Wednesday, January 08, 2014

فيلم "المواطن".... فيلم لا يحمل رائحة الوطن


من حق أي فنان عربي أن يطلق على نفسه "عالميا" لأنه استطاع الحصول على دور ما في فيلم أمريكي، أو قد يصل الأمر به أيضا للاستئثار بدور البطولة، كما حدث مع الممثل المصري خالد النبوي في فيلم يدعى "المواطن"، وقد تهلل بعض مطبوعات الصحافة العربية الفنية للحدث، حتى قبل أن يشاهد البعض الفيلم، أو قبل أن يبحثوا عما إذا كان لصانعيه – كتاب سيناريو أو منتجين أو مخرج – وجود حقيقي في السينما الأمريكية. وذلك في الحقيقة انعكاس لإحساس جارف بالرغبة في إثبات الذات، وسط صناعة سينمائية عالمية تجاوزت بمراحل واسعة السينما المصرية صناعة وفنا، أو كأننا نتعلق بالقشة في محاولة للنجاة من الغرق. ولسنا هنا في سياق تأكيد أو نفي موهبة خالد النبوي في التمثيل، فالتمثيل يكاد أن يكون أكثر العناصر السينمائية التي يختلف فيها المتفرجون والنقاد، تبعا للتجاوب أو النفور العاطفي تجاه الممثل أو الممثلة. لكننا سوف نحاول أو نلقي الضوء على الفيلم سواء من ناحية الشكل أو الرسالة، خاصة أنه قد يبدو للوهلة الأولى دفاعا عن "الشخصية العربية"، التي واجهت وما تزال تواجه هجوما شرسا من السينما الأمريكية، بل كل وسائل الإعلام هناك، وهو ما يتأكد على سبيل المثال في كتاب الباحث الأمريكي من أصل لبناني جاك شاهين "العربي الشرير في السينما الأمريكية"، الذي أحصى فيه – حتى عام 2000 – حوالي تسعمائة فيلم أمريكي تعاملت مع الشخصية العربية بشكل سلبي. وقد تكون الملاحظة الأولى هي الشكل بالغ التقليدية للفيلم، الذي يلجأ إلى "فلاش باك" طويل جدا ليحكي حكايته، من خلال وعي بطله ابراهيم جراح (خالد النبوي)، الذي يقف في المحكمة ليواجه رفض الحكومة الأمريكية لطلبه بالحصول على الجنسية، لكن الفيلم يقع في الخطأ البدائي لمثل هذا البناء، وهو أن يتضمن مشاهد لم يكن البطل طرفا فيها، وبالتالي لا يمكن أن تنبعث من ذاكرته. وبعد أن يقضي الفيلم الوقت الأكبر من عرضه في رواية قصة ابراهيم منذ لحظة وصوله إلى أمريكا، وقد تنقل قبلها بين عدة بلدان عربية منطلقا من موطنه لبنان، غير أنه لم يجد فيها مستقرا، يعود الفيلم إلى مشهد المحاكمة التقليدي، حيث يتنافس وكيل النيابة والمحامي على طريقة الأفلام العربية، لكن ما يحسم القضية هو استرسال البطل ابراهيم في "خطبة" طويلة أخرى، يبدو فيها ليس مدافعا عن نفسه فقط، وإنما عن الدستور الأمريكي أيضا أكثر من الأمريكيين أنفسهم، ليحصل على حق المواطنة بعد تلك الرحلة من المعاناة التي تبدو طويلة. من جانب آخر يأتي الفيلم متناقضا تماما مع "الرسالة" التي يفترض أنه يسعى إليها، وهي زيف "الحلم الأمريكي"، لكن المفارقة أن يؤكد صحة هذا الحلم في المشهد الأخير، وقد امتلك البطل الذي أتى إلى أمريكا خاوي الوفاض سيارة فارهة ومنزلا فاخرا، تنتظره على أعتابه زوجته الجميلة وطفله الرقيق! غير أن المثير للدهشة حقا أن تحقيق هذا الحلم يأتي من خلال بناء الفيلم في سلسلة من "المصادفات" التي لا تنتهي (على طريقة الأفلام العربية أيضا)، وقد تسأل نفسك: ماذا كان يحدث لو لم تقع هذه المصادفة أو تلك؟ لكن صناع الفيلم لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال أبدا، لأنهم مشغولون على الدوام بتلفيق مجموعة من المآزق التي يقع فيها البطل، الذي لابد له أن تنتهي رحلة معاناته عند السيارة الفارهة والبيت الفاخر. "حدوتة" الفيلم باختصار هي أن ابراهيم يصل إلى مطار نيويورك، متوقعا اتنظار ابن عمه له، لكنه يجد نفسه وحيدا أمام سلطات الجوازات التي تجري له تحقيقا مطولا. وهو يبحث عن فندق رخيص يقيم فيه، وبالمصادفة وفي دقيقة وصوله ينقذ الفتاة الأمريكية دايان (أنييس بروكنر) من صديقها الذي يعاملها بعنف، لتأخذه (وتأخذنا معه) في جولة سياحية في الدينة، وسوف تمتد العلاقة بينهما طوال الفيلم، دون أن تعرف أنت كمتفرج طبيعة هذه العلاقة، لكي يتزوجا في النهاية، ويعيشا في التبات والنبات. وبالمصادفة أيضا تقع أحداث الحادي عشر من سبتمبر في اليوم التالي لوصوله، لنراه مشتركا على نحو بالغ التعاطف مع الضحايا، مع لمسات عابرة من مظاهر العداء للعرب والمسلمين بعد هذا الحادث، ويتم القبض عليه ليظل مسجونا ستة شهور، حتى يفرج عنه لأنه لا دليل ضده على اشتراكه في أعمال إرهابية. ومن الغريب أنك لن تجد لفترة السجن تلك أي أثر إنساني أو درامي على بطلنا، الذي يتعرف بالصدفة أيضا على رجل هندي أو باكستاني يدعى "مو" (ربما اختصارا لاسم محمد)، ويعمل لديه في محطة الوقود والمحل الصغير الذي يملكه. وبالصدفة مرة ثالثة يقابل في مركز تعليم الإنجليزية للأجانب فتاة لبنانية تدعى "بَهَا"، ويعجب بها حتى أنه يطلبها للزواج، لكن سرعان ما تختفي الفتاة من حياته ومن الفيلم، وكأن وجودها كان مجانيا وبلا ضرورة درامية. هل تريد صدفة رابعة؟ إنه ينقذ أمريكيا "يهوديا" كادت أن تودي بحياته مجموعة من الشباب الأمريكي المتعصب، ليرد له الشاب جميله بتشغيله في محل بيع السيارات الذي يملكه والده بالغ الثراء. ولك أن تتخيل أنه عندما واجه رفض منحه الجنسية الأمريكية، أصبح "بطلا" تُنظم المظاهرات من أجله أمام المحكمة، والسبب هو هؤلاء الذين ساعدهم بالصدفة والذين حشدوا المتظاهرين!! وفي التحليل الأخير فإن الفيلم يأتي كتقليد باهت لقصاصات سينمائية أمريكية، كما في مشهد المحاكمة والمظاهرات، أو للأفلام المصرية التي يقوم بناؤها على منطق الصدفة، أو وجود شخصيات وأحداث يمكن أن تحذفها دون أن يحدث أي فرق. وربما كان الأهم في ذلك كله هو الإيقاع بالغ الرتابة للفيلم، وفقدان المتفرج من الحد الأدنى للتعاطف مع البطل، ولا نطمح للتوحد معه. ولا يملك المرء أمام سذاجة فيلم "المواطن"، بكل الدعاية الصاخبة التي صاحبته، إلا أن يقارنهما بفيلمين آخريين عن نفس التيمة، لكنهما كان أكثر نضجا بكثير، دون أن يعرف المتفرج العربي عنهما شيئا، لمجرد عدم وجود "نجم" (أو هكذا يُفترض) مثل خالد النبوي يدفع هذه الدعاية دفعا. ولم يكن غريبا أن تكون "الممثلة" (بمعنى الكلمة) الفلسطينية هيام عباس موجودة في هذين الفيلمين. الأول هو "الزائر"، من إخراج وسيناريو توماس ماكارثي، عن الأستاذ الأمريكي الكهل الذي يعود إلى شقته التي يملكها في نيويورك، ليجد أن هناك محتالا أجرها لشاب سوري وزوجته، وهو في البداية يصمم على طردهما، لكنه يعطيهما فرصة لأيام معدودة لتدبير أمورهما، لتنمو حالة من الدفء الإنساني بينهم، وقدر أكبر من التفهم لشخصية العربي كإنسان محب للحياة. الفيلم الآخر هو "أمريكا" (هذا بالضبط نطقه وليس "أميركا")، سيناريو وإخراج شيرين دبس، الذي يحكي عن الأم منى فرح (نسرين فاغور)، الفلسطينية التي تعاني في بلادها من حصار المحتلين، فتقرر قبول "اليانصيب" الأمريكي للرحيل إلى هناك مع ابنها، لتنضم إلى بقية العائلة التي سبقتها. وبحس تسجيلي بالغ الرهافة، تعيش فيه الكاميرا مع الشخصيات لحظاتهم الحميمة البسيطة، ونرى منى وهي تبحث عن عمل، حتى تجده في مطعم، لكنها لا تستطيع أن تصارح الأسرة لأنها تحس بأن ذلك يمس كرامتها، غير أن ذلك لا يحميها وابنها من المطاردات العنصرية اليومية. من أجمل مزايا فيلم "أمريكا" أن بطلته الممثلة نسرين فاغور تتمتع بجمال بالغ البساطة، وهي تميل إلى البدانة، وكثيرا ما تتحدث عن رغبتها (كشخصية في الفيلم) في أن تبدأ نظام حمية غذائية للتقليل من وزنها، لكنها تتمتع بروح بالغة الدفء تجعلك تحبها وليس أن تتعاطف معها فقط. إنها ليست "نجمة" بالمواصفات العقيم للسينما المصرية، لكنها ممثلة حقيقية، في فيلم ناضج، يجعلك تعيش مع شخصياته ذكريات الحنين للوطن الأم، وهم يتشممون "الزعتر" الذي جلبته منى معها. وعلى النقيض، أتى "المواطن" فاترا، ولا يحمل أي عبق ولو عابر من الحنين لأي وطن!!

Monday, January 06, 2014

المدن في السينما


منذ مولد السينما في نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت "المدن" جزءا لا يتجزأ من العالم السينمائي، لأسباب عديدة تتعلق بالسينما والمدينة معا. فقد كانت تلك هي الفترة التي شهدت ولادة المدن باعتبارها مراكز حضرية رئيسية، وكانت دور العرض السينمائية تتركز في وسط المدن، لكن الأهم على الإطلاق أن السينما كانت الوسيط الفني الجديد القادر على اقتناص روح المدينة وتسجيلها على الفيلم، تلك الروح التي تبدو متغيرة على الدوام، يتفاوت إيقاعها بين الصباح والمساء، مما يخلق سيمفونية بصرية كاملة. وبالفعل كانت أفلام المدن في بدايتها تشبه الأعمال الموسيقية في إيقاعها، مثل "برلين: سيمفونية مدينة"، أو فيلم "الرجل والكاميرا السينمائية"، وهي أفلام تسجيلية اعتبرت في حينها أعمالا تجريبية رائدة. لكن سرعان ما أصبحت المدينة خلفية تدور عليها الأحداث الدرامية، سواء ذات الصبغة السياسية مثل "روما مدينة مفتوحة" و"سارقو الدراجة" و"ماسحو الأحذية"، وهي الأفلام التي تجعلك تعيش في أجواء روما المدمرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أو حتى الأعمال الذاتية مثل "روما فيلليني" الذي يبدو أقرب إلى صورة المدينة في عيني صانع الفيلم، أكثر مما هي في واقع الحياة. وفي الآونة الأخيرة، ظهر فيلمان عالميان يفترض أنهما جزءان من سلسلة سوف تكتمل عن المدن، وهما "أحبك يا باريس" و"أحبك يا نيويورك"، لكن كلا منهما يقوم بناؤه على مجموعة من الأفلام القصيرة للعديد من المخرجين، حيث تصبح المدينة أشبه بالبلورة التي يمكن أن تراها في أشكال مختلفة من زوايا مختلفة، بعضها يسوده الحنين والشجن، وبعضها الآخر يحتشد بقدر غير قليل من السخرية والهجاء... بعضها عن شباب يتلاقى في المدينة لكي يعيش مستقبلا جديدا، وبعضها الآخر عن شيوخ يودعونها وقد وصلوا إلى نهاية رحلة الحياة... بعضها يعبر عن حقيقة، وبعضها الآخر ليس إلا وهما خياليا صرفا. لكن نادرا ما كانت المدينة تحتل مكانا مهما في دراما السينما المصرية، حيث يمكن أن تدور الأحداث في أي مكان دون أن تشعر أن هناك شيئا مفتقدا. غير أن الأعمال القليلة التي كانت فيها المدينة خلفية مهمة للأحداث تركت أثرا باقيا في السينما المصرية، ولعل أول هذه التجارب كان فيلم "حياة أو موت"، عن فتاة صغيرة تخوض ما يشبه الرحلة القاسية في زحام القاهرة، وهي تحمل الدواء لأبيها المريض، بينما تحاول الشرطة اللحاق بها لأن "الدواء فيه سم قاتل"، تلك الجملة التي أصبحت من "فولكلور" السينما المصرية. وهناك أفلام ارتبطت على نحو قوي بالمدينة التي تدور فيها الأحداث، مثل "بور سعيد" الذي أنتجه فريد شوقي لكي يسجل أحداثا روائية عن مقاومة بطولية، للمدينة التي واجهت عدوانا ثلاثيا، لتبقى في الذاكرة العربية رمزا للصمود. وكانت نفس المدينة – بور سعيد – هي المسرح الذي تدور فوقه ملحمة "القبطان"، الذي يمتزج فيه الواقع والخيال، الحقيقة والرمز، العام والخاص، لكي تصبح المدينة بوابة يطل منها صانع الفيلم سيد سعيد ليس فقط على التاريخ، وإنما أيضا على الحضارة التي جمعت بين الشرق والغرب، بل على الوجود الإنساني ذاته. ولعل الإسكندرية تحتفظ لنفسها بمكان مهم بين أفلام المدن، وكثيرا ما تشاهد في أفلامنا المصرية شاطئ البحر بأمواجه التي تتلألأ بالأضواء عند الغروب، لكن القليل أيضا من هذه الأفلام هي التي يصبح فيها للإسكندرية وجود درامي مؤثر، ولعل الأقرب للذاكرة أفلام يوسف شاهين التي تحمل اسم المدينة ذاتها، مثل "اسكندرية ليه"، و"اسكندرية كمان وكمان"، و"اسكندرية نيويورك"، لكنها أيضا كمعظم أفلامه هي "اسكندرية ذاتية" إن صح التعبير، إنها المسرح الذي تدور فوقه الأحداث دون أن تكون جزءا من الأحداث ذاتها. والغريب أن هذا ينطبق أيضا على أفلام لا يمكن أن تصفها سوى بالهزل، مثل "بلطية العايمة" أو "صايع بحر"، فعلى الرغم من تصوير مشاهد من هذه الأفلام في أحياء حقيقية، فإن الشخصيات والقصص والحبكة ليست إلا تقليدا باهتا لما يمكن أن تراه في أي أفلام تدور في أي مدن أخرى. ولعل غياب المدينة يلعب أيضا دورا في بعض الأفلام، ففي "الطوق والإسورة" و"عرق البلح"، يصبح للقرى النائية في الصعيد حضور قوي، يكاد أن يكون خانقا، وهو ما يصنع نسيجا لا ينفصم مع النهايات المأساوية للأحداث. أما في فيلم "البداية"، فقد أراد صلاح أبو سيف أن يضع شخصياته في مكان معزول، حتى يدفعهم لتكوين "مجتمع" جديد، يدرس من خلاله صانع الفيلم كيف تتولد الفوارق الطبقية، واحتكار السلطة، واستغلال جهل البسطاء. وهذا الاهتمام السياسي والاجتماعي بالمكان يعود إلى واحد من أفلام صلاح أبو سيف الأولى، وهو "الأسطى حسن"، الذي يتحدث عن اثنين من الأحياء المتجاورة في القاهرة: بولاق والزمالك، لا يفصل بينهما سوى جسر صغير، لكنه يعبر عن تفاوت طبقي هائل، كان يشغل اهتمام أبو سيف في معظم أفلامه، حتى لو اصطبغت كثيرا بالميلودراما الفاجعة. لكن هناك مخرجا واحدا هو الأهم بين صناع السينما المصرية، التي تشكل المدن بالنسبة له "شخصية" من شخصيات الفيلم، وليست مجرد خلفية للأحداث. ذلك هو محمد خان، صاحب الذاكرة البصرية القوية اتي تمسك بروح المكان، على نحو لا يباريه فيه مخرج آخر. تأمل مثلا "موعد على العشاء"، حيث تصبح برودة المدينة الساحلية معادلا لفتور العلاقة بين الزوج والزوجة، وكيف أن البحث عن الدفء الإنساني يحدث دائما في مشاهد داخلية. وعلى النقيض، يصبح المشهد الخارجي المفتوح للمدينة ذاتها، في فيلميه "أحلام هند وكاميليا" و"فارس المدينة"، تعبيرا عن الرغبة في العثور على "بداية جديدة"، تنقذ الشخصيات من الأزمة الخانقة التي يعيشونها. كما تصبح مدينة "المنيا" في شمال صعيد مصر بطلة في فيلمين من أفلامه، لأنها المدينة الصغيرة التي تحتضن شريحة مميزة من أبناء وبنات الطبقة الوسطى، يكاد عالمهم أن تقف حدوده عند الرحلة اليومية إلى العمل أو المدرسة، لكن الاضطرار إلى تركها يشكل صدمة للبطلة، تتسم بالمأساوية في "زوجة رجل مهم"، وعلى النقيض تبدو بمثابة البوابة التي تنفرج قليلا لكي يتسع العالم في "شقة مصر الجديدة". وهي الصدمة التي شكلت وعي البطل القادم من الريف في "مستر كاراتيه"، وهو يحاول التواؤم مع روح مدينة القاهرة، لكنها التجربة التي تنتهي إلى الفشل، لكي يعود إلى القرية، تلك التي وجد فيها بطل "خرج ولن يعود" ملاذا من الشعور بالضياع في المدينة الكبيرة. ذلك هو الضياع الذي عاشه بطل أول أفلام محمد خان في "ضربة شمس"، وهو من أهم الأفلام التي تم تصويرها في أماكن حقيقية في شوارع القاهرة المختلفة، ويبدو هذا البطل مضطرا للهاث في سباق دُفع إليه دفعا، في مدينة تشبه الغابة في علاقاتها، وهو ما تكرر أيضا في فيلم "يوم حار جدا"، حين تصبح أجواء شوارع القاهرة المزدحمة خانقة لبطل يبحث عن صورة قديمة لعلاقات سابقة، فإذا هو يرتطم بما لم يكن يتخيله، من مؤامرة زوج على قتل زوجته حتى يرثها. ولعل هذا يذكرك أيضا بالبحث عن ماضي المدينة والوطن كله في فيلمه "عودة مواطن"، للبطل الذي عاد وهو يحلم أن يلم شمل الأسرة في منزل من ضاحية حلوان التي كانت في يوم ما هادئة، لكنه يكتشف أن حلمه لم يكن إلا وهما وسرابا. ومن الحق القول إن بعض الأفلام التي صنعها رفاق من جيل محمد خان، لم تكن تخلو أيضا من ذلك الإحساس بالمكان. وإذا كان فيلم عاطف الطيب "ليلة ساخنة" يدور في ليلة واحدة في مدينة القاهرة، التي تكشف تحت سطحها عن أهوال، فإنها الليلة ذاتها التي يقضيها أبطال فيلم خيري بشارة "إشارة مرور"، وقد اضطروا لأن يعيشوا حالة حصار في وسط المدينة، وهي أيضا الليلة التي تكتسي برداء سيريالي لا يخلو من رمزية في فيلم داود عبد السيد "البحث عن سيد مرزوق"، حيث يجد البطل نفسها يمضي في تيار لا يملك مقاومته في أنحاء مختلفة من المدينة، بحثا عن شخص يبدو متحكما في مصيره، وكأن "سيد مرزوق" نفسه ليس إلا هذه المدينة التي تشبه أحيانا حورية فاتنة ساحرة، وتشبه في أحيان أخرى وحشا له عشرات الرؤوس... وليس هناك وسيط فني آخر لا يستطيع أن يقتنص هذين الوجهين المتناقضين سوى السينما، التي اقترنت منذ بدايتها بروح المدن.