عرف أبناء جيلى السينما خلال خمسينيات القرن العشرين من مصادر ثلاثة، كان الأول بالطبع هو السينما المصرية بكل أنماطها الشعبية، التى كانت تلقى منا هوى خاصا فى دور عرض "الترسو"، حيث تشكل وعينا الأول بهذا الفن، أما المصدر الثانى فكان السينما الأمريكية التى كنا شغوفين بإيقاعها السريع، وإن لم نلتفت آنذاك لما تبثه من أفكار عنصرية، فكنا نصفق لطرزان حين يقتل الأفريقيين، ونبتهج عندما يقضى الكاوبوى على الهنود الحمر.
وفجأة اجتاح دور العرض المصرية فيلم لقى رواجا هائلا، حتى أننا شاهدناه مرات عديدة خلال أسابيع قليلة، وكانت تلك هى بداية تأثير السينما الهندية فى المتفرج المصرى، وصانعى الأفلام المصريين أيضا. كان ذلك هو فيلم "من أجل أبنائى"، الذى عرفت فيما بعد، عندما درست تاريخ السينما، أن عنوانه الأصلى هو "أمنا الهند". إنه يحكى عن امرأة يبدأ بها الفيلم شابة فى مقتبل العمر، فلاحة فقيرة تتزوج من حبيبها الفلاح الفقير، ويتعرضان لظلم رجل ثرى يقرضهما بالربا، ويكاد أن يمتص كل ما تغله أرضهما. يصاب الزوج الشاب إصابة تفقده ذراعيه، ويصبح عالة على الزوجة، فيقرر أن يختفى دون أن يترك أثرا، وتصبح البطلة وحيدة، تعمل مع ابنيها فى المساحة القليلة من الأرض، وتقاوم ... تقاوم ملاحقات الرجل الثرى الذى يعرض عليها أن يخلصها من الفقر، لكنها ترفض أن "تبيع" نفسها، وتقاوم الطبيعة القاسية التى تعصف بالقرية وتدمر الحصاد، وترفض أن تهجر القرية وتقرر أن تبنيها من جديد، فتبث الحماس فى أهل القرية جميعا، وتقاوم الصراع بين ولديها حول رغبة أحدهما فى الانتقام وميل الآخر للتسامح ... وتمضى حياتها فنراها فى نهاية الفيلم عجوزا، قدمت تضحيات هائلة لكنها استطاعت أن تحافظ على كرامتها، وقريتها، ووطنها.
لم نلتفت كثيرا لذلك القدر الكبير من الميلودراما التى سوف نعرف فيما بعد أنها تميز معظم أفلام السينما الهندية، لكن ما توقفنا عنده بحق كان تلك العواطف الجارفة التى تنتقل بين الفرحة والبهجة من جانب، والحزن والفاجعة من جانب آخر، كانت عواطف نقية تجعلنا نرتجف فى الحالين معا، كما توقفنا أيضا عند القيم النبيلة التى يحثنا الفيلم عليها: التضحية، العمل الشاق، الكرامة، التسامح، وحدة الهدف، المقاومة، والأمل فى أن النهاية سوف تكون دائما تعويض الفقير والمضطهد والمحروم بأن يحصل على السعادة يوما ما.
كانت تلك العواطف، وهذه القيم، بالإضافة إلى عوامل أخرى سوف نأتى لها لاحقا، هى العمود الفقرى للسينما الهندية، وفى الحقيقة أنها لم تكن فى الهند مجرد "أفلام" يتسلى بها الجمهور، لكنها كانت "الغذاء الروحى والثقافى" الذى تتغذى عليه أمة تتألف من قارة كاملة، كانت عاملا أساسيا فى اتحاد ما يزيد على مليار من البشر، يتحدثون بما يزيد على عشرين لغة ... وكما ازدهرت السينما الصامتة فى أمريكا، فى الساحل الشرقى والغربى على السواء، لأنها كانت الغذاء الفنى المشترك لملايين المهاجرين الذين وصلوا لأمريكا دون أن يتقنوا اللغة الإنجليزية، فقد كانت السينما أكثر أهمية بالنسبة للهند، لأنها لا تتوجه فى الأساس لمجموعات مختلفة من المهاجرين، لكنها تتوجه هنا إلى شعب يتكون من ثقافات ولغات مختلفة، وكانت السينما بالنسبة لهم بوتقةً للانصهار، وعاملا بالغ الأهمية فى تشكيل ونضج القومية الهندية المشتركة.
ليس غريبا إذن أن تذكر المراجع المعاصرة أن الهند تعتبر الدولة الأولى فى العالم (وليس أمريكا كما قد نتصور للوهلة الأولى) فى انتاج الأفلام، فقد أنتجت فى عام 2009 فقط حوالى ثلاثة آلاف فيلم، من بينها حوالى ألفٌ وثلاثمائة فيلم روائى طويل، ولا تُعرض هذه الأفلام داخل الهند فقط، بل يتم توزيعها فيما يزيد على تسعين سوقا سينمائية، فى أنحاء مختلفة من العالم، كما تشترك بعض هذه الأفلام فى مهرجانات السينما العالمية. وإذا كانت السينما الهندية قد قدمت للعالم نجوما شعبيين مثل نرجس وراج كومار (هل ما نزال نذكر تلك الحفاوة التى وجدها أميتاب باتشان عند حضوره مهرجان القاهرة السينمائى منذ سنوات؟ وهل يعرف البعض منا أن أحد المطربيين الشعبيين المصريين قد اتخذ من اسم "باتشان" اسما للشهرة له؟)، أقول أنه إلى جانب هؤلاء النجوم الشعبيين فقد قدمت السينما الهندية مخرجين تركوا بصماتهم الفنية القوية فى تاريخ السينما العالمية، منذ ساتياجيت راى، ومرينال سين فى الخمسينات، والآن هناك شيكار كابور، وميرا ناير، وديبا ميهتا. ومن الناحية الاقتصادية فإن صناعةالسينما الهندية تشكل وجودا ماليا قويا فى سوق الأوراق المالية، خاصة وأن هناك شركات عالمية قررت أن تدخل إلى هذه السوق المثمرة، فى مساهمات مشتركة مع الهند، مثل شركة فوكس للقرن العشرين، وشركة سونى، وشركة إخوان وارنر.
وكما أن صناعة السينما الهندية تمثل بوتقة لجماهير من ثقافات ولغات مختلفة، فإن "الفيلم الهندى" (الجماهيرى على نحو خاص) كان بدوره بوتقة للعديد من العناصر التى تركت تأثيرها على شكله ومضمونه. كان العنصر الأول هو الملاحم الهندية القديمة، مثل ماهابهارتا ورامايانا، وهناك بعض الدراسات التى تقتفى أثر صورة الآلهة النساء فى هذه الملاحم فى تشكيل صورة المرأة فى السينما الهندية، أما على مستوى الشكل فهذه الملاحم تشبه على نحو ما "ألف ليلة وليلة" فى ثقافتنا، إن السرد لا يمضى فى خط مستقيم أبدا، فهو يعود إلى قصة من الماضى، أو يمضى إلى قصة فرعية ليعود بعد ذلك إلى القصة الأساسية، كما أنه يحتوى على القصة داخل القصة، كأنها طبقات متداخلة من السرد، تأخذ المتلقى إلى متاهة ممتعة من الحواديت، يكاد أن يغيب فيها عن الواقع، ليدخل إلى عالم سحرى غامض.
وهذا العالم السحرى، المفارق للواقع، من أهم سمات السينما الهندية الجماهيرية، وقد جاء ذلك من العنصر المؤثر الثانى، وهو الدراما السنسكريتية التى تعتمد اعتمادا كاملا على عنصر "الفرجة"، وتمزج الدراما والغناء والرقص، ولا يهدف هذا العرض إلى محاكاة الواقع، بل إلى تقديم عالم ذى أسلوبية شديدة الخصوصية. وهنا يمكن لنا أن نتأمل قليلا الفرق بين الأفلام الموسيقية الهندية والأخرى الهوليوودية، فهذه الأخيرة تجعل من موضوعها عالم الاستعراض، لذلك فإن الموسيقى والغناء يأتيان فى العادة من مصدر واقعى، لكن السينما الهندية تصنع عالما تتحدث فيه الشخصيات عن أفكارها ومشاعرها بالغناء، وتعبر فيه عن مواقفها بالرقص، وهو ما ترك تأثيره على العديد من أنماط الأفلام فى دول عديدة (تأمل مثلا دور الأغنية فى السينما الشعبية المصرية)، بل إن فيلما هوليووديا ناجحا معاصرا مثل "مولان روج!" للمخرج باز لورمان يقتبس هذا الأسلوب ليصنع عالما أسلوبيا خاصا. وأرجو أن تتأمل أيضا فيلم المخرج البريطانى دانى بويل "مليونير العشوائيات" الذى فاز منذ عامين بجوائز عالمية بالغة الأهمية، وهو فى جوهره تحية ولاء لتقاليد وحبكات وتيمات السينما الهندية الشعبية.
وهنا يأتى دور العنصر المؤثر الثالث، إن هذا العالم الخاص يمزج الواقعية بالفانتازيا، ولا يجد تناقضا بينهما، وهو ما يعود إلى تقاليد المسرح الهندى المعروف باسم "بارسى" فى القرن التاسع عشر، ومرة أخرى تختلف السينما الهندية عن قرينتها الأمريكية، فليس الأمر متعلقا بما يشبه تقاليد "الفودفيل" الذى تتعاقب فيه النمر التمثيلية والأغنيات والرقصات، فالمسألة فى السينما الهندية ليست فى التعاقب، وإنما فى المزج الكامل، حيث لا تستطيع فى نسيج الفيلم أن تفصل بين المأساة والكوميديا، أو الشاعرية والميلودراما، أو الحديث العادى والأغنية، أنت دائما أمام عالم خاص، تدخل إليه وتترك عالمنا الدنيوى وراء ظهرك، لتخرج إليه بعد أن تشاهد الفيلم وأنت تحمل مشاعر وقيما نقية، وقد لا نشعر فى الحياة العادية أبدا بمثل هذا القدر من النقاء.
وربما دخل فى الآونة الأخيرة عنصر جديد، يُعرف على مستوى العالم باسم "أسلوب إم تى فى"، نسبة إلى أشهر المحطات الفضائية التليفزيونية فى مجال الموسيقى والأغنية، ومن خلال هذا الأسلوب أصبحت الأفلام أكثر سرعة فى إيقاعها، وتستخدم زوايا كاميرا غريبة ... لكن المفارقة هنا أن السينما الهندية كانت فى جذورها تحتوى على بعض عناصر هذا الأسلوب الجديد، فالغناء والرقص هما من المكونات الأساسية للدراما، كما أن السرد يقفز بين الأزمنة والأماكن فى طرفة عين، وإذا كانت السينما الهندية قد عرفت مثل هذا الأسلوب منذ نشأتها، فقد انتقل للسينما العالمية عندما أتاحت الإمكانات الرقمية مثل هذا المونتاج الذى يطلق عليه أهل الصناعة "السرد اللاخطى".
إن ذلك لا يعنى أن السينما الهندية كانت مغلقة على ذاتها، رافضة أن تتأثر بالأساليب السينمائية فى بلدان العالم المختلفة، أو أن تخرج عن تقاليد الفيلم الهندى فى شكله الشعبى النمطى، ولم يكن غريبا أن يتأثر ساتاجيت راى فى الخمسينات بالواقعية الجديدة الإيطالية، خاصة بفيلم فيتوريو دى سيكا "سارقو الدراجات"، ولقد عمل راى مع المخرج الفرنسى الشهير جان رينوار فى فيلمه الذى صوره فى الهند، وكان اسمه "النهر"، وتجلت فيه الواقعية الشاعرية الفرنسية، وكان هذان التأثيران واضحين فى فيلم راى فى منتصف الخمسينيات "الأب بانشالى"، وتبنى هذا الجيل، مع مرينال سين أيضا، وريتويك جاتاك، أسليب الموجة الجديدة الفرنسية، وسينما الفن الأوربية، ودخلت إلى أفلامهم الاهتمامات الاجتماعية والسياسية المعاصرة.
كما شهدت السينما الهندية خلال الأعوام الأخيرة رغبة من صناع الأفلام فى الخروج من "التوليفات التقليدية"، وذلك بسبب الشعور بأن ذوق المتفرج الهندى قد تغير قليلا، فى ظل الانفتاح على مؤثرات جديدة وعديدة، والثورة التكنولوجية العالمية فى مجال وسائط الاتصال والفنون. لقد أصبح متاحا أمام المتفرج الهندى، خاصة من الطبقات الوسطى فى المدن، أن يشاهد أحدث الأفلام من مختلف دول العالم، ويمكن أيضا أن تكون مدبلجة إلى اللغة الهندية. لذلك ظهرت بعض الأفلام التى تحاول اقتفاء أثر صيحات ما بعد الحداثة فى السينما الأمريكية، وكانت أفلام كوينتين تارانتينو من أهم المؤثرات فى هذا المجال، ربما لما تحفل به من مبالغات تذهب بالواقعية إلى ما يمكن أن نسميه ما بعد الواقعية، حيث لغة الشارع هى السائدة، والعنف هو اللغة المشتركة، ناهيك عن دور الجنس فى تشكيل العلاقات، التى تصبح غرائزية إلى أقصى مدى.
تبدو السينما الهندية الآن فى مفترق طرق، على المستوى الثقافى والاقتصادى معا، حيث المنافسة التجارية بالغة الشراسة مع السينما الأمريكية الراسخة من جانب، والسينما الصينية المتنامية من جانب آخر. أما من الجانب الثقافى فهى تحاول أن تقف جنبا إلى جنب مع آخر الصيحات الفنية فى السينما العالمية، لكنها لا تريد أيضا أن تفقد دورها "الوطنى" فى توحيد شبه القارة الهندية، بالتأكيد على العناصر المشتركة الخاصة بالثقافات الهندية، وإعلاء شأن القيم الأخلاقية التى تساهم فى بناء مجتمع معاصر لا يفقد فى نفس الوقت أصالته.
إنها قضية لا تعيشها السينما الهندية وحدها، بل كل صناعات السينما الوطنية، خاصة فى عصر تبدو فيه "العولمة" نعمة ونقمة فى وقت واحد، قضية أن تنفتح على العالم وتحافظ أيضا على هويتك، قضية ألا تكتفى بأن تتأثر بل أن تؤثر أيضا، وتقدم إسهامك للحضارة الإنسانية. وإنى على يقين من أن السينما الهندية لن تفقد أصالتها، ونكهتها. وعلى ذكر النكهة فهناك مصطلح فى السينما الهندية يلخص توليفات الحبكة، فى الأفلام الجماهيرية الهندية، التى تجمع فى الفيلم الواحد بين عدة أنماط فيلمية. كثيرا ما ترى فيلما هنديا فلا تستطيع تصنيفه نمطه، فهو يحتوى على الأكشن، والرومانسية، والكوميديا، والميلودراما، والموسيقى، والغناء، والرقص، والخيال، والواقع، والقضية الاجتماعية. إنهم يطلقون على ذلك النمط الهندى الخاص اسم "ماسالا"، وهى تعنى حرفيا خلطة التوابل فى المطبخ الهندى.
إن ذلك يذكرنى بمصطلح نحته ناقدنا المصرى الراحل سامى السلامونى، حين أطلق لفظ "كشرى" على أفلامنا الجماهيرية فى مصر، لقد كان ذلك استهجانا، لكن للقضية وجهها الآخر، لماذا لا تكون الماسالا السينمائية، والكشرى السينمائى، هما الغذاء الفنى لجماهيرنا، التى لا تعرف الاسكالوب بانيه ولا يجب أن نتركها للهامبورجر، لماذا لا نبدأ من هنا والآن من غذائنا الفنى الخاص لنقدم اسهامنا السينمائى لجماهيرنا ولجماهير العالم فى كل مكان؟
Sunday, October 17, 2010
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment