل ما فى التاريخ الإنسانى من مُثُل أخلاقية، والأفظع أنه تم ارتكاب هذه الجرائم باسم هذه المُثُل!!
وفى الفيلم "قصة" كما ينبغى لكل عمل فنى أن يكون، والقصة هنا بالمعنى الأوسع للكلمة، فحتى المقال او الموضوع الإخبارى التقريرى يحتوى على قصة ما: بداية ووسط ونهاية، ويحتوى على بناء درامى، وكل عمل فنى يشبه على نحو ما مذكرة قانونية للادعاء أو الدفاع، يتم فيها ترتيب الحقائق على نحو محدد لكى تقود المتلقى إلى نتيجة محددة، ولعل هذه الأمر بعيد عن تصور البعض منا خاصة عن السينما التسجيلية، لكن "فاوست أمريكى" يضرب لنا مثلا بالغ البساطة والوضوح والتماسك فى كيفية "بناء" فيلم تسجيلى (ومن المؤكد أن هناك ما لا نهاية من الأبنية فى عالم الفن)، سواء على مستوى الشكل أو المضمون أو وجهة النظر.
وإذا كان الفيلم يعتمد فى مادته على لقطات أرشيفية فى الجانب الأكبر منه، مع شهادات لشخصيات عامة وخاصة تعرف طرفا من حياة وأوجه "البطلة" كوندوليزا رايس، لذلك يأتى معظم بناء الفيلم من رؤية كاتبه ومخرجه سيباستيان دوجارت، ومونتيرته ومنتجته ديانا ديشيلليو. ومثل هذه النوعية من الأفلام تجد بناءها النهائى على طاولة المونتاج، حيث يتشارك المونتير والمخرج فى صياغة "الرؤية" الفنية والسياسية، وهى هنا تقوم على فكرة رئيسية: "تجاور الأضداد أو المتناقضات"، فالفيلم فى كل لحظة منه يضع إلى جوار كل لون لونا يصنع معه تناقضا حادا، ويقطع كل خط مع خط آخر يتعامد عليه، فكأنك أمام لوحة من "بوليفونية" من الألحان، لكن من المؤكد أن الجمع بينها سوف يتركك وأنت فى حالة مزاجية وذهنية يغلب عليها مزيج من الأسى والغضب.
فى بداية الفيلم لقطات خاطفة عديدة لشخصيات "شهيرة" فى الثقافة الأمريكية، بوش الكبير والصغير، ونائبهما ديك تشينى، وشوارزينيجر، وأوبرا وينفرى، جميعهم يلقى بكلمات المديح لكوندى، التى جمعت صفتين كانتا – من وجهة نظر الثقافة الأمريكية - كفيلتين بوضع عقبات أمام وصولها إلى ما وصلت إليه: إنها زنجية، وامرأة. هنا لابد أن يتساءل المتفرج: أليس ذلك تأكيدا على أنها استثناء، وأن القاعدة ما تزال هى التمييز بسبب اللون أو الجنس؟ وسوف يجد المتفرج الإجابة المذهلة فى مشاهد لاحقة متناثرة من الفيلم بأن هذا "التمييز" ذاته كان أحد أسباب صعود نجم كوندى!
يعود الفيلم فى بدايته إلى فترة الطفولة، ابنة لأب قس فى كنسية صغيرة فى مدينة صغيرة، كان كل حلمه أن يجنب ابنته خوض آلام فترة الخمسينات والستينات خلال ذروة نضال الزنوج من أجل حقوقهم المدنية، وحركات العنف والعنف المضاد بين البيض والزنوج، والتى وصلت إلى ذروتها باغتيال مارتين لوثر كينج، وحرق بعض أحياء السود، ومن بينها كنيسة قريبة لحى كوندى حيث لقى فيها عشرات الأطفال الأبرياء مصرعهم. أراد الأب أن يبعدها عن "السياسة" (وأنت تعلم ما انتهت هى إليه)، وكانت حجته التى يؤمن بها أنه إذا أراد الزنوج الحصول على حقوقهم فمن خلال تحقيق مستوى أفضل من التعليم والكرامة والكبرياء. فى فترة الصبا تلك كانت كوندى تحلم بأن تكون عازفة بيانو شهيرة، ويعلق أستاذها فى هذا المجال أنها كانت بارعة فى تنفيذ التعليمات التقنية للعزف، لكنها كانت تفتقد "الإحساس العاطفى" بما تعزف. وعندما أدركت هى أنها لن تحقق نجاحا كبيرا فى هذا المجال قررت أن تتوقف عنه "لأنها لا تريد أن تكون رقم 2".
وهنا تبدأ المرحلة الثانية من حياتها، طالبة للعلوم السياسية على يد البروفيسور كوربيل، التشيكى المهاجر الذى ترك تأثيرا قويا فى الأوساط السياسية الأمريكية، لقد كان هو أبو مادلين أولبرايت بقدر ما كان الأب الروحى لكوندى، لكن تأثيره الأهم هو مدرسته فى "السياسة الواقعية"، التى تنادى بأن التاريخ تصنعه القوة، والأمر الواقع يفرض نفسه، بعيدا عن أى حديث عن المثل والمبادئ والأخلاق (ليت بعض سياسيينا يعرفون ذلك!)، وكانت نظريته قد تأكدت – كما يوضح الفيلم فى لقطات أرشيفية – من خلال التدخل العسكرى الأمريكى فى مناطق مختلفة من العالم، ناهيك عن حرب فييتنام المروعة التى سوف يعرض لك الفيلم بضع لقطات شهيرة عن فظائعها.
وفى الوقت الذى تخصصت فيه كوندى فى الشئون السوفييتية، فى ذروة الحرب الباردة خلال السبعينات، عرفت قصة حب خاطفة مع لاعب البيسبول أبتشيرش، الذى تعرفت عليه من خلال عشق أبيها لهذه الرياضة، وبالفعل تتم خطبتهما التى لم تستمر شهورا دون أن تتكلل بالزواج: لقد تلقت كوندى عرضا بالعمل فى إدارة الرئيس (من الحزب الديموقراطى) جيمى كارتر، وهكذا قررت الذهاب إلى واشنطن بعد أن أعادت خاتم الخطبة، ليؤكد لنا الرجل فى شهادته: "لقد فضلت السلطة على الحب".
ربما كانت هذه الجملة هى مفتاح شخصية كوندى، لكن الحقيقة أنها فضلت السلطة على كل ما يمكن للإنسان أن يحنى الجبين له. ففى غضون سنوات قليلة سوف تدرك كوندى أن الحزب الديموقراطى يتراجع، فقررت الانضمام على الفور إلى الحزب الجمهورى (لقد عادت بعد ذلك لفترة قصيرة للديموقراطيين مرة أخرى لتستقر فى النهاية فى أحضان الجمهوريين)، وهى تجد الشجاعة لتبرير كل ما تفعل، فى صفة سوف تصبح ملاصقة لها على الدوام. إنها تقول أن أباها كان جمهوريا لأن الديموقراطيين رفضوا إعطاءه بطاقة انتخاب، لذلك فقد كانت منذ البداية من الجمهوريين!!
فى الحقيقة أنها تتمتع بذكاء "واقعى" بالغ جعلها تدرك أن نجم الحزب الجمهورى فى تصاعد، خاصة فى فترة بارانويا سياسة رونالد ريجان (هل تتخيل أن رئيسا يستخدم اسم فيلم ليصف سياسته؟ هكذا فعل مع "حرب النجوم"!!). هنا كانت فترة صياغة أفكارها وتكوينها النفسى، وما ساعد على ذلك استعدادها الذى سوف يشرحه أحد زملاء دراستها فى مشهد لاحق بأنها كانت على استعداد دائما لتغيير آرائها من أجل إرضاء أساتذتها، وكان من تعاليم أستاذها فى هذه المرحلة، رونالد ريجان، أن القوة هى الهدف: "ليس مهما أن تكون أمريكا محبوبة فى العالم، المهم أن تنتزع الاحترام".
ساعدتها فى تلك الفترة دراساتها السوفيتية على أن تكون طرفا فاعلا فى اللقاء بين غريمى الحرب الباردة، أو بالأحرى فى تقويض المعسكر الشرقى كله. لكن بقدر ما كان ذلك نقطة إيجابية فى إنجازاتها فإنه كان يمثل أيضا تهديدا لانتهاء دورها السياسى بعد انتهاء الحرب الباردة، لكن كوندى عرفت كيف تلحق بالقطار الذى يقف متأهبا للإقلاع: قطار "المحافظين الجدد"، ومجموعة "صناعة الفكر" فى معهد هوفر للجمهوريين، حيث التقت وجورج شولتز، وواينبيرجر، وفى فترة لاحقة مع رامسفيلد وديك تشينى، ولترتبط بعلاقة عمل طويلة الأمد مع جورج بوش الأب الذى سوف يفتح لها طرقا عملية حتى فى فترة كلينتون من الحزب الديموقراطى. وخلال التسعينات لاحت لها فرصة أن تترأس جامعة ستانفورد حيث تعاملت مع زملائها بقدر هائل من القسوة المهنية، ثم فى مجلس إدارة شركة شيفرون للنفط التى كانت سببا فى مجازر عنيفة فى نيجيريا على يد الحكومة لأن أهل البلاد طالبوا بنصيبهم من هذه الثروة النفطية.
تأتى الفرصة الذهبية لكوندى مع استعداد جورج بوش الابن لترشيح نفسه للرئاسة، لقد كان جاهلا تماما فى السياسة الخارجية (هناك عشرات النوادر عن جهله فى هذا المجال، يتضمن الفيلم بعضا منها)، وتم اختيار كوندى لتكون مستشارته ومعلمته فى هذا المجال، لتبدأ بينهما علاقة عمل غريبة. لقد اختارها بوش مستشارة للأمن القومى، ويقارن الفيلم بين تواضع إمكاناتها مع سابقيها مثل كيسينجر، لكنها تكون قد قررت أن تستولى على الرئيس تماما، وفى إشارات يغمز بها الفيلم يقول بوش عنها أنها موعده الغرامى، ويسألها فى إحدى جلسات الأمم المتحدة إن كان يستطيع الذهاب إلى دورة المياه، وهى تشير إليه عند الحديث عنه بوصفه "زوجها"، ومن المؤكد أن الفيلم لا يقصد أبدا إلى التلميح الجنسى، وإن كانت العلاقة أكثر خطرا بكثير لأن آثارها تطال العالم كله.
وفى تطور يشبه المسرحيات التراجيدية تقع أحداث الحادى عشر من سبتمبر عام 2001، لقد كان من الممكن أن تكون الضربة القاضية على كوندى وحياتها السياسية، لأنها – مستشارة الأمن القومى – كانت قد تلقت تحذيرات من وكالة الخابرات المركزية بهجوم إرهابى وشيك، لكنها تجاهلته. وبدلا من الاعتراف بالتقصير بدأت مأساة "الحرب على الإرهاب"، اخترعت فيها أعداء وهميين، وتلاقت أهدافها مع رغبة بوش فى الانتقام من صدام حسين، وأهداف "البيزينيس" القذر عند المحافظين الجدد، حتى أن بوش رفض لمرات عديدة تقارير المخابرات عن أن العراق يخلو من أسلحة التدمير الشامل المزعومة، وهكذا بدأت الحرب التى دمرت وطنا بأكمله، وأعادته عشرات السنين إلى الوراء.
من جانب آخر كانت استراتيجية الحرب المزعومة ضد الإرهاب تتضمن تعذيب المشتبه بهم، بكل الطرق التى لا يمكن تخيل قدر بشاعتها، بحجة استخراج المعلومات منهم. وفى هذا السياق يعرض الفيلم كيف أن النظام الأمريكى يستطيع وقتما يشاء أن يخرق دستوره وكل الاتفاقيات الدولية التى ينادى فى مواقف أخرى بأن تحترمها دول العالم الضعيفة. تأمل على سبيل المثال تعليق بوش على أن اتفاقية جينيف تمنع تعذيب الأسرى وإذلالهم، إنه يقول بصلف: "تلك كلمات غامضة تماما، ماذا تعنى بالضبط؟"!! (يقطع الفيلم هنا مباشرة على أكداس الأسرى العرايا معصوبى الأعين فى سجن أبو غريب). وبينما كانت كوندى قد بررت من قبل الحرب على العراق بوجود وسائل لصنع أسلحة نووية، فإنها بعد فضح الكذبة تتمادى فى الكذب: "لم نخض هذه الحرب لهذا السبب ولكن لأن صدام طاغية وحان وقت التخلص منه"، كما أنها تدافع عن تعذيب المعتقلين فى جوانتانامو التى تراها "ضرورة لأنها جزء من الحرب على الإرهاب، هل تريدون أن يسير الإرهابيون فى شوارعنا؟". وفى أبشع صور خرق كل الأعراف القانونية تخترع كوندى تعبيرا لم يعرفه التاريخ من قبل: extraordinary rendition والذى يعنى تسليم المعتقلين المشتبه فيهم لدول أخرى لتقوم بالتحقيق معهم من خلال التعذيب الوحشى، وتنكر تماما النص القانونى habeas corpus الذى يفرض عدم احتجاز إنسان دون تقديمه للمحاكمة وتوجيه اتهام محدد له وتوفير فرصة له للدفاع عن نفسه.
وصلت كوندى إلى منصب وزير الخارجية، وتمادت فى سطوتها، لتتعاقد مع شركة "بلاك ووتر" (فرق الموت المرتزقة) بحجة توفير الدفاع للدبلوماسيين فى العراق، حيث ارتكب أفراد الشركة – المتمتعين بالحصانة!! – جرائم مروعة، وبينما كان عقد الشركة بمليار دولار فقد كان تعويض الضحية من العراقيين عشرة آلاف دولار! لقد كانت كوندى تبرر ذلك كله بأن ثلاثة آلاف أمريكى ماتوا فى الحادى عشر من سبتمبر، وكان رد محاورها أن نصف مليون أمريكى ماتوا فى الحرب العالمية الثانية لكن ذلك لم يسمح أبدا بتعذيب أسرى الحرب.
لقد عادت كوندى الآن إلى جامعة استانفورد، لكن وسط حملات تطالب بمحاكتها وشركائها على كل جرائم الحرب التى ارتكبوها. وهى وشركاؤها يستطيعون الإنكار تلو الإنكار، لكن هل يصمت العالم على الجريمة، التى يمكن تكرارها لأن المجرمين يفلتون من العقاب بهذه الطريقة؟ ذلك هو السؤال الذى يطرحه الفيلم بشكل غير مباشر، وإذا كان الفيلم ينتهى بالإشارة إلى عنوانه "فاوست أمريكى" بأننا أمام شخصية شكسبيرية تدفع أى ثمن مقابل السلطة، فإن المرء لا يملك أن يتساءل أحيانا: من لعب دور فاوست، ومن كان الشيطان؟ هناك فى الفيلم لقطة فوتوغرافية تكررت مرتين، وهى أيضا "بوستر" الفيلم: جورج بوش فى مقدمة الكادر جالسا على مكتبه، بينما كوندى فى الخلفية تنظر إليه فى دهاء، فربما كانت هى التى لعبت دور الشيطان. بل إن "الفاوستية" هى جوهر "الحلم الأمريكى" الذى يلخصه الفيلم فى تلك العبارة المخادعة على لسان كوندى: "ليس مهما من أين جئت، المهم أن تستطيع أن تحقق ما تريد"، وليس هناك إشارة واحدة على "كيف" تحقق ذلك دون أن تفقد إنسانيتك أو مبادئك الإنسانية. كما تجد فى العنوان الفرعى للفيلم تلاعبا لفظيا ليس غريبا على الإنجليز المغرمين بالتوريات pun، تأمل كيف كتب "كوندى الجديدة" مستخدما neo بدلا من new، والـ neo-con هم المحافظون الجدد.
يبرز الفيلم لغة الخطاب الأمريكى الذى يجافى المنطق أحيانا أو يلوى عنقه، إن كوندى تقول عن منعطفات حياتها أن تلك جزء من خطة إلهية أكبر، وتنسى أنها بالأحرى جزء من خطة سياسية أكبر، فليس هناك مبرر دينى واحد فى أن يضع بوش أمام العالم اختيارين لا ثالث لهما: "إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهابيين"، أو أن يكون ثمن "الدفاع عن الطريقة الأمريكية فى الحياة" هو قتل وتعذيب ملايين البشر لأنهم غير أمريكيين ولا يتبعون "الطريقة الأمريكية فى الحياة". وبعيدا عن هذه المبررات المزعومة فإن جوهر السلام الأمريكى Pax Americana هو "القوة"، هو "الصدمة والرعب" كما أطلقوا على الحرب ضد شعب العراق، وليس لذلك علاقة بالحديث المزعوم عن الحرية والديموقراطية. فى نهاية الفيلم يرفع بعض أفراد الشعب العراقى أصابعهم المخضبة بالحبر بعد انتخابات فشلت حتى كتابة هذه السطور فى تشكيل حكومة عراقية، واللقطة التالية مباشرة هى عشرات المواطنين الأمريكيين يرفعون فى وجه كوندى أصابعهم المخضبة باللون الأحمر، فى إشارة إلى جرائم الحرب والتعذيب. هذا هو التجاور ذاته فى المزج بين صورة كوندى الطفلة البريئة وصورة كوندى المرأة الصارمة القاسية. وهو أيضا التجاور بين بوش يقول أن "أمريكا محظوظة لأنها نالت خدمات كوندى"، والفنان السينمائى والناشط السياسى شون بين وهو يؤكد: "مكان هذه المرأة هو السجن". المرأة، الزنجية، التى نسيت زنوج نيوأورليانز فى محنة إعصار كاترينا، ويشير فى الفيلم المخرج الزنجى سبايك لى أنها كانت تتسوق بضائع فاخرة بينما الزنوج يموتون"، حتى أنهم يقولون أمام الكاميرا: "إنها ليست واحدة منا"، والحقيقة أنها لم تعد أيضا واحدة من البشر عندما باعت روحها للشيطان، أو عندما قررت أن تلعب دور الشيطان ذاته!
Friday, October 22, 2010
Monday, October 18, 2010
الجنة "الآن" ، ولكن أين؟!
عندما كنا مانزال فى ريعان الشباب، كانت هناك سينما سياسية ثورية تجتاح العالم كله، وكنا ننتظر أن تتحقق الثورة ويأتى يوم تسود فيه العدالة لكل بنى البشر، لكننا أصبحنا فى الفترة الأخيرة "مابعد حداثيين"، فقد انتهينا ( أو أنهونا) إلى أن مثل هذه الثورات "باطل الأباطيل وقبض الريح"، وإذا كانت التحولات الدراماتيكية فى العالم – كما حدث ويحدث عبر التاريخ الإنسانى كله – قد أفقدتنا بعضا من روح التفاؤل، فقد أسرع إخواننا ما بعد الحداثثين لاستخدام هذه التحولات للوصول إلى مقولة "نهاية عصر الأيديولوجيات" مع أن هذه أيديولوجيا فى حد ذاتها!! كما أكدوا لنا أن هناك "حقيقة" واحدة، هى أنه لا توجد حقيقة على الإطلاق!! ويبدو أن فيلم "الجنة الآن" يسير فى هذا الطريق ما بعد الحداثى، لأنه "يبدو" أنه يثير عشرات الأسئلة دون أن يجيب عن واحدة منها، وإن كان تحت السطح ينحاز إلى إجابة بعينها وكأنها بؤرة الفيلم المختفية.
وبما أننا ذكرنا سينما السبعينات الثورية فقد كان هناك فيلم إيطالى يدعى "ساكو وفانزيتى"، يحكى عن اثنين من العمال، أحدهما أيديولوجى قوى البنية بينما الآخر متردد ذو جسم هزيل، وعندما يتعرضان للاعتقال والتعذيب فإن الفيلم ينتهى إلى تخاذل الأول بينما يزداد صمود الثانى وإيمانه بضرورة الثورة. هذان هما على نحو ما بطلا فيلم "الجنة الآن" اللذان يكلفان بمهمة "انتحارية"، فإذا بالبطل الشجاع يتراجع لكن البطل المهتز يزداد تصميمه على تنفيذ المهمة. فى قلب الفيلم إذن تدور الأحداث حول جدوى العمليات "الانتحارية"، لكن هل عرض الفيلم هذه القضية بالموضوعية ـ ولا نقول الحيادية ـ المفترض أن تتجسد فى الشخصيات التى نراها على الشاشة؟ يقول الفيلم أنه يدور فى مدينة الخليل، ويالهول ما يحدث كل يوم فى هذه المدينة المناضلة منذ عام 1967، لكننا نراها فى الفيلم مدينة هادئة لا يعكر صفوها إلا بعض نقاط التفتيش "اللطيفة" التى تذكرك بلجان المرور عندنا، وإذا أردت أن تغيظ هؤلاء الجنود الإسرائيليين فما عليك إلا أن تفعل مثل بطلة الفيلم التى تحشو حقيبتها بملابس تشكل ألوانها ألوان العلم الفلسطينى! وفى حدوتة الفيلم لن تعرف على وجه اليقين ماهو دافع البطل المقدام للاستشهاد، أما الثانى المتردد فسوف تكتشف أن دافعه أقرب إلى "التطهير النفسى"، فهو يريد أن يمحو عار أبيه الذى "أعدمه" الفلسطينيون لتعاونه مع الاحتلال.
فى الخلفية من الأحداث سوف ترى مجموعة من الشخصيات بلا ملامح، مهمتهم إعداد البطلين للاستشهاد فى مشاهد من المؤكد أنها "فولكلورية" للمتفرج الغربى ( قارن لقطات الغُسل على سبيل المثال كأنه إعداد للدفن)، لكن هؤلاء يفتقدون عن عمد أى دعم درامى لموقفهم مما يجعلهم يبدون وحوشا لا قلوب لها، يدفعون الآخرين للموت بينما يبقون هم على قيد الحياة، وأرجو أن تتأمل كيف تتحول عملية تصوير رسالة الاستشهادى إلى أهله ـ مع توقف الكاميرا عن العمل مرة بعد أخرى ـ على أنها عملية لا تختلف عن تفاهات الحياة اليومية، خاصة فى انهماك المصور فى التهام الشطائر واقتسام الآخرين للسجائر وانصرافهم أحيانا عن "البطل" الذى يأخذ الأمر وحده على محمل الجد والتقديس.
أما "ضمير" الفيلم فيتجسد فى الفتاة الفلسطينية المغتربة (وكأنها تجسيد لصناع الفيلم أنفسهم) التى تؤكد أن "الجنة الآن" وليست ما بعد الموت، وأنه لابد من طريق آخر غير العمليات الاستشهادية لمقاومة الاحتلال، ولم يقل لنا صناع الفيلم إن كانت من بين الاختيارات المطروحة علينا اتفاقية أوسلو أو كامب ديفيد أم شرم الشيخ أم خارطة الطريق؟! الغريب أن فيلما ذا انتماء فلسطينى مثل "الجنة الآن" يغفل تماما السياق شديد القسوة الذى يصنع "العقلية الاستشهادية"، بينما ينجح الفيلم الأمريكى "سيريانا" مثلا فى رسم التفاصيل التى تمتد عبر خريطة الكرة الأرضية لتصنع هؤلاء الاستشهاديين. وأرجو أن تتأمل هذا الابتزاز العاطفى المقتبس عن أفلام التشويق بدءا من هيتشكوك وحتى "ميونيخ" سبيلبيرج، لظهور طفلة تلهو فى المكان المفترض تفجيره، مما يسمح لصانع الفيلم أن يتلاعب بمشاعر وأفكار المتفرجين، لكن لو كان الفيلم منصفا بحق لأظهر جنازات الأطفال الفلسطينيين الذين يلقون مصرعهم كل يوم برصاصات الاحتلال.
هل نحن فى حاجة للاعتذار للعالم عن عمليات استشهادية ليست بأى حال مقتصرة على الفلسطينيين أو المسلمين كما يصور الإعلام الغربى؟ فماذا عن اليابانيين والتاميل وبادرماينهوف والألوية الحمراء؟ بل ماذا عن التفجيرات التى دبرها الصهاينة أنفسهم فى بداية الخمسينات وسط دوائر اليهود فى مصر والعراق لدفعهم للهجرة إلى فلسطين؟ إن هناك خطا رفيعا بين الإرهاب والمقاومة، ونحن لا نطلب ولا نريد من الفيلم أن يعطى المقاومة صفة الانتقام المبرر، لكننا نريد منه أن يجعلنا ويجعل العالم أكثر وعيا بحقيقة الصهيونية والاحتلال الإسرائيلى، وفى هذا السياق فإننا لا نستطيع ـ أيا كانت المبررات أن نقبل وجود هذا الاحتلال كأمر واقع حتى لو أعطانا نموذجا على تحقيق "الجنة الآن" كما ظهرت فى الفاتنات لابسات البكينى على شاطئ تل أبيب!! لكن لأننا نعيش فى عصر مابعد الحداثة المزعوم، فليست هناك من حقيقة واضحة حول أى احتلال، فله كما لكل شئ أسماء مضللة كالعودة إلى أرض الميعاد أو "فرض" الديموقراطية فى الشرق الأوسط، أو الدعوة لتعايش مسنحيل بين العرب والصهاينة (ولا نقول اليهود بأية حال)، ولو كان الفيلم يملك الرؤية الأقرب للموضوعية، واعترف أن "الإسرائيلى" (مرة أخرى نؤكد أننا لا نقول "اليهودى") هو صهيونى الفكر والممارسة، وهو الذى لا يقبل إلا بنفى وجود غيره من البشر، نقول أنه لو اعترف الفيلم بذلك لأضاف إلى عنوانه كلمة واحدة ليصبح عنوانه دعوة لتحقيق "الجنة هنا، والآن"!
وبما أننا ذكرنا سينما السبعينات الثورية فقد كان هناك فيلم إيطالى يدعى "ساكو وفانزيتى"، يحكى عن اثنين من العمال، أحدهما أيديولوجى قوى البنية بينما الآخر متردد ذو جسم هزيل، وعندما يتعرضان للاعتقال والتعذيب فإن الفيلم ينتهى إلى تخاذل الأول بينما يزداد صمود الثانى وإيمانه بضرورة الثورة. هذان هما على نحو ما بطلا فيلم "الجنة الآن" اللذان يكلفان بمهمة "انتحارية"، فإذا بالبطل الشجاع يتراجع لكن البطل المهتز يزداد تصميمه على تنفيذ المهمة. فى قلب الفيلم إذن تدور الأحداث حول جدوى العمليات "الانتحارية"، لكن هل عرض الفيلم هذه القضية بالموضوعية ـ ولا نقول الحيادية ـ المفترض أن تتجسد فى الشخصيات التى نراها على الشاشة؟ يقول الفيلم أنه يدور فى مدينة الخليل، ويالهول ما يحدث كل يوم فى هذه المدينة المناضلة منذ عام 1967، لكننا نراها فى الفيلم مدينة هادئة لا يعكر صفوها إلا بعض نقاط التفتيش "اللطيفة" التى تذكرك بلجان المرور عندنا، وإذا أردت أن تغيظ هؤلاء الجنود الإسرائيليين فما عليك إلا أن تفعل مثل بطلة الفيلم التى تحشو حقيبتها بملابس تشكل ألوانها ألوان العلم الفلسطينى! وفى حدوتة الفيلم لن تعرف على وجه اليقين ماهو دافع البطل المقدام للاستشهاد، أما الثانى المتردد فسوف تكتشف أن دافعه أقرب إلى "التطهير النفسى"، فهو يريد أن يمحو عار أبيه الذى "أعدمه" الفلسطينيون لتعاونه مع الاحتلال.
فى الخلفية من الأحداث سوف ترى مجموعة من الشخصيات بلا ملامح، مهمتهم إعداد البطلين للاستشهاد فى مشاهد من المؤكد أنها "فولكلورية" للمتفرج الغربى ( قارن لقطات الغُسل على سبيل المثال كأنه إعداد للدفن)، لكن هؤلاء يفتقدون عن عمد أى دعم درامى لموقفهم مما يجعلهم يبدون وحوشا لا قلوب لها، يدفعون الآخرين للموت بينما يبقون هم على قيد الحياة، وأرجو أن تتأمل كيف تتحول عملية تصوير رسالة الاستشهادى إلى أهله ـ مع توقف الكاميرا عن العمل مرة بعد أخرى ـ على أنها عملية لا تختلف عن تفاهات الحياة اليومية، خاصة فى انهماك المصور فى التهام الشطائر واقتسام الآخرين للسجائر وانصرافهم أحيانا عن "البطل" الذى يأخذ الأمر وحده على محمل الجد والتقديس.
أما "ضمير" الفيلم فيتجسد فى الفتاة الفلسطينية المغتربة (وكأنها تجسيد لصناع الفيلم أنفسهم) التى تؤكد أن "الجنة الآن" وليست ما بعد الموت، وأنه لابد من طريق آخر غير العمليات الاستشهادية لمقاومة الاحتلال، ولم يقل لنا صناع الفيلم إن كانت من بين الاختيارات المطروحة علينا اتفاقية أوسلو أو كامب ديفيد أم شرم الشيخ أم خارطة الطريق؟! الغريب أن فيلما ذا انتماء فلسطينى مثل "الجنة الآن" يغفل تماما السياق شديد القسوة الذى يصنع "العقلية الاستشهادية"، بينما ينجح الفيلم الأمريكى "سيريانا" مثلا فى رسم التفاصيل التى تمتد عبر خريطة الكرة الأرضية لتصنع هؤلاء الاستشهاديين. وأرجو أن تتأمل هذا الابتزاز العاطفى المقتبس عن أفلام التشويق بدءا من هيتشكوك وحتى "ميونيخ" سبيلبيرج، لظهور طفلة تلهو فى المكان المفترض تفجيره، مما يسمح لصانع الفيلم أن يتلاعب بمشاعر وأفكار المتفرجين، لكن لو كان الفيلم منصفا بحق لأظهر جنازات الأطفال الفلسطينيين الذين يلقون مصرعهم كل يوم برصاصات الاحتلال.
هل نحن فى حاجة للاعتذار للعالم عن عمليات استشهادية ليست بأى حال مقتصرة على الفلسطينيين أو المسلمين كما يصور الإعلام الغربى؟ فماذا عن اليابانيين والتاميل وبادرماينهوف والألوية الحمراء؟ بل ماذا عن التفجيرات التى دبرها الصهاينة أنفسهم فى بداية الخمسينات وسط دوائر اليهود فى مصر والعراق لدفعهم للهجرة إلى فلسطين؟ إن هناك خطا رفيعا بين الإرهاب والمقاومة، ونحن لا نطلب ولا نريد من الفيلم أن يعطى المقاومة صفة الانتقام المبرر، لكننا نريد منه أن يجعلنا ويجعل العالم أكثر وعيا بحقيقة الصهيونية والاحتلال الإسرائيلى، وفى هذا السياق فإننا لا نستطيع ـ أيا كانت المبررات أن نقبل وجود هذا الاحتلال كأمر واقع حتى لو أعطانا نموذجا على تحقيق "الجنة الآن" كما ظهرت فى الفاتنات لابسات البكينى على شاطئ تل أبيب!! لكن لأننا نعيش فى عصر مابعد الحداثة المزعوم، فليست هناك من حقيقة واضحة حول أى احتلال، فله كما لكل شئ أسماء مضللة كالعودة إلى أرض الميعاد أو "فرض" الديموقراطية فى الشرق الأوسط، أو الدعوة لتعايش مسنحيل بين العرب والصهاينة (ولا نقول اليهود بأية حال)، ولو كان الفيلم يملك الرؤية الأقرب للموضوعية، واعترف أن "الإسرائيلى" (مرة أخرى نؤكد أننا لا نقول "اليهودى") هو صهيونى الفكر والممارسة، وهو الذى لا يقبل إلا بنفى وجود غيره من البشر، نقول أنه لو اعترف الفيلم بذلك لأضاف إلى عنوانه كلمة واحدة ليصبح عنوانه دعوة لتحقيق "الجنة هنا، والآن"!
Sunday, October 17, 2010
تجربة شخصية مع السينما الهندية
عرف أبناء جيلى السينما خلال خمسينيات القرن العشرين من مصادر ثلاثة، كان الأول بالطبع هو السينما المصرية بكل أنماطها الشعبية، التى كانت تلقى منا هوى خاصا فى دور عرض "الترسو"، حيث تشكل وعينا الأول بهذا الفن، أما المصدر الثانى فكان السينما الأمريكية التى كنا شغوفين بإيقاعها السريع، وإن لم نلتفت آنذاك لما تبثه من أفكار عنصرية، فكنا نصفق لطرزان حين يقتل الأفريقيين، ونبتهج عندما يقضى الكاوبوى على الهنود الحمر.
وفجأة اجتاح دور العرض المصرية فيلم لقى رواجا هائلا، حتى أننا شاهدناه مرات عديدة خلال أسابيع قليلة، وكانت تلك هى بداية تأثير السينما الهندية فى المتفرج المصرى، وصانعى الأفلام المصريين أيضا. كان ذلك هو فيلم "من أجل أبنائى"، الذى عرفت فيما بعد، عندما درست تاريخ السينما، أن عنوانه الأصلى هو "أمنا الهند". إنه يحكى عن امرأة يبدأ بها الفيلم شابة فى مقتبل العمر، فلاحة فقيرة تتزوج من حبيبها الفلاح الفقير، ويتعرضان لظلم رجل ثرى يقرضهما بالربا، ويكاد أن يمتص كل ما تغله أرضهما. يصاب الزوج الشاب إصابة تفقده ذراعيه، ويصبح عالة على الزوجة، فيقرر أن يختفى دون أن يترك أثرا، وتصبح البطلة وحيدة، تعمل مع ابنيها فى المساحة القليلة من الأرض، وتقاوم ... تقاوم ملاحقات الرجل الثرى الذى يعرض عليها أن يخلصها من الفقر، لكنها ترفض أن "تبيع" نفسها، وتقاوم الطبيعة القاسية التى تعصف بالقرية وتدمر الحصاد، وترفض أن تهجر القرية وتقرر أن تبنيها من جديد، فتبث الحماس فى أهل القرية جميعا، وتقاوم الصراع بين ولديها حول رغبة أحدهما فى الانتقام وميل الآخر للتسامح ... وتمضى حياتها فنراها فى نهاية الفيلم عجوزا، قدمت تضحيات هائلة لكنها استطاعت أن تحافظ على كرامتها، وقريتها، ووطنها.
لم نلتفت كثيرا لذلك القدر الكبير من الميلودراما التى سوف نعرف فيما بعد أنها تميز معظم أفلام السينما الهندية، لكن ما توقفنا عنده بحق كان تلك العواطف الجارفة التى تنتقل بين الفرحة والبهجة من جانب، والحزن والفاجعة من جانب آخر، كانت عواطف نقية تجعلنا نرتجف فى الحالين معا، كما توقفنا أيضا عند القيم النبيلة التى يحثنا الفيلم عليها: التضحية، العمل الشاق، الكرامة، التسامح، وحدة الهدف، المقاومة، والأمل فى أن النهاية سوف تكون دائما تعويض الفقير والمضطهد والمحروم بأن يحصل على السعادة يوما ما.
كانت تلك العواطف، وهذه القيم، بالإضافة إلى عوامل أخرى سوف نأتى لها لاحقا، هى العمود الفقرى للسينما الهندية، وفى الحقيقة أنها لم تكن فى الهند مجرد "أفلام" يتسلى بها الجمهور، لكنها كانت "الغذاء الروحى والثقافى" الذى تتغذى عليه أمة تتألف من قارة كاملة، كانت عاملا أساسيا فى اتحاد ما يزيد على مليار من البشر، يتحدثون بما يزيد على عشرين لغة ... وكما ازدهرت السينما الصامتة فى أمريكا، فى الساحل الشرقى والغربى على السواء، لأنها كانت الغذاء الفنى المشترك لملايين المهاجرين الذين وصلوا لأمريكا دون أن يتقنوا اللغة الإنجليزية، فقد كانت السينما أكثر أهمية بالنسبة للهند، لأنها لا تتوجه فى الأساس لمجموعات مختلفة من المهاجرين، لكنها تتوجه هنا إلى شعب يتكون من ثقافات ولغات مختلفة، وكانت السينما بالنسبة لهم بوتقةً للانصهار، وعاملا بالغ الأهمية فى تشكيل ونضج القومية الهندية المشتركة.
ليس غريبا إذن أن تذكر المراجع المعاصرة أن الهند تعتبر الدولة الأولى فى العالم (وليس أمريكا كما قد نتصور للوهلة الأولى) فى انتاج الأفلام، فقد أنتجت فى عام 2009 فقط حوالى ثلاثة آلاف فيلم، من بينها حوالى ألفٌ وثلاثمائة فيلم روائى طويل، ولا تُعرض هذه الأفلام داخل الهند فقط، بل يتم توزيعها فيما يزيد على تسعين سوقا سينمائية، فى أنحاء مختلفة من العالم، كما تشترك بعض هذه الأفلام فى مهرجانات السينما العالمية. وإذا كانت السينما الهندية قد قدمت للعالم نجوما شعبيين مثل نرجس وراج كومار (هل ما نزال نذكر تلك الحفاوة التى وجدها أميتاب باتشان عند حضوره مهرجان القاهرة السينمائى منذ سنوات؟ وهل يعرف البعض منا أن أحد المطربيين الشعبيين المصريين قد اتخذ من اسم "باتشان" اسما للشهرة له؟)، أقول أنه إلى جانب هؤلاء النجوم الشعبيين فقد قدمت السينما الهندية مخرجين تركوا بصماتهم الفنية القوية فى تاريخ السينما العالمية، منذ ساتياجيت راى، ومرينال سين فى الخمسينات، والآن هناك شيكار كابور، وميرا ناير، وديبا ميهتا. ومن الناحية الاقتصادية فإن صناعةالسينما الهندية تشكل وجودا ماليا قويا فى سوق الأوراق المالية، خاصة وأن هناك شركات عالمية قررت أن تدخل إلى هذه السوق المثمرة، فى مساهمات مشتركة مع الهند، مثل شركة فوكس للقرن العشرين، وشركة سونى، وشركة إخوان وارنر.
وكما أن صناعة السينما الهندية تمثل بوتقة لجماهير من ثقافات ولغات مختلفة، فإن "الفيلم الهندى" (الجماهيرى على نحو خاص) كان بدوره بوتقة للعديد من العناصر التى تركت تأثيرها على شكله ومضمونه. كان العنصر الأول هو الملاحم الهندية القديمة، مثل ماهابهارتا ورامايانا، وهناك بعض الدراسات التى تقتفى أثر صورة الآلهة النساء فى هذه الملاحم فى تشكيل صورة المرأة فى السينما الهندية، أما على مستوى الشكل فهذه الملاحم تشبه على نحو ما "ألف ليلة وليلة" فى ثقافتنا، إن السرد لا يمضى فى خط مستقيم أبدا، فهو يعود إلى قصة من الماضى، أو يمضى إلى قصة فرعية ليعود بعد ذلك إلى القصة الأساسية، كما أنه يحتوى على القصة داخل القصة، كأنها طبقات متداخلة من السرد، تأخذ المتلقى إلى متاهة ممتعة من الحواديت، يكاد أن يغيب فيها عن الواقع، ليدخل إلى عالم سحرى غامض.
وهذا العالم السحرى، المفارق للواقع، من أهم سمات السينما الهندية الجماهيرية، وقد جاء ذلك من العنصر المؤثر الثانى، وهو الدراما السنسكريتية التى تعتمد اعتمادا كاملا على عنصر "الفرجة"، وتمزج الدراما والغناء والرقص، ولا يهدف هذا العرض إلى محاكاة الواقع، بل إلى تقديم عالم ذى أسلوبية شديدة الخصوصية. وهنا يمكن لنا أن نتأمل قليلا الفرق بين الأفلام الموسيقية الهندية والأخرى الهوليوودية، فهذه الأخيرة تجعل من موضوعها عالم الاستعراض، لذلك فإن الموسيقى والغناء يأتيان فى العادة من مصدر واقعى، لكن السينما الهندية تصنع عالما تتحدث فيه الشخصيات عن أفكارها ومشاعرها بالغناء، وتعبر فيه عن مواقفها بالرقص، وهو ما ترك تأثيره على العديد من أنماط الأفلام فى دول عديدة (تأمل مثلا دور الأغنية فى السينما الشعبية المصرية)، بل إن فيلما هوليووديا ناجحا معاصرا مثل "مولان روج!" للمخرج باز لورمان يقتبس هذا الأسلوب ليصنع عالما أسلوبيا خاصا. وأرجو أن تتأمل أيضا فيلم المخرج البريطانى دانى بويل "مليونير العشوائيات" الذى فاز منذ عامين بجوائز عالمية بالغة الأهمية، وهو فى جوهره تحية ولاء لتقاليد وحبكات وتيمات السينما الهندية الشعبية.
وهنا يأتى دور العنصر المؤثر الثالث، إن هذا العالم الخاص يمزج الواقعية بالفانتازيا، ولا يجد تناقضا بينهما، وهو ما يعود إلى تقاليد المسرح الهندى المعروف باسم "بارسى" فى القرن التاسع عشر، ومرة أخرى تختلف السينما الهندية عن قرينتها الأمريكية، فليس الأمر متعلقا بما يشبه تقاليد "الفودفيل" الذى تتعاقب فيه النمر التمثيلية والأغنيات والرقصات، فالمسألة فى السينما الهندية ليست فى التعاقب، وإنما فى المزج الكامل، حيث لا تستطيع فى نسيج الفيلم أن تفصل بين المأساة والكوميديا، أو الشاعرية والميلودراما، أو الحديث العادى والأغنية، أنت دائما أمام عالم خاص، تدخل إليه وتترك عالمنا الدنيوى وراء ظهرك، لتخرج إليه بعد أن تشاهد الفيلم وأنت تحمل مشاعر وقيما نقية، وقد لا نشعر فى الحياة العادية أبدا بمثل هذا القدر من النقاء.
وربما دخل فى الآونة الأخيرة عنصر جديد، يُعرف على مستوى العالم باسم "أسلوب إم تى فى"، نسبة إلى أشهر المحطات الفضائية التليفزيونية فى مجال الموسيقى والأغنية، ومن خلال هذا الأسلوب أصبحت الأفلام أكثر سرعة فى إيقاعها، وتستخدم زوايا كاميرا غريبة ... لكن المفارقة هنا أن السينما الهندية كانت فى جذورها تحتوى على بعض عناصر هذا الأسلوب الجديد، فالغناء والرقص هما من المكونات الأساسية للدراما، كما أن السرد يقفز بين الأزمنة والأماكن فى طرفة عين، وإذا كانت السينما الهندية قد عرفت مثل هذا الأسلوب منذ نشأتها، فقد انتقل للسينما العالمية عندما أتاحت الإمكانات الرقمية مثل هذا المونتاج الذى يطلق عليه أهل الصناعة "السرد اللاخطى".
إن ذلك لا يعنى أن السينما الهندية كانت مغلقة على ذاتها، رافضة أن تتأثر بالأساليب السينمائية فى بلدان العالم المختلفة، أو أن تخرج عن تقاليد الفيلم الهندى فى شكله الشعبى النمطى، ولم يكن غريبا أن يتأثر ساتاجيت راى فى الخمسينات بالواقعية الجديدة الإيطالية، خاصة بفيلم فيتوريو دى سيكا "سارقو الدراجات"، ولقد عمل راى مع المخرج الفرنسى الشهير جان رينوار فى فيلمه الذى صوره فى الهند، وكان اسمه "النهر"، وتجلت فيه الواقعية الشاعرية الفرنسية، وكان هذان التأثيران واضحين فى فيلم راى فى منتصف الخمسينيات "الأب بانشالى"، وتبنى هذا الجيل، مع مرينال سين أيضا، وريتويك جاتاك، أسليب الموجة الجديدة الفرنسية، وسينما الفن الأوربية، ودخلت إلى أفلامهم الاهتمامات الاجتماعية والسياسية المعاصرة.
كما شهدت السينما الهندية خلال الأعوام الأخيرة رغبة من صناع الأفلام فى الخروج من "التوليفات التقليدية"، وذلك بسبب الشعور بأن ذوق المتفرج الهندى قد تغير قليلا، فى ظل الانفتاح على مؤثرات جديدة وعديدة، والثورة التكنولوجية العالمية فى مجال وسائط الاتصال والفنون. لقد أصبح متاحا أمام المتفرج الهندى، خاصة من الطبقات الوسطى فى المدن، أن يشاهد أحدث الأفلام من مختلف دول العالم، ويمكن أيضا أن تكون مدبلجة إلى اللغة الهندية. لذلك ظهرت بعض الأفلام التى تحاول اقتفاء أثر صيحات ما بعد الحداثة فى السينما الأمريكية، وكانت أفلام كوينتين تارانتينو من أهم المؤثرات فى هذا المجال، ربما لما تحفل به من مبالغات تذهب بالواقعية إلى ما يمكن أن نسميه ما بعد الواقعية، حيث لغة الشارع هى السائدة، والعنف هو اللغة المشتركة، ناهيك عن دور الجنس فى تشكيل العلاقات، التى تصبح غرائزية إلى أقصى مدى.
تبدو السينما الهندية الآن فى مفترق طرق، على المستوى الثقافى والاقتصادى معا، حيث المنافسة التجارية بالغة الشراسة مع السينما الأمريكية الراسخة من جانب، والسينما الصينية المتنامية من جانب آخر. أما من الجانب الثقافى فهى تحاول أن تقف جنبا إلى جنب مع آخر الصيحات الفنية فى السينما العالمية، لكنها لا تريد أيضا أن تفقد دورها "الوطنى" فى توحيد شبه القارة الهندية، بالتأكيد على العناصر المشتركة الخاصة بالثقافات الهندية، وإعلاء شأن القيم الأخلاقية التى تساهم فى بناء مجتمع معاصر لا يفقد فى نفس الوقت أصالته.
إنها قضية لا تعيشها السينما الهندية وحدها، بل كل صناعات السينما الوطنية، خاصة فى عصر تبدو فيه "العولمة" نعمة ونقمة فى وقت واحد، قضية أن تنفتح على العالم وتحافظ أيضا على هويتك، قضية ألا تكتفى بأن تتأثر بل أن تؤثر أيضا، وتقدم إسهامك للحضارة الإنسانية. وإنى على يقين من أن السينما الهندية لن تفقد أصالتها، ونكهتها. وعلى ذكر النكهة فهناك مصطلح فى السينما الهندية يلخص توليفات الحبكة، فى الأفلام الجماهيرية الهندية، التى تجمع فى الفيلم الواحد بين عدة أنماط فيلمية. كثيرا ما ترى فيلما هنديا فلا تستطيع تصنيفه نمطه، فهو يحتوى على الأكشن، والرومانسية، والكوميديا، والميلودراما، والموسيقى، والغناء، والرقص، والخيال، والواقع، والقضية الاجتماعية. إنهم يطلقون على ذلك النمط الهندى الخاص اسم "ماسالا"، وهى تعنى حرفيا خلطة التوابل فى المطبخ الهندى.
إن ذلك يذكرنى بمصطلح نحته ناقدنا المصرى الراحل سامى السلامونى، حين أطلق لفظ "كشرى" على أفلامنا الجماهيرية فى مصر، لقد كان ذلك استهجانا، لكن للقضية وجهها الآخر، لماذا لا تكون الماسالا السينمائية، والكشرى السينمائى، هما الغذاء الفنى لجماهيرنا، التى لا تعرف الاسكالوب بانيه ولا يجب أن نتركها للهامبورجر، لماذا لا نبدأ من هنا والآن من غذائنا الفنى الخاص لنقدم اسهامنا السينمائى لجماهيرنا ولجماهير العالم فى كل مكان؟
وفجأة اجتاح دور العرض المصرية فيلم لقى رواجا هائلا، حتى أننا شاهدناه مرات عديدة خلال أسابيع قليلة، وكانت تلك هى بداية تأثير السينما الهندية فى المتفرج المصرى، وصانعى الأفلام المصريين أيضا. كان ذلك هو فيلم "من أجل أبنائى"، الذى عرفت فيما بعد، عندما درست تاريخ السينما، أن عنوانه الأصلى هو "أمنا الهند". إنه يحكى عن امرأة يبدأ بها الفيلم شابة فى مقتبل العمر، فلاحة فقيرة تتزوج من حبيبها الفلاح الفقير، ويتعرضان لظلم رجل ثرى يقرضهما بالربا، ويكاد أن يمتص كل ما تغله أرضهما. يصاب الزوج الشاب إصابة تفقده ذراعيه، ويصبح عالة على الزوجة، فيقرر أن يختفى دون أن يترك أثرا، وتصبح البطلة وحيدة، تعمل مع ابنيها فى المساحة القليلة من الأرض، وتقاوم ... تقاوم ملاحقات الرجل الثرى الذى يعرض عليها أن يخلصها من الفقر، لكنها ترفض أن "تبيع" نفسها، وتقاوم الطبيعة القاسية التى تعصف بالقرية وتدمر الحصاد، وترفض أن تهجر القرية وتقرر أن تبنيها من جديد، فتبث الحماس فى أهل القرية جميعا، وتقاوم الصراع بين ولديها حول رغبة أحدهما فى الانتقام وميل الآخر للتسامح ... وتمضى حياتها فنراها فى نهاية الفيلم عجوزا، قدمت تضحيات هائلة لكنها استطاعت أن تحافظ على كرامتها، وقريتها، ووطنها.
لم نلتفت كثيرا لذلك القدر الكبير من الميلودراما التى سوف نعرف فيما بعد أنها تميز معظم أفلام السينما الهندية، لكن ما توقفنا عنده بحق كان تلك العواطف الجارفة التى تنتقل بين الفرحة والبهجة من جانب، والحزن والفاجعة من جانب آخر، كانت عواطف نقية تجعلنا نرتجف فى الحالين معا، كما توقفنا أيضا عند القيم النبيلة التى يحثنا الفيلم عليها: التضحية، العمل الشاق، الكرامة، التسامح، وحدة الهدف، المقاومة، والأمل فى أن النهاية سوف تكون دائما تعويض الفقير والمضطهد والمحروم بأن يحصل على السعادة يوما ما.
كانت تلك العواطف، وهذه القيم، بالإضافة إلى عوامل أخرى سوف نأتى لها لاحقا، هى العمود الفقرى للسينما الهندية، وفى الحقيقة أنها لم تكن فى الهند مجرد "أفلام" يتسلى بها الجمهور، لكنها كانت "الغذاء الروحى والثقافى" الذى تتغذى عليه أمة تتألف من قارة كاملة، كانت عاملا أساسيا فى اتحاد ما يزيد على مليار من البشر، يتحدثون بما يزيد على عشرين لغة ... وكما ازدهرت السينما الصامتة فى أمريكا، فى الساحل الشرقى والغربى على السواء، لأنها كانت الغذاء الفنى المشترك لملايين المهاجرين الذين وصلوا لأمريكا دون أن يتقنوا اللغة الإنجليزية، فقد كانت السينما أكثر أهمية بالنسبة للهند، لأنها لا تتوجه فى الأساس لمجموعات مختلفة من المهاجرين، لكنها تتوجه هنا إلى شعب يتكون من ثقافات ولغات مختلفة، وكانت السينما بالنسبة لهم بوتقةً للانصهار، وعاملا بالغ الأهمية فى تشكيل ونضج القومية الهندية المشتركة.
ليس غريبا إذن أن تذكر المراجع المعاصرة أن الهند تعتبر الدولة الأولى فى العالم (وليس أمريكا كما قد نتصور للوهلة الأولى) فى انتاج الأفلام، فقد أنتجت فى عام 2009 فقط حوالى ثلاثة آلاف فيلم، من بينها حوالى ألفٌ وثلاثمائة فيلم روائى طويل، ولا تُعرض هذه الأفلام داخل الهند فقط، بل يتم توزيعها فيما يزيد على تسعين سوقا سينمائية، فى أنحاء مختلفة من العالم، كما تشترك بعض هذه الأفلام فى مهرجانات السينما العالمية. وإذا كانت السينما الهندية قد قدمت للعالم نجوما شعبيين مثل نرجس وراج كومار (هل ما نزال نذكر تلك الحفاوة التى وجدها أميتاب باتشان عند حضوره مهرجان القاهرة السينمائى منذ سنوات؟ وهل يعرف البعض منا أن أحد المطربيين الشعبيين المصريين قد اتخذ من اسم "باتشان" اسما للشهرة له؟)، أقول أنه إلى جانب هؤلاء النجوم الشعبيين فقد قدمت السينما الهندية مخرجين تركوا بصماتهم الفنية القوية فى تاريخ السينما العالمية، منذ ساتياجيت راى، ومرينال سين فى الخمسينات، والآن هناك شيكار كابور، وميرا ناير، وديبا ميهتا. ومن الناحية الاقتصادية فإن صناعةالسينما الهندية تشكل وجودا ماليا قويا فى سوق الأوراق المالية، خاصة وأن هناك شركات عالمية قررت أن تدخل إلى هذه السوق المثمرة، فى مساهمات مشتركة مع الهند، مثل شركة فوكس للقرن العشرين، وشركة سونى، وشركة إخوان وارنر.
وكما أن صناعة السينما الهندية تمثل بوتقة لجماهير من ثقافات ولغات مختلفة، فإن "الفيلم الهندى" (الجماهيرى على نحو خاص) كان بدوره بوتقة للعديد من العناصر التى تركت تأثيرها على شكله ومضمونه. كان العنصر الأول هو الملاحم الهندية القديمة، مثل ماهابهارتا ورامايانا، وهناك بعض الدراسات التى تقتفى أثر صورة الآلهة النساء فى هذه الملاحم فى تشكيل صورة المرأة فى السينما الهندية، أما على مستوى الشكل فهذه الملاحم تشبه على نحو ما "ألف ليلة وليلة" فى ثقافتنا، إن السرد لا يمضى فى خط مستقيم أبدا، فهو يعود إلى قصة من الماضى، أو يمضى إلى قصة فرعية ليعود بعد ذلك إلى القصة الأساسية، كما أنه يحتوى على القصة داخل القصة، كأنها طبقات متداخلة من السرد، تأخذ المتلقى إلى متاهة ممتعة من الحواديت، يكاد أن يغيب فيها عن الواقع، ليدخل إلى عالم سحرى غامض.
وهذا العالم السحرى، المفارق للواقع، من أهم سمات السينما الهندية الجماهيرية، وقد جاء ذلك من العنصر المؤثر الثانى، وهو الدراما السنسكريتية التى تعتمد اعتمادا كاملا على عنصر "الفرجة"، وتمزج الدراما والغناء والرقص، ولا يهدف هذا العرض إلى محاكاة الواقع، بل إلى تقديم عالم ذى أسلوبية شديدة الخصوصية. وهنا يمكن لنا أن نتأمل قليلا الفرق بين الأفلام الموسيقية الهندية والأخرى الهوليوودية، فهذه الأخيرة تجعل من موضوعها عالم الاستعراض، لذلك فإن الموسيقى والغناء يأتيان فى العادة من مصدر واقعى، لكن السينما الهندية تصنع عالما تتحدث فيه الشخصيات عن أفكارها ومشاعرها بالغناء، وتعبر فيه عن مواقفها بالرقص، وهو ما ترك تأثيره على العديد من أنماط الأفلام فى دول عديدة (تأمل مثلا دور الأغنية فى السينما الشعبية المصرية)، بل إن فيلما هوليووديا ناجحا معاصرا مثل "مولان روج!" للمخرج باز لورمان يقتبس هذا الأسلوب ليصنع عالما أسلوبيا خاصا. وأرجو أن تتأمل أيضا فيلم المخرج البريطانى دانى بويل "مليونير العشوائيات" الذى فاز منذ عامين بجوائز عالمية بالغة الأهمية، وهو فى جوهره تحية ولاء لتقاليد وحبكات وتيمات السينما الهندية الشعبية.
وهنا يأتى دور العنصر المؤثر الثالث، إن هذا العالم الخاص يمزج الواقعية بالفانتازيا، ولا يجد تناقضا بينهما، وهو ما يعود إلى تقاليد المسرح الهندى المعروف باسم "بارسى" فى القرن التاسع عشر، ومرة أخرى تختلف السينما الهندية عن قرينتها الأمريكية، فليس الأمر متعلقا بما يشبه تقاليد "الفودفيل" الذى تتعاقب فيه النمر التمثيلية والأغنيات والرقصات، فالمسألة فى السينما الهندية ليست فى التعاقب، وإنما فى المزج الكامل، حيث لا تستطيع فى نسيج الفيلم أن تفصل بين المأساة والكوميديا، أو الشاعرية والميلودراما، أو الحديث العادى والأغنية، أنت دائما أمام عالم خاص، تدخل إليه وتترك عالمنا الدنيوى وراء ظهرك، لتخرج إليه بعد أن تشاهد الفيلم وأنت تحمل مشاعر وقيما نقية، وقد لا نشعر فى الحياة العادية أبدا بمثل هذا القدر من النقاء.
وربما دخل فى الآونة الأخيرة عنصر جديد، يُعرف على مستوى العالم باسم "أسلوب إم تى فى"، نسبة إلى أشهر المحطات الفضائية التليفزيونية فى مجال الموسيقى والأغنية، ومن خلال هذا الأسلوب أصبحت الأفلام أكثر سرعة فى إيقاعها، وتستخدم زوايا كاميرا غريبة ... لكن المفارقة هنا أن السينما الهندية كانت فى جذورها تحتوى على بعض عناصر هذا الأسلوب الجديد، فالغناء والرقص هما من المكونات الأساسية للدراما، كما أن السرد يقفز بين الأزمنة والأماكن فى طرفة عين، وإذا كانت السينما الهندية قد عرفت مثل هذا الأسلوب منذ نشأتها، فقد انتقل للسينما العالمية عندما أتاحت الإمكانات الرقمية مثل هذا المونتاج الذى يطلق عليه أهل الصناعة "السرد اللاخطى".
إن ذلك لا يعنى أن السينما الهندية كانت مغلقة على ذاتها، رافضة أن تتأثر بالأساليب السينمائية فى بلدان العالم المختلفة، أو أن تخرج عن تقاليد الفيلم الهندى فى شكله الشعبى النمطى، ولم يكن غريبا أن يتأثر ساتاجيت راى فى الخمسينات بالواقعية الجديدة الإيطالية، خاصة بفيلم فيتوريو دى سيكا "سارقو الدراجات"، ولقد عمل راى مع المخرج الفرنسى الشهير جان رينوار فى فيلمه الذى صوره فى الهند، وكان اسمه "النهر"، وتجلت فيه الواقعية الشاعرية الفرنسية، وكان هذان التأثيران واضحين فى فيلم راى فى منتصف الخمسينيات "الأب بانشالى"، وتبنى هذا الجيل، مع مرينال سين أيضا، وريتويك جاتاك، أسليب الموجة الجديدة الفرنسية، وسينما الفن الأوربية، ودخلت إلى أفلامهم الاهتمامات الاجتماعية والسياسية المعاصرة.
كما شهدت السينما الهندية خلال الأعوام الأخيرة رغبة من صناع الأفلام فى الخروج من "التوليفات التقليدية"، وذلك بسبب الشعور بأن ذوق المتفرج الهندى قد تغير قليلا، فى ظل الانفتاح على مؤثرات جديدة وعديدة، والثورة التكنولوجية العالمية فى مجال وسائط الاتصال والفنون. لقد أصبح متاحا أمام المتفرج الهندى، خاصة من الطبقات الوسطى فى المدن، أن يشاهد أحدث الأفلام من مختلف دول العالم، ويمكن أيضا أن تكون مدبلجة إلى اللغة الهندية. لذلك ظهرت بعض الأفلام التى تحاول اقتفاء أثر صيحات ما بعد الحداثة فى السينما الأمريكية، وكانت أفلام كوينتين تارانتينو من أهم المؤثرات فى هذا المجال، ربما لما تحفل به من مبالغات تذهب بالواقعية إلى ما يمكن أن نسميه ما بعد الواقعية، حيث لغة الشارع هى السائدة، والعنف هو اللغة المشتركة، ناهيك عن دور الجنس فى تشكيل العلاقات، التى تصبح غرائزية إلى أقصى مدى.
تبدو السينما الهندية الآن فى مفترق طرق، على المستوى الثقافى والاقتصادى معا، حيث المنافسة التجارية بالغة الشراسة مع السينما الأمريكية الراسخة من جانب، والسينما الصينية المتنامية من جانب آخر. أما من الجانب الثقافى فهى تحاول أن تقف جنبا إلى جنب مع آخر الصيحات الفنية فى السينما العالمية، لكنها لا تريد أيضا أن تفقد دورها "الوطنى" فى توحيد شبه القارة الهندية، بالتأكيد على العناصر المشتركة الخاصة بالثقافات الهندية، وإعلاء شأن القيم الأخلاقية التى تساهم فى بناء مجتمع معاصر لا يفقد فى نفس الوقت أصالته.
إنها قضية لا تعيشها السينما الهندية وحدها، بل كل صناعات السينما الوطنية، خاصة فى عصر تبدو فيه "العولمة" نعمة ونقمة فى وقت واحد، قضية أن تنفتح على العالم وتحافظ أيضا على هويتك، قضية ألا تكتفى بأن تتأثر بل أن تؤثر أيضا، وتقدم إسهامك للحضارة الإنسانية. وإنى على يقين من أن السينما الهندية لن تفقد أصالتها، ونكهتها. وعلى ذكر النكهة فهناك مصطلح فى السينما الهندية يلخص توليفات الحبكة، فى الأفلام الجماهيرية الهندية، التى تجمع فى الفيلم الواحد بين عدة أنماط فيلمية. كثيرا ما ترى فيلما هنديا فلا تستطيع تصنيفه نمطه، فهو يحتوى على الأكشن، والرومانسية، والكوميديا، والميلودراما، والموسيقى، والغناء، والرقص، والخيال، والواقع، والقضية الاجتماعية. إنهم يطلقون على ذلك النمط الهندى الخاص اسم "ماسالا"، وهى تعنى حرفيا خلطة التوابل فى المطبخ الهندى.
إن ذلك يذكرنى بمصطلح نحته ناقدنا المصرى الراحل سامى السلامونى، حين أطلق لفظ "كشرى" على أفلامنا الجماهيرية فى مصر، لقد كان ذلك استهجانا، لكن للقضية وجهها الآخر، لماذا لا تكون الماسالا السينمائية، والكشرى السينمائى، هما الغذاء الفنى لجماهيرنا، التى لا تعرف الاسكالوب بانيه ولا يجب أن نتركها للهامبورجر، لماذا لا نبدأ من هنا والآن من غذائنا الفنى الخاص لنقدم اسهامنا السينمائى لجماهيرنا ولجماهير العالم فى كل مكان؟
Subscribe to:
Posts (Atom)