من حق أي فنان عربي أن يطلق على نفسه "عالميا" لأنه استطاع الحصول على دور ما في فيلم أمريكي، أو قد يصل الأمر به أيضا للاستئثار بدور البطولة، كما حدث مع الممثل المصري خالد النبوي في فيلم يدعى "المواطن"، وقد تهلل بعض مطبوعات الصحافة العربية الفنية للحدث، حتى قبل أن يشاهد البعض الفيلم، أو قبل أن يبحثوا عما إذا كان لصانعيه – كتاب سيناريو أو منتجين أو مخرج – وجود حقيقي في السينما الأمريكية. وذلك في الحقيقة انعكاس لإحساس جارف بالرغبة في إثبات الذات، وسط صناعة سينمائية عالمية تجاوزت بمراحل واسعة السينما المصرية صناعة وفنا، أو كأننا نتعلق بالقشة في محاولة للنجاة من الغرق.
ولسنا هنا في سياق تأكيد أو نفي موهبة خالد النبوي في التمثيل، فالتمثيل يكاد أن يكون أكثر العناصر السينمائية التي يختلف فيها المتفرجون والنقاد، تبعا للتجاوب أو النفور العاطفي تجاه الممثل أو الممثلة. لكننا سوف نحاول أو نلقي الضوء على الفيلم سواء من ناحية الشكل أو الرسالة، خاصة أنه قد يبدو للوهلة الأولى دفاعا عن "الشخصية العربية"، التي واجهت وما تزال تواجه هجوما شرسا من السينما الأمريكية، بل كل وسائل الإعلام هناك، وهو ما يتأكد على سبيل المثال في كتاب الباحث الأمريكي من أصل لبناني جاك شاهين "العربي الشرير في السينما الأمريكية"، الذي أحصى فيه – حتى عام 2000 – حوالي تسعمائة فيلم أمريكي تعاملت مع الشخصية العربية بشكل سلبي.
وقد تكون الملاحظة الأولى هي الشكل بالغ التقليدية للفيلم، الذي يلجأ إلى "فلاش باك" طويل جدا ليحكي حكايته، من خلال وعي بطله ابراهيم جراح (خالد النبوي)، الذي يقف في المحكمة ليواجه رفض الحكومة الأمريكية لطلبه بالحصول على الجنسية، لكن الفيلم يقع في الخطأ البدائي لمثل هذا البناء، وهو أن يتضمن مشاهد لم يكن البطل طرفا فيها، وبالتالي لا يمكن أن تنبعث من ذاكرته. وبعد أن يقضي الفيلم الوقت الأكبر من عرضه في رواية قصة ابراهيم منذ لحظة وصوله إلى أمريكا، وقد تنقل قبلها بين عدة بلدان عربية منطلقا من موطنه لبنان، غير أنه لم يجد فيها مستقرا، يعود الفيلم إلى مشهد المحاكمة التقليدي، حيث يتنافس وكيل النيابة والمحامي على طريقة الأفلام العربية، لكن ما يحسم القضية هو استرسال البطل ابراهيم في "خطبة" طويلة أخرى، يبدو فيها ليس مدافعا عن نفسه فقط، وإنما عن الدستور الأمريكي أيضا أكثر من الأمريكيين أنفسهم، ليحصل على حق المواطنة بعد تلك الرحلة من المعاناة التي تبدو طويلة.
من جانب آخر يأتي الفيلم متناقضا تماما مع "الرسالة" التي يفترض أنه يسعى إليها، وهي زيف "الحلم الأمريكي"، لكن المفارقة أن يؤكد صحة هذا الحلم في المشهد الأخير، وقد امتلك البطل الذي أتى إلى أمريكا خاوي الوفاض سيارة فارهة ومنزلا فاخرا، تنتظره على أعتابه زوجته الجميلة وطفله الرقيق! غير أن المثير للدهشة حقا أن تحقيق هذا الحلم يأتي من خلال بناء الفيلم في سلسلة من "المصادفات" التي لا تنتهي (على طريقة الأفلام العربية أيضا)، وقد تسأل نفسك: ماذا كان يحدث لو لم تقع هذه المصادفة أو تلك؟ لكن صناع الفيلم لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال أبدا، لأنهم مشغولون على الدوام بتلفيق مجموعة من المآزق التي يقع فيها البطل، الذي لابد له أن تنتهي رحلة معاناته عند السيارة الفارهة والبيت الفاخر.
"حدوتة" الفيلم باختصار هي أن ابراهيم يصل إلى مطار نيويورك، متوقعا اتنظار ابن عمه له، لكنه يجد نفسه وحيدا أمام سلطات الجوازات التي تجري له تحقيقا مطولا. وهو يبحث عن فندق رخيص يقيم فيه، وبالمصادفة وفي دقيقة وصوله ينقذ الفتاة الأمريكية دايان (أنييس بروكنر) من صديقها الذي يعاملها بعنف، لتأخذه (وتأخذنا معه) في جولة سياحية في الدينة، وسوف تمتد العلاقة بينهما طوال الفيلم، دون أن تعرف أنت كمتفرج طبيعة هذه العلاقة، لكي يتزوجا في النهاية، ويعيشا في التبات والنبات.
وبالمصادفة أيضا تقع أحداث الحادي عشر من سبتمبر في اليوم التالي لوصوله، لنراه مشتركا على نحو بالغ التعاطف مع الضحايا، مع لمسات عابرة من مظاهر العداء للعرب والمسلمين بعد هذا الحادث، ويتم القبض عليه ليظل مسجونا ستة شهور، حتى يفرج عنه لأنه لا دليل ضده على اشتراكه في أعمال إرهابية. ومن الغريب أنك لن تجد لفترة السجن تلك أي أثر إنساني أو درامي على بطلنا، الذي يتعرف بالصدفة أيضا على رجل هندي أو باكستاني يدعى "مو" (ربما اختصارا لاسم محمد)، ويعمل لديه في محطة الوقود والمحل الصغير الذي يملكه. وبالصدفة مرة ثالثة يقابل في مركز تعليم الإنجليزية للأجانب فتاة لبنانية تدعى "بَهَا"، ويعجب بها حتى أنه يطلبها للزواج، لكن سرعان ما تختفي الفتاة من حياته ومن الفيلم، وكأن وجودها كان مجانيا وبلا ضرورة درامية.
هل تريد صدفة رابعة؟ إنه ينقذ أمريكيا "يهوديا" كادت أن تودي بحياته مجموعة من الشباب الأمريكي المتعصب، ليرد له الشاب جميله بتشغيله في محل بيع السيارات الذي يملكه والده بالغ الثراء. ولك أن تتخيل أنه عندما واجه رفض منحه الجنسية الأمريكية، أصبح "بطلا" تُنظم المظاهرات من أجله أمام المحكمة، والسبب هو هؤلاء الذين ساعدهم بالصدفة والذين حشدوا المتظاهرين!! وفي التحليل الأخير فإن الفيلم يأتي كتقليد باهت لقصاصات سينمائية أمريكية، كما في مشهد المحاكمة والمظاهرات، أو للأفلام المصرية التي يقوم بناؤها على منطق الصدفة، أو وجود شخصيات وأحداث يمكن أن تحذفها دون أن يحدث أي فرق. وربما كان الأهم في ذلك كله هو الإيقاع بالغ الرتابة للفيلم، وفقدان المتفرج من الحد الأدنى للتعاطف مع البطل، ولا نطمح للتوحد معه.
ولا يملك المرء أمام سذاجة فيلم "المواطن"، بكل الدعاية الصاخبة التي صاحبته، إلا أن يقارنهما بفيلمين آخريين عن نفس التيمة، لكنهما كان أكثر نضجا بكثير، دون أن يعرف المتفرج العربي عنهما شيئا، لمجرد عدم وجود "نجم" (أو هكذا يُفترض) مثل خالد النبوي يدفع هذه الدعاية دفعا. ولم يكن غريبا أن تكون "الممثلة" (بمعنى الكلمة) الفلسطينية هيام عباس موجودة في هذين الفيلمين. الأول هو "الزائر"، من إخراج وسيناريو توماس ماكارثي، عن الأستاذ الأمريكي الكهل الذي يعود إلى شقته التي يملكها في نيويورك، ليجد أن هناك محتالا أجرها لشاب سوري وزوجته، وهو في البداية يصمم على طردهما، لكنه يعطيهما فرصة لأيام معدودة لتدبير أمورهما، لتنمو حالة من الدفء الإنساني بينهم، وقدر أكبر من التفهم لشخصية العربي كإنسان محب للحياة.
الفيلم الآخر هو "أمريكا" (هذا بالضبط نطقه وليس "أميركا")، سيناريو وإخراج شيرين دبس، الذي يحكي عن الأم منى فرح (نسرين فاغور)، الفلسطينية التي تعاني في بلادها من حصار المحتلين، فتقرر قبول "اليانصيب" الأمريكي للرحيل إلى هناك مع ابنها، لتنضم إلى بقية العائلة التي سبقتها. وبحس تسجيلي بالغ الرهافة، تعيش فيه الكاميرا مع الشخصيات لحظاتهم الحميمة البسيطة، ونرى منى وهي تبحث عن عمل، حتى تجده في مطعم، لكنها لا تستطيع أن تصارح الأسرة لأنها تحس بأن ذلك يمس كرامتها، غير أن ذلك لا يحميها وابنها من المطاردات العنصرية اليومية.
من أجمل مزايا فيلم "أمريكا" أن بطلته الممثلة نسرين فاغور تتمتع بجمال بالغ البساطة، وهي تميل إلى البدانة، وكثيرا ما تتحدث عن رغبتها (كشخصية في الفيلم) في أن تبدأ نظام حمية غذائية للتقليل من وزنها، لكنها تتمتع بروح بالغة الدفء تجعلك تحبها وليس أن تتعاطف معها فقط. إنها ليست "نجمة" بالمواصفات العقيم للسينما المصرية، لكنها ممثلة حقيقية، في فيلم ناضج، يجعلك تعيش مع شخصياته ذكريات الحنين للوطن الأم، وهم يتشممون "الزعتر" الذي جلبته منى معها. وعلى النقيض، أتى "المواطن" فاترا، ولا يحمل أي عبق ولو عابر من الحنين لأي وطن!!