فجأة بدا شكل الدراما التليفزيونية، التي تعتمد على
المسلسلات الممتدة، مثل "آدم وجميلة" و"زي الورد"، كأنه جاء
على نحو لم تعرفه المسلسلات المصرية من قبل، وأنه يعبر عن تأثر بالمسلسلات
التركية. لكن قدرا قليلا من التامل، واستدعاء الذاكرة في زمن أصبح فيه النسيان
أمرا عاديا، يشير إلى أن هذا النوع من الدراما ليس جديدا على الإطلاق بالنسبة
لمسلسلاتنا، وأكبر دليل على ذلك هو العديد من الحلقات الممتدة في أجزاء، وكانت من
تأليف الكاتب الراحل، والبارع بحق، أسامة أنور عكاشة.
بل إن عكاشة يتفوق كثيرا على المسلسلات الجديدة، لأنه
أدرك العنصر الأكثر أهمية في ارتباط المتفرج بمسلسلات قد تمتد بلا نهاية، وهذا
العنصر هو – ببساطة شديدة – رسم تفاصيل الشخصيات على نحو شديد الواقعية والتدقيق،
مع اعتماد الدراما على الصراع بين هذه الشخصيات، التي لا يمكن لك أن تصف واحدة
منها بأنها طيبة وأخرى بأنها شريرة، فالدرجات الرمادية بين الخير والشر لا تنتهي،
ولكل شخصية دوافعها التي تضعها في هذا الصراع، ناهيك أيضا عن مسحة الحنين إلى
الماضي، القريب والبعيد معا، في مسلسلات أسامة عكاشة.
وحتى الدراما التي تدور في زمن معاصر، مثل "رحلة
أبو العلا البشري"، التي ظهرت بين عامي 1985 و1996، تلمس هذا الوتر من
الحنين، في شخصية البطل (محمود مرسي)، الذي يبدو أقرب إلى أن يكون "دون
كيشوت" معاصرا، فهو بمثاليته الشديدة يحاول أن يصلح من حياة الآخرين، وهي
المحاولة التي تنتهي – كما انتهت بالنسبة لدون كيشوت – بلمسة ساخرة وهزيمة يطغى
عليها الأسى. وأبو العلا البشري هنا يمثل مركز دائرة، يدور في فلكها العديد من
الشخصيات، التي ينعكس عليها ردود أفعاله، التي يبرع أسامة عكاشة في التأكيد على
رماديتها، فقد كان الرجل في الماضي "مهندس ري"، يتحكم في مجرى نهر النيل
بمشروعاته، لكنه هنا لا يستطيع أن يعترض مجرى الحياة الذي لا يتوقف عن التدفق
والجريان... إنه ببساطة لا يستطيع أن يوقف الزمن، الذي يحمل معه تحولات تزداد
شراسة، بينما هو أمامها يزداد طيبة ومثالية.. وسذاجة!
وفي مسلسل "أبو العلا البشري" سمات سوف تلحظها
في معظم أعمال عكاشة التليفزيونية، فهي تعطي دائما فرصة للممثلين أن يقوموا بأفضل
أدوارهم، بفضل رسم تفاصيل الشخصيات، كما تمنحهم أحيانا "المونولوجات"
التي يسترسلون فيها كأنهم على خشبة مسرح، لكنه مسرح بالغ الإقناع، لأنه مسرح
الحياة. ولعل أكبر مثال على ذلك هو مسلسل "الشهد والدموع"، الذي امتد
بين عامي 1983 و1984، فالممثلون جميعا يظهرون كأنهم شخصيات نعرفها أو نحب أن
نعرفها على الأقل. وفي "الشهد والدموع" يبدو لأول مرة في دراما عكاشة قدر
كبير من التأثر بالروائي العظيم نجيب محفوظ، خاصة في الثلاثية "بين
القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية".
تمتد الدراما هنا كما في الثلاثية في أجواء القاهرة من
بداية القرن العشرين حتى الزمن المعاصر، لتحكي عن رضوان (حمدي غيث)، الأب الذي لا
يخلو من لمسات تجعله قريبا من السيد أحمد عبد الجواد، كما تحكي عن ابنيه حافظ
(يوسف شعبان) وشوقي (محمود الجندي)، يبدو كلاهما على طرف نقيض من الآخر، فالأول
تطغى عليه النزعة العملية ويساعد أباه في التجارة، بينما الآخر يهوى الموسيقى والحياة
الأقرب إلى الصعلكة. لكن الشخصية الأبرز هنا هي زينب (عفاف شعيب، في أفضل أدوارها
على الإطلاق)، ابنة العامل البسيط التي تتزوج من شوقي، وتصبح أرملة في شبابها،
لتصبح رحلة "الشهد والدموع" هي رحلة كفاحها لتربية أبنائها، الذين
يمثلون – كما في الثلاثية – جيلا جديدا، يكاد أن يكرر رحلة الصراع بين شقيقين مرة
أخرى.
وفي "الشهد والدموع" مثال واضح على موهبة
الكتابة الدرامية التليفزيونية، حيث تمتد براعة رسم الشخصيات إلى ما يمكن اعتبارها
شخصيات ثانوية، لكنها هي التي تضفي مصداقية على أجواء الزمان والمكان، مع إتقان
إخراج اسماعيل عبد الحافظ، الذي لا يعتمد على أي إبهار تقني، بقدر ما ينجح تماما
في اختيار الممثلين وإدارتهم، بالإضافة إلى تصوير بعض من الطقوس الاجتماعية التي
كادت أن تختفي، وتزيد حنين المتفرج إلى الماضي، مثل طقس "السبوع"، الذي
تحتفل فيه الأسر المصرية بمرور أسبوع على ميلاد الطفل.
ولعل المسلسل الأطول عند عكاشة والدراما التلفزيونية
المصرية كلها هو "ليالي الحلمية"، الذي امتد عرضه في عديد من الأجزاء
بين عامي 1987 و1995، وأصبح مع الأيام "فولكلورا" تليفزيونيا له مذاق
خاص، حيث كان الخط الدرامي الرئيسي هو الصراع بين سليل الأرستقراطية الغابرة،
الرجل المزواج سليم البدري (يحيى الفخراني)، والعمدة القروي الذي يصبح عدوه اللدود
سليمان غانم (صلاح السعدني)، وهو الصراع الذي لا يتضمن فقط رغبة كل منهما في
الانتصار على الآخر، بما يمثل صراعا بين النزعتين المدنية المتحررة والقروية
المحافظة في الوجدان المصري، لكنه يتضمن أيضا إشارة إلى إمكانية وجود كليهما معا،
حتى لو تنافسا على الفوز بقلب المرأة المتصابية نازك السلحدار (صفية العمري).
وهنا أيضا يمتد الصراع إلى الأجيال الجديدة، ليرسم
التغيرات التي تطرأ على الجوانب الاجتماعية والأخلاقية، كما يشير إلى صعود طبقات
في ظل ما سمي "الانفتاح"، دون أن يعني ذلك ترقي أخلاقيات هذه الطبقات،
وإنما طغيان قيمها على المجتمع كله. وتعطي الدراما مساحات هائلة للممثلين لأفضل
أداء وأكثره رهافة، فالرائعة محسنة توفيق هي أنيسة، الأم بالتبني للابن علي، لكنها
تشهد في أسى القسوة التي أصبح يتسم بها، لأنه لا يريد أن يظل ضعيفا في نظر
الآخرين. وفي دور إنعام سالوسة لحظات درامية عميقة التأثير، فعندما كانت تتقبل كأم
العزاء في استشهاد ابنها، تنطلق في زغرودة تعبر بها عن ألمها، كما لم تظهر لوسي في
أدوار أفضل من تلك التي منحتها لها دراما عكاشة، في "ليالي الحلمية"
و"أرابيسك".
كان جوهر "أرابيسك" هو البحث عن الهوية
المصرية، لكنه لم يكن مسلسلا ممتدا، بينما كان هذا البحث عن الهوية هو محور مسلسل
"زيزينيا"، الذي امتد عرضه بين عامي 1997 و2000. وإذا كان البحث في
"أرابيسك" يدور في أجواء قلب قاهرة المعز، فإنه في "زيزينيا"
يأخذ مجالا أكثر اتساعا، لأنه عن مدينة الاسكندرية "الكوزموبوليتانية"،
أي التي جمعت بين ثقافات مختلفة وصهرتها معا في مزيج متفرد، نراه هنا في شخصية بشر
(يحيى الفخراني)، والذي حمل أيضا اسم بوتشي، المنحدر من أب مصري وأم إيطالية، لذلك
فهو موزع بين هذين العالمين، لكنه أكثر ارتباطا بالعنصر المصري، الذي يتمثل في
زوجة أبيه الطيبة آمنة (هدى سلطان)، والجارة اللعوب عايدة (آثار الحكيم في الجزء
الأول، وهالة صدقي في الثاني)، ذات الجاذبية الطاغية، والتي تصبح مركزا لاهتمام
تنويعات عديدة من الرجال.
مرة أخرى يسجل "زيزينيا" رحلة الصعود لشخصيات
وطبقات جديدة، في منحنيات درامية قد تنتهي – كعائشة في ثلاثية نجيب محفوظ – إلى
غير ما كانت تنبئ به البدايات، في إشارة لا تخلو من أسى لتشتت المصائر. وهي
المصائر التي نراها أيضا في آخر أعمال عكاشة من نوعية الدراما الممتدة، في مسلسل
"المصراوية"، الذي تعددت أجزاؤه بين عامي 2007 و2011. ومسرح المصائر هنا
هو قرية في شمال مصر، حيث الأم وسيدة العائلة (سميحة أيوب) تعد ابنها الأكبر فتح
الله (هشام سليم) ليكون العمدة، بينما ينازعه أشخاص آخرون من العائلة. ومثل سليم
البدري تتعدد زيجات فتح الله، لتشمل جنسيات وأعراقا عديدة، كأن ذلك يشير إلى تعدد
عناصر تكوين الشعب المصري، التي امتزجت في بوتقة متفردة حقا.
لم تكن مسلسلات أسامة أنور عكاشة، العادية منها أو
متعددة الأجزاء، مجرد استهلاك لأشكال درامية تملأ مساحات المشاهدة على شاشات
الفضائيات، ولا استعراضا فارغا لبهلوانيات تقنية تهتم بالشكل دون المضمون، لكنها
كان تحمل هما واهتماما ظلا يسريان في أعماله، ويعبران عن نفسيهما في البحث عن
الهوية، وإثارة الحنين إلى الماضي من أجل إثراء الحاضر. ومن المؤكد أن ذلك نوع فني
وفكري عميق، تصبح معه المسلسلات الطويلة أو ذات الأجزاء ضرورة وليست أقرب إلى
"المقاولات" التليفزيونية، التي سادت وسودت شاشاتنا في الفترة الأخيرة.