بمجرد أن تسمع اسم الفيلم التسجيلى البريطانى "فاوست أمريكى: من كوندى إلى كوندى الجديدة"، سوف يتبادر إلى ذهنك على الفور صورة "فاوست" الذى باع روحه للشيطان، تلك الصورة التى أخذت أشكالا فنية عديدة عبر العصور، بدءا من مسرحيات الأخلاق التى كانت تعرض فى الكنائس فى العصور الوسطى، ومرورا بمسرحيات مارلو وجيته التراجيدية، وحتى المعالجات الحديثة التى شقت طريقها إلى السينما على نحو خاص، مثلما هو الحال فى فيلم "المسحور" Bedazzled فى نسختيه الكوميديتين: البريطانية (1967) والأمريكية (2000)، وإذا كان الشىء بالشىء يذكر، فلا مناص من أن نذكر أيضا النسخة الهزلية المصرية التى تحمل اسم "طير إنت" (2000)، وبرغم اختلاف المعالجات الفنية بينها جميعا، فهى ما تزال تطرح نفس السؤال الجوهرى الذى يلمس وترا حساسا فى أعماق كل إنسان: ماذا يفيد الإنسان إن ربح العالم وخسر نفسه؟
لكن فيلم "فاوست أمريكى" لا يتوقف عند هذا السؤال الأخلاقى، فهو ليس أمثولة ولا موعظة تقول للإنسان أن من الخير له ألا يبيع روحه للشيطان مقابل أى ثمن كان، لكن "فاوست أمريكى" فى جوهره "مذكرة ادعاء" بمعنى الكلمة، ضد من يشير إلى أنهم مجرمو حرب تجب محاكمتهم، غير أن ما نؤكد عليه من البداية أن الفيلم يتخذ طريقا مغايرا تماما لأسلوب مايكل مور، بقدر ما يقترب من أسلوب السينمائى التسجيلى الأمريكى المهم إيرول موريس، فالفيلم يبدو محايدا تماما فى وضعه "الحقائق" متجاورة، بدون تدخل واضح من صانع الفيلم الذى لا نكاد نشعر بوجوده، ولا نرى صورته أبدا، وهو لا يحفز من يقوم بتصويرهم على الإدلاء بشهادة تأخذ مسارا مسبقا، وهو بذلك أقرب إلى مدرسة "سينما الحقيقة" cinema verite منه إلى "السينما المباشرة" direct cinema، إنه يترك شخصيات الفيلم تختار الجانب الذى يعبر عن موقفها من مادة الموضوع، لكن هذا لا يعنى بالطبع أنه ليست هناك فى الفيلم "وجهة نظر"، وهى التى تنشأ عن "تجاور" اللقطات والمشاهد والحقائق، هذا التجاور الذى يقود المتفرج – دون أن يشعر – إلى تبنى وجهة النظر التى يطرحها الفيلم.
ووجهة النظر فى فيلم "فاوست أمريكى" هى تقديم هذا الـ"فاوست" للمحاكمة، ليس فقط لأنه باع روحه للشيطان، لكن لأنه لم يشتر السلطة والقوة مقابل روحه وحدها (بالمعنى المجازى للكلمة)، ولكن مقابل أرواح عشرات ومئات الآلاف من الأرواح (بالمعنى الحقيقى للكلمة) لبشر ضاعوا ضحية طموحه المجنون إلى السلطة. فى نفس الوقت فإن الفيلم يضع على طاولة التشريح فترة من أصعب الأوقات التى مرت بها البشرية فى السنوات الأخيرة، فترة امتزجت فيها السياسة بالـ"بيزينيس"، فترة يقولون أنها تشهد وجود ذلك الوهم المسمى "القرية العالمية الواحدة"، تحت الشعار الزائف بالعولمة، بينما ما تزال فى هذه القرية قصور ينعم أصحابها بالرفاهية، وأكواخ يموت قاطنوها من الجوع، وربما كان مصيرهم هو القتل إذا تصور الأغنياء أن الفقراء يمثلون خطرا عليهم، بما يذكر على الفور بالفيلم الروائى الذى نظلمه باعتباره فيلما للرعب، وهو فيلم المخرج جورج روميرو "أرض الموتى".
إذا أردت فيلم رعب تسجيليا بحق (بالطبع دون المؤثرات البصرية والسمعية لأفلام الرعب!) ففيلم "فاوست أمريكى" هو ضالتك المنشودة، الذى يبدو فى الجانب الأكبر منه كأنه تسجيل للرحلة "الأوديسية" التى سارت فيها كوندوليزا رايس، من الأحياء الفقيرة التى ولدت فيها فى النصف الأول من الخمسينات، حتى اعتلائها قمة السلطة التى يمكن أن تصل إليها، وانتهاء بالابتعاد عن الأضواء ولكن فى انتظار مستقبل ما، قد يتراوح – كما يوحى الفيلم – بين عودة "كوندى" إلى رئاسة جامعة ستانفورد، وممارسة الجولف والعزف على البيانو كما تقول هى، وبين محاكمتها وشركائها على ما يعتبره البعض جرائم حرب ارتكبوها مع سبق الإصرار، فى حق كل ما فى التاريخ الإنسانى من مُثُل أخلاقية، والأفظع أنه تم ارتكاب هذه الجرائم باسم هذه المُثُل!!
وفى الفيلم "قصة" كما ينبغى لكل عمل فنى أن يكون، والقصة هنا بالمعنى الأوسع للكلمة، فحتى المقال او الموضوع الإخبارى التقريرى يحتوى على قصة ما: بداية ووسط ونهاية، ويحتوى على بناء درامى، وكل عمل فنى يشبه على نحو ما مذكرة قانونية للادعاء أو الدفاع، يتم فيها ترتيب الحقائق على نحو محدد لكى تقود المتلقى إلى نتيجة محددة، ولعل هذه الأمر بعيد عن تصور البعض منا خاصة عن السينما التسجيلية، لكن "فاوست أمريكى" يضرب لنا مثلا بالغ البساطة والوضوح والتماسك فى كيفية "بناء" فيلم تسجيلى (ومن المؤكد أن هناك ما لا نهاية من الأبنية فى عالم الفن)، سواء على مستوى الشكل أو المضمون أو وجهة النظر.
وإذا كان الفيلم يعتمد فى مادته على لقطات أرشيفية فى الجانب الأكبر منه، مع شهادات لشخصيات عامة وخاصة تعرف طرفا من حياة وأوجه "البطلة" كوندوليزا رايس، لذلك يأتى معظم بناء الفيلم من رؤية كاتبه ومخرجه سيباستيان دوجارت، ومونتيرته ومنتجته ديانا ديشيلليو. ومثل هذه النوعية من الأفلام تجد بناءها النهائى على طاولة المونتاج، حيث يتشارك المونتير والمخرج فى صياغة "الرؤية" الفنية والسياسية، وهى هنا تقوم على فكرة رئيسية: "تجاور الأضداد أو المتناقضات"، فالفيلم فى كل لحظة منه يضع إلى جوار كل لون لونا يصنع معه تناقضا حادا، ويقطع كل خط مع خط آخر يتعامد عليه، فكأنك أمام لوحة من "بوليفونية" من الألحان، لكن من المؤكد أن الجمع بينها سوف يتركك وأنت فى حالة مزاجية وذهنية يغلب عليها مزيج من الأسى والغضب.
فى بداية الفيلم لقطات خاطفة عديدة لشخصيات "شهيرة" فى الثقافة الأمريكية، بوش الكبير والصغير، ونائبهما ديك تشينى، وشوارزينيجر، وأوبرا وينفرى، جميعهم يلقى بكلمات المديح لكوندى، التى جمعت صفتين كانتا – من وجهة نظر الثقافة الأمريكية - كفيلتين بوضع عقبات أمام وصولها إلى ما وصلت إليه: إنها زنجية، وامرأة. هنا لابد أن يتساءل المتفرج: أليس ذلك تأكيدا على أنها استثناء، وأن القاعدة ما تزال هى التمييز بسبب اللون أو الجنس؟ وسوف يجد المتفرج الإجابة المذهلة فى مشاهد لاحقة متناثرة من الفيلم بأن هذا "التمييز" ذاته كان أحد أسباب صعود نجم كوندى!
يعود الفيلم فى بدايته إلى فترة الطفولة، ابنة لأب قس فى كنسية صغيرة فى مدينة صغيرة، كان كل حلمه أن يجنب ابنته خوض آلام فترة الخمسينات والستينات خلال ذروة نضال الزنوج من أجل حقوقهم المدنية، وحركات العنف والعنف المضاد بين البيض والزنوج، والتى وصلت إلى ذروتها باغتيال مارتين لوثر كينج، وحرق بعض أحياء السود، ومن بينها كنيسة قريبة لحى كوندى حيث لقى فيها عشرات الأطفال الأبرياء مصرعهم. أراد الأب أن يبعدها عن "السياسة" (وأنت تعلم ما انتهت هى إليه)، وكانت حجته التى يؤمن بها أنه إذا أراد الزنوج الحصول على حقوقهم فمن خلال تحقيق مستوى أفضل من التعليم والكرامة والكبرياء. فى فترة الصبا تلك كانت كوندى تحلم بأن تكون عازفة بيانو شهيرة، ويعلق أستاذها فى هذا المجال أنها كانت بارعة فى تنفيذ التعليمات التقنية للعزف، لكنها كانت تفتقد "الإحساس العاطفى" بما تعزف. وعندما أدركت هى أنها لن تحقق نجاحا كبيرا فى هذا المجال قررت أن تتوقف عنه "لأنها لا تريد أن تكون رقم 2".
وهنا تبدأ المرحلة الثانية من حياتها، طالبة للعلوم السياسية على يد البروفيسور كوربيل، التشيكى المهاجر الذى ترك تأثيرا قويا فى الأوساط السياسية الأمريكية، لقد كان هو أبو مادلين أولبرايت بقدر ما كان الأب الروحى لكوندى، لكن تأثيره الأهم هو مدرسته فى "السياسة الواقعية"، التى تنادى بأن التاريخ تصنعه القوة، والأمر الواقع يفرض نفسه، بعيدا عن أى حديث عن المثل والمبادئ والأخلاق (ليت بعض سياسيينا يعرفون ذلك!)، وكانت نظريته قد تأكدت – كما يوضح الفيلم فى لقطات أرشيفية – من خلال التدخل العسكرى الأمريكى فى مناطق مختلفة من العالم، ناهيك عن حرب فييتنام المروعة التى سوف يعرض لك الفيلم بضع لقطات شهيرة عن فظائعها.
وفى الوقت الذى تخصصت فيه كوندى فى الشئون السوفييتية، فى ذروة الحرب الباردة خلال السبعينات، عرفت قصة حب خاطفة مع لاعب البيسبول أبتشيرش، الذى تعرفت عليه من خلال عشق أبيها لهذه الرياضة، وبالفعل تتم خطبتهما التى لم تستمر شهورا دون أن تتكلل بالزواج: لقد تلقت كوندى عرضا بالعمل فى إدارة الرئيس (من الحزب الديموقراطى) جيمى كارتر، وهكذا قررت الذهاب إلى واشنطن بعد أن أعادت خاتم الخطبة، ليؤكد لنا الرجل فى شهادته: "لقد فضلت السلطة على الحب".
ربما كانت هذه الجملة هى مفتاح شخصية كوندى، لكن الحقيقة أنها فضلت السلطة على كل ما يمكن للإنسان أن يحنى الجبين له. ففى غضون سنوات قليلة سوف تدرك كوندى أن الحزب الديموقراطى يتراجع، فقررت الانضمام على الفور إلى الحزب الجمهورى (لقد عادت بعد ذلك لفترة قصيرة للديموقراطيين مرة أخرى لتستقر فى النهاية فى أحضان الجمهوريين)، وهى تجد الشجاعة لتبرير كل ما تفعل، فى صفة سوف تصبح ملاصقة لها على الدوام. إنها تقول أن أباها كان جمهوريا لأن الديموقراطيين رفضوا إعطاءه بطاقة انتخاب، لذلك فقد كانت منذ البداية من الجمهوريين!!
فى الحقيقة أنها تتمتع بذكاء "واقعى" بالغ جعلها تدرك أن نجم الحزب الجمهورى فى تصاعد، خاصة فى فترة بارانويا سياسة رونالد ريجان (هل تتخيل أن رئيسا يستخدم اسم فيلم ليصف سياسته؟ هكذا فعل مع "حرب النجوم"!!). هنا كانت فترة صياغة أفكارها وتكوينها النفسى، وما ساعد على ذلك استعدادها الذى سوف يشرحه أحد زملاء دراستها فى مشهد لاحق بأنها كانت على استعداد دائما لتغيير آرائها من أجل إرضاء أساتذتها، وكان من تعاليم أستاذها فى هذه المرحلة، رونالد ريجان، أن القوة هى الهدف: "ليس مهما أن تكون أمريكا محبوبة فى العالم، المهم أن تنتزع الاحترام".
ساعدتها فى تلك الفترة دراساتها السوفيتية على أن تكون طرفا فاعلا فى اللقاء بين غريمى الحرب الباردة، أو بالأحرى فى تقويض المعسكر الشرقى كله. لكن بقدر ما كان ذلك نقطة إيجابية فى إنجازاتها فإنه كان يمثل أيضا تهديدا لانتهاء دورها السياسى بعد انتهاء الحرب الباردة، لكن كوندى عرفت كيف تلحق بالقطار الذى يقف متأهبا للإقلاع: قطار "المحافظين الجدد"، ومجموعة "صناعة الفكر" فى معهد هوفر للجمهوريين، حيث التقت وجورج شولتز، وواينبيرجر، وفى فترة لاحقة مع رامسفيلد وديك تشينى، ولترتبط بعلاقة عمل طويلة الأمد مع جورج بوش الأب الذى سوف يفتح لها طرقا عملية حتى فى فترة كلينتون من الحزب الديموقراطى. وخلال التسعينات لاحت لها فرصة أن تترأس جامعة ستانفورد حيث تعاملت مع زملائها بقدر هائل من القسوة المهنية، ثم فى مجلس إدارة شركة شيفرون للنفط التى كانت سببا فى مجازر عنيفة فى نيجيريا على يد الحكومة لأن أهل البلاد طالبوا بنصيبهم من هذه الثروة النفطية.
تأتى الفرصة الذهبية لكوندى مع استعداد جورج بوش الابن لترشيح نفسه للرئاسة، لقد كان جاهلا تماما فى السياسة الخارجية (هناك عشرات النوادر عن جهله فى هذا المجال، يتضمن الفيلم بعضا منها)، وتم اختيار كوندى لتكون مستشارته ومعلمته فى هذا المجال، لتبدأ بينهما علاقة عمل غريبة. لقد اختارها بوش مستشارة للأمن القومى، ويقارن الفيلم بين تواضع إمكاناتها مع سابقيها مثل كيسينجر، لكنها تكون قد قررت أن تستولى على الرئيس تماما، وفى إشارات يغمز بها الفيلم يقول بوش عنها أنها موعده الغرامى، ويسألها فى إحدى جلسات الأمم المتحدة إن كان يستطيع الذهاب إلى دورة المياه، وهى تشير إليه عند الحديث عنه بوصفه "زوجها"، ومن المؤكد أن الفيلم لا يقصد أبدا إلى التلميح الجنسى، وإن كانت العلاقة أكثر خطرا بكثير لأن آثارها تطال العالم كله.
وفى تطور يشبه المسرحيات التراجيدية تقع أحداث الحادى عشر من سبتمبر عام 2001، لقد كان من الممكن أن تكون الضربة القاضية على كوندى وحياتها السياسية، لأنها – مستشارة الأمن القومى – كانت قد تلقت تحذيرات من وكالة الخابرات المركزية بهجوم إرهابى وشيك، لكنها تجاهلته. وبدلا من الاعتراف بالتقصير بدأت مأساة "الحرب على الإرهاب"، اخترعت فيها أعداء وهميين، وتلاقت أهدافها مع رغبة بوش فى الانتقام من صدام حسين، وأهداف "البيزينيس" القذر عند المحافظين الجدد، حتى أن بوش رفض لمرات عديدة تقارير المخابرات عن أن العراق يخلو من أسلحة التدمير الشامل المزعومة، وهكذا بدأت الحرب التى دمرت وطنا بأكمله، وأعادته عشرات السنين إلى الوراء.
من جانب آخر كانت استراتيجية الحرب المزعومة ضد الإرهاب تتضمن تعذيب المشتبه بهم، بكل الطرق التى لا يمكن تخيل قدر بشاعتها، بحجة استخراج المعلومات منهم. وفى هذا السياق يعرض الفيلم كيف أن النظام الأمريكى يستطيع وقتما يشاء أن يخرق دستوره وكل الاتفاقيات الدولية التى ينادى فى مواقف أخرى بأن تحترمها دول العالم الضعيفة. تأمل على سبيل المثال تعليق بوش على أن اتفاقية جينيف تمنع تعذيب الأسرى وإذلالهم، إنه يقول بصلف: "تلك كلمات غامضة تماما، ماذا تعنى بالضبط؟"!! (يقطع الفيلم هنا مباشرة على أكداس الأسرى العرايا معصوبى الأعين فى سجن أبو غريب). وبينما كانت كوندى قد بررت من قبل الحرب على العراق بوجود وسائل لصنع أسلحة نووية، فإنها بعد فضح الكذبة تتمادى فى الكذب: "لم نخض هذه الحرب لهذا السبب ولكن لأن صدام طاغية وحان وقت التخلص منه"، كما أنها تدافع عن تعذيب المعتقلين فى جوانتانامو التى تراها "ضرورة لأنها جزء من الحرب على الإرهاب، هل تريدون أن يسير الإرهابيون فى شوارعنا؟". وفى أبشع صور خرق كل الأعراف القانونية تخترع كوندى تعبيرا لم يعرفه التاريخ من قبل: extraordinary rendition والذى يعنى تسليم المعتقلين المشتبه فيهم لدول أخرى لتقوم بالتحقيق معهم من خلال التعذيب الوحشى، وتنكر تماما النص القانونى habeas corpus الذى يفرض عدم احتجاز إنسان دون تقديمه للمحاكمة وتوجيه اتهام محدد له وتوفير فرصة له للدفاع عن نفسه.
وصلت كوندى إلى منصب وزير الخارجية، وتمادت فى سطوتها، لتتعاقد مع شركة "بلاك ووتر" (فرق الموت المرتزقة) بحجة توفير الدفاع للدبلوماسيين فى العراق، حيث ارتكب أفراد الشركة – المتمتعين بالحصانة!! – جرائم مروعة، وبينما كان عقد الشركة بمليار دولار فقد كان تعويض الضحية من العراقيين عشرة آلاف دولار! لقد كانت كوندى تبرر ذلك كله بأن ثلاثة آلاف أمريكى ماتوا فى الحادى عشر من سبتمبر، وكان رد محاورها أن نصف مليون أمريكى ماتوا فى الحرب العالمية الثانية لكن ذلك لم يسمح أبدا بتعذيب أسرى الحرب.
لقد عادت كوندى الآن إلى جامعة استانفورد، لكن وسط حملات تطالب بمحاكتها وشركائها على كل جرائم الحرب التى ارتكبوها. وهى وشركاؤها يستطيعون الإنكار تلو الإنكار، لكن هل يصمت العالم على الجريمة، التى يمكن تكرارها لأن المجرمين يفلتون من العقاب بهذه الطريقة؟ ذلك هو السؤال الذى يطرحه الفيلم بشكل غير مباشر، وإذا كان الفيلم ينتهى بالإشارة إلى عنوانه "فاوست أمريكى" بأننا أمام شخصية شكسبيرية تدفع أى ثمن مقابل السلطة، فإن المرء لا يملك أن يتساءل أحيانا: من لعب دور فاوست، ومن كان الشيطان؟ هناك فى الفيلم لقطة فوتوغرافية تكررت مرتين، وهى أيضا "بوستر" الفيلم: جورج بوش فى مقدمة الكادر جالسا على مكتبه، بينما كوندى فى الخلفية تنظر إليه فى دهاء، فربما كانت هى التى لعبت دور الشيطان. بل إن "الفاوستية" هى جوهر "الحلم الأمريكى" الذى يلخصه الفيلم فى تلك العبارة المخادعة على لسان كوندى: "ليس مهما من أين جئت، المهم أن تستطيع أن تحقق ما تريد"، وليس هناك إشارة واحدة على "كيف" تحقق ذلك دون أن تفقد إنسانيتك أو مبادئك الإنسانية. كما تجد فى العنوان الفرعى للفيلم تلاعبا لفظيا ليس غريبا على الإنجليز المغرمين بالتوريات pun، تأمل كيف كتب "كوندى الجديدة" مستخدما neo بدلا من new، والـ neo-con هم المحافظون الجدد.
يبرز الفيلم لغة الخطاب الأمريكى الذى يجافى المنطق أحيانا أو يلوى عنقه، إن كوندى تقول عن منعطفات حياتها أن تلك جزء من خطة إلهية أكبر، وتنسى أنها بالأحرى جزء من خطة سياسية أكبر، فليس هناك مبرر دينى واحد فى أن يضع بوش أمام العالم اختيارين لا ثالث لهما: "إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهابيين"، أو أن يكون ثمن "الدفاع عن الطريقة الأمريكية فى الحياة" هو قتل وتعذيب ملايين البشر لأنهم غير أمريكيين ولا يتبعون "الطريقة الأمريكية فى الحياة". وبعيدا عن هذه المبررات المزعومة فإن جوهر السلام الأمريكى Pax Americana هو "القوة"، هو "الصدمة والرعب" كما أطلقوا على الحرب ضد شعب العراق، وليس لذلك علاقة بالحديث المزعوم عن الحرية والديموقراطية. فى نهاية الفيلم يرفع بعض أفراد الشعب العراقى أصابعهم المخضبة بالحبر بعد انتخابات فشلت حتى كتابة هذه السطور فى تشكيل حكومة عراقية، واللقطة التالية مباشرة هى عشرات المواطنين الأمريكيين يرفعون فى وجه كوندى أصابعهم المخضبة باللون الأحمر، فى إشارة إلى جرائم الحرب والتعذيب. هذا هو التجاور ذاته فى المزج بين صورة كوندى الطفلة البريئة وصورة كوندى المرأة الصارمة القاسية. وهو أيضا التجاور بين بوش يقول أن "أمريكا محظوظة لأنها نالت خدمات كوندى"، والفنان السينمائى والناشط السياسى شون بين وهو يؤكد: "مكان هذه المرأة هو السجن". المرأة، الزنجية، التى نسيت زنوج نيوأورليانز فى محنة إعصار كاترينا، ويشير فى الفيلم المخرج الزنجى سبايك لى أنها كانت تتسوق بضائع فاخرة بينما الزنوج يموتون"، حتى أنهم يقولون أمام الكاميرا: "إنها ليست واحدة منا"، والحقيقة أنها لم تعد أيضا واحدة من البشر عندما باعت روحها للشيطان، أو عندما قررت أن تلعب دور الشيطان ذاته!
Friday, October 22, 2010
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment