حقق فيلم "عبده موتة" أرقاما كبيرة في موسم عيد الأضحى الماضي، وثارت حوله بعض الاحتجاجات من أطراف رأت فيه انتهاكا في استخدام أغنية شعبية دينية من أجل الرقص، فاغتنم منتج الفيلم وبطله هذه الفرصة، وانتشرا على العديد من القنوات الفضائية ليعددا مزايا فيلمهما، في نوع من الدعاية المجانية، وسارت الصحافة الفنية في الركب فأخذ البعض يشيد بالفيلم، واعتباره تعبيرا عن سياق اجتماعي وسياسي كامل، مجسدا في شخصية "عبده موتة"، الذي قام بتمثيله الممثل الجديد محمد رمضان.
وربما لم يحدث هذا اللغط حول شخصية سينمائية منذ عشر سنوات أو يزيد، عندما ظهرت شخصية "ليمبي" كما قدمها محمد سعد، وحينها تصاعد الجدل حول إذا ما كان لهذه الشخصية دلالة اجتماعية إيجابية أو سلبية. وفي حين رأى البعض فيها تعبيرا عن الجانب السيء من الشخصية المصرية المعاصرة، وتكريسها لما يعتريها من أمراض سلوكية، فقد اشتد الحماس بالبعض الآخر حتى رأوا أن الفيلم والشخصية يحملان دلالة على نحو لم يتح للسينما المصرية أن تقوم به منذ فيلم "العزيمة"!!
من المفيد دائما أن يعود الناقد بين الحين والآخر لمراجعة مثل هذه الظواهر، ففيها إشارة لما سوف تؤول إليه ظواهر معاصرة أيضا. وإذا كان "ليمبي" لم يجد فرصة للحياة إلا سنوات معدودة، واختفى فلم يفتقد الجمهور شيئا، ولأن صناع فيلم "ليمبي" لم يحققوا بعده نجاحا فنيا أو جماهيريا، فإن ذلك كله يدل على أنها كانت ظاهرة عابرة، وأن النجاح التجاري للفيلم أتى من خارجه، أي من سياق جعل الجمهور يسعى لنسيان متاعب حياته في هذر وهزل رخيصين، ثم انصرف عن الفيلم وعن الشخصية بحثا عن "مخدر" جديد.
لعل هذا هو حال "عبده موتة" أيضا، الذي ذهبت إليه جماهير سينما العيد بحثا عن "جرعة" من الفرجة الصاخبة، ولأن معظم الكتابات حوله توقفت فقط عند الشخصية كما ظهرت في الفيلم، بينما لم تعطِ الجانب السينمائي التفاتا، فسوف نتأمل معا اللغة السينمائية للفيلم في فقرة تالية، ليس من أجل إجراء عملية "تشريح" نقدي، ولكن من أجل البحث عن الطريقة التي تركت فيها هذه اللغة تأثيرا حسيا ونفسيا على المتفرج.
سوف يفاجئك فيلم "عبده موتة" من الوهلة الأولى، وبقدر قليل من التأمل، بأنه لا جديد فيه على الإطلاق، فهو يتألف من شذرات أفلام قديمة، يجمعها خط يشبه إلى حد كبير نمط التمثيليات الإذاعية التي تجمع كل مصائب الدنيا في نصف ساعة!! أنت في البداية مع مطاردة، من المطارِد ومن المطارَد؟ لسنا ندري!! وتلك بالضبط بداية فيلم "ابراهيم الأبيض" من بطولة أحمد السقا، وبرغم استمرار المشهد أطول مما ينبغي بينما لا تعرف أطرافه، فإن صناع الفيلم (محمد سمير هارون كاتبا للسيناريو، واسماعيل فاروق مخرجا) يقعان في نفس الخطأ، فأنت لا تستطيع أن تطلب من المتفرج أن يتعاطف أو يتوحد مع أي شخصية بينما أنت لم تقدمها له بعد، لكنها للأسف غواية "الأكشن" التي تسلطت على صناع السينما المصرية في الآونة الأخيرة، لينتهي المشهد بأن يلقي الهارب بنفسه في النيل، هذه المرة على طريقة أحمد السقا في "أفريكانو"!!
لا يكاد هذا المشهد أن ينتهي حتى تدرك أنه بلا ضرورة على الإطلاق، فقد نجحت الشرطة (التي تقوم بالمطاردة) في القبض على "البطل"، الذي هو عبده موتة أو محمد رمضان، وكان من الممكن أن يبدأ الفيلم هنا، لكي نعرف أن هذا الـ"عبده" سجين لمدة شهور، لأنه يعمل لصالح المعلم مختار تاجر المخدرات، الذي يستخدم صبيانه كما يحلو له، ويشي بهم أو حتى يقتلهم كيفما يشاء، بينما نحن في الحقيقة لا نرى سببا واحدا لهذه السطوة. لكن الفيلم يريد (كما فعل "ابراهيم الأبيض" أيضا) أن يصنع من هذا المعلم غريما للبطل في كل شيء كما سوف نرى، لعل هذا الصراع يبعث بعض الحيوية في الفيلم، وإن كان ذلك عبثا لأننا نعرف في كل لحظة تصرفات طرفي الصراع، فكلما ظهرا في أي مشهد معا تبادلا نفس النظرات، وعلت على شريط الصوت نفس الموسيقى.
ولأنك سوف تتوه في التواءات وانعطافات الفيلم، الذي لا يعرف معنى كلمة "بناء درامي"، والذي تتوالى مشاهده دون أي منطق، فسوف أحاول هنا أن أحدد لك معالمه: عبده هذا ابن حي عشوائي من تلك الأحياء التي تبيعها السينما المصرية مؤخرا، ونحن لا نقول "تبيعها" لأننا نرفض تصويرها بمنطق عدم نشر غسيلنا القذر على الملأ، ولكن لأن أفلامنا تستخدمها للفرجة مثل "كروت البوستال" (هذه المرة للفرجة على الجانب السيء)، دون ذرة تعاطف أو فهم حقيقي واحدة، فهذا تعاطف زائف، تلوكه بعض سطور الحوار هنا وهناك، لكن التأثير النهائي لهذه الأفلام لا يكون "كيف يعيش هؤلاء الفقراء هذه الحياة بالغة الصعوبة ويظلون على قيد الحياة؟"، وأنما "أليس من الأفضل أن نتخلص من هذه الكائنات المتوحشة؟"!!
على سبيل المثال لن يثير عبده تعاطفي أبدا، بل سوف يثير اشمئزازي، وهو يطرد فتاة كان السبب في حملها (كما في فيلم "حين ميسرة")، كما سوف يثير اشمئزازي فيما بعد عندما يقتل صديقه الذي كان سببا في حمل أخته (رحاب الجمل)!! هذا إذن عالم من الوحوش، وعبده البلطجي يقف في منتصفه، تتنافس على حبه امرأتان: ابنة خالته بائعة الفول أنغام (حورية فرغلي)، التي تذكرك بشخصية البطلة في فيلم "شمس الزناتي"، والعاهرة ربيعة (دينا) التي تنتقل بينه وبين معلمه دون أن نعرف لها مشاعر محددة (في تنويع مشوه على "اللص والكلاب" و"الهروب")، لكن الفيلم لن يفوت الفرصة بالطبع، وسوف يتيح الفرجة على وصلة "ردح" وخناقة نسائية بين المرأتين، لأن نار الغيرة تأكلهما، ونحن لا نعرف لماذا تقع امرأة في مثل هذه الظروف الطاحنة في هوى فتى لا يكاد يخرج من السجن حتى يدخله.
تتنهي هذه الخيوط بالطبع بـ"عبده" وقد قتل عددا لا يحصى من الأصدقاء والأعداء، ويساق إلى السجن بملابس الإعدام الحمراء كما فعلت من قبل يسرا في فيلم "امرأة آيلة للسقوط"، مع "مونولوج" مفتعل يقول فيه البطل أنه كان يريد أن "يعيش"، لكننا لم نرَ على ذلك أمارة واحدة. ما يهمنا هنا إذن هو "السينما"، فأنت لا تستطيع أن تطلق على أي شريط سينمائي تعبير "فيلم" بعد أن بلغت اللغة السينمائية درجة من البلاعة لا يمكن الجهل بها، وأنت في النهاية أمام شريط يضع جنبا إلى جنب مشاهد الخناقات، والنساء، وتدخين المخدرات، والصراخ، والغناء والرقص الهيستيري (أنت أمام "كاباريه" حقيقي في هذا الحي العشوائي!!)، وخيوط ميلودرامية زاعقة (لا ينسى الفيلم وجود أخ متخلف عقليا للبطل عبده، على طريقة مسلسل "شيخ العرب همام"). وإذا أردت مثالا على اختيار مثل هذه المشاهد، وطريقة تنفيذها، والغرض منها، تأمل مشهد وضع شخصية دينا لزينتها (بالتصوير البطيء!!)، انتظارا لقدوم المعلم، ومشهد مماثل تماما لشخصية رحاب الجمل وهي تتزين وترقص وحدها أمام المرآة، فليس لهذين المشهدين أي ضرورة في الحدث، لكن هدفهما بالطبع هو حشد المزيد من عناصر "الفرجة" للمتفرج.
تأمل أيضا رسم شخصية عبده، الذي يحاكي شخصية الممثل الأمريكي صامويل جاكسون في فيلم "فحيح الثعبان الأسود"، بنصف جسده العلوي العاري، والثعبان الملتف حول رقبته أو وسطه، فهي صورة "ذكورية" منحطة تخاطب الغرائز حتى بشكل غير واعٍ، تماما كما أن الكاميرا المحمولة المهتزة طوال الفيلم، مع المونتاج بالغ السرعة بدون أي ضرورة فنية، يهدفان إلى إغراق المتفرج في "رسائل" حسية تؤدي في النهاية إلى عدم قدرته على تمييز ما يستقبل، ولذلك عند صناع الفيلم هدفان: الأول إخفاء الضعف الفني الذي يدفعهم إلى هذا الأسلوب في كل المشاهد، فلا يصبح مطلوبا منهم التفكير في أي تقنيات أو جماليات ملائمة لكل مشهد، أما الثاني فهو أن يصبح المتفرج "مخدرا" بالمعنى العصبي للكلمة، ولعل هذا هو السبب الرئيسي في جماهيرية الفيلم، في سياق مشحون بالمتاعب حتى أنه يدفع الناس للهروب منه أحيانا والبحث عن مخدر.
أما عن أن شخصية "عبده موتة" قد حققت نجاحا فنيا، أو أنها جسدت سياقا اجتماعيا، فذلك كله حديث هازل، وربما كانت أيضا علامة النهاية للممثل محمد رمضان، الذى يتصور أنه أصبح نجما، فالنجم هو من يحلم الجمهور أن يصبح مثله، أو يرى فيه نفسه، وإذا كان البعض قد ذكر أن الصبية كانوا يخرجون من قاعة العرض ليقلدوا الشخصية، فهذا ليس من تأثير السينما، لكنه تأثير مخدرات السينما، الذي سرعان ما يزول، ليفيق الناس على حقائق الحياة الأكثر إيلاما من كل تلك الأفلام المفتعلة.