تعيش السينما التسجيلية في العالم العربي مفارقة غريبة، فبينما أصبحت الأفلام التسجيلية الطويلة في بلدان العالم المتحضر مادة أساسية تعرض تجاريا في دور العرض، وتنال نجاحا جماهيريا ونقديا كبيرا، وبينما تتزايد كل يوم أعداد القنوات التليفزيونية المتخصصة في تقديم أنواع مختلفة من المادة التسجيلية، كادت هذه السينما أن تختفي من قاموسنا، وعندما تظهر ففي شكل "ريبورتاجات" مصورة تخلو من أي جهد جمالي، وبلغ بالبعض من نقادنا المدى أن يعلن في ثقة، تدل على غياب كامل عما يحدث في السينما العالمية، أن السينما التسجيلية في العالم كله قد ماتت!!
يمكنك أن تقارن بين هذا الادعاء الباعث على السخرية، والمواقع الأجنبية المتخصصة في تجميع المقالات النقدية عن الأفلام (وأشهرها هو موقع ميتاكريتيك)، وسوف تكتشف أن الدرجات الأعلى من التقييم النقدي كل عام تأتي لصالح عدد من الأفلام التسجيلية الطويلة. ومنذ سنوات قليلة مضت، حقق الفيلم الفرنسي "الهجرة المجنحة" رقما قياسيا في شباك التذاكر الفرنسي، وهو الفيلم الذي يتتبع مسيرات الطيور في هجراتها بين بلدان العالم المختلفة، ليلحق به بعد شهور فيلم "مسيرة البطاريق"، هذه المرة عن هجرة هذا الحيوان القطبي إلى المناطق المتجمدة.
وبالطبع فإن هذه الأفلام تحقق رغبة عند المتفرج في ارتياد أراضٍ وعوالم جديدة، وهذا جانب من جوانب استخدامات السينما التسجيلية: إثارة الدهشة، تلك الدهشة التي بدأت مع مولد السينما ذاتها بالقرب من نهاية القرن التاسع عشر، عندما قام الأخوان لوميير (أوجست ولوي) بتصوير بعض من مشاهد الحياة اليومية: عمال يخرجون من مصنع، أو قطار يصل إلى المحطة، وبرغم أنها لقطات لا تبدو غرائبية لنا اليوم، فقد كان غريبا على الجمهور آنذاك أن يشاهد "الحركة" على شاشة. وسرعان ما أدرك الأخوان لوميير تلك المزية الوثائقية في اختراع السينما، فأرسلا المصورين إلى بلدان العالم المختلفة، لتصوير لقطات تجعل المتفرج ينتتقل إلى عوالم بعيدة وهو جالس على كرسيه، وكان من بين هذه اللقطات صور لأهرام مصر وأبي الهول. وذلك مصدر آخر للدهشة في السينما التسجيلية، أن ترى وتعيش تجارب "حقيقية" وإن كانت بعيدة عنك، بحكم المسافة والثقافة.
ومع تطور التقنيات السينمائية اتسع أفق التسجيل والتوثيق، وكان من أهم هذه التقنيات اكتشاف قدرة "المونتاج" على إعادة تشكيل الواقع بشكل فني، حتى أن مجال السينما التسجيلية أصبح أقرب للتجريب من السينما الروائية ذاتها، لتظهر في عشرينيات القرن العشرين ما يسمى "سيمفونيات المدن"، التي كان من أشهرها "برلين، سيمفونية مدينة"، حيث يسجل الفيلم في ساعة أو أقل أو أكثر قليلا، "إيقاع" الحياة اليومية. كما تم اكتشاف أهمية السينما التسجيلية للأغراض السياسية الدعائية، خاصة خلال فترات الصراع والحروب، ليأتي على قمة هذا النوع من السينما التسجيلية فيلم "أوليمبيا"، الذي يبدو في ظاهره تسجيلا وتوثيقا لدورة برلين الأوليمبية في عام 1936، لكنه وباستخدام جماليات زوايا التصوير، وتغيير سرعة عرض اللقطة، وتتابع الصور على الشاشة، خلق قصيدة عن تفوق الجنس الآري، للدعاية عن سياسة هتلر النازية!!
وهكذا أدرك السينمائيون القدرة المزدوجة للسينما التسجيلية، قدرة على تسجيل الواقع، وأخرى على التلاعب به، لتظهر مدارس سينمائية عديدة في بلدان وسياقات مختلفة، من أهمها مدرسة جريرسون في بريطانيا، الذي أشرف على وحدة للسينما التسجيلية، وأنتج عشرات الأفلام، أكثرها يحمل تعليقا منطوقا مباشرا، لكن بعضها اختار أن يأتي التعليق الصوتي "موازيا" للصورة وليس مطابقا لها، مثل فيلم "أغنية سيلان" الذي كان شريط الصوت فيه يحمل قصيدة للشاعر أودين.
وبينما استمرت مدرسة جريرسون في التأثير على السينما التسجيلية في أنحاء مختلفة من العالم، تضاءل هذا التأثير مع تطور تقني آخر، عندما تم في الستينيات تصميم كاميرات خفيفة ومعدات تسجيل صوت محمولة. ومن هنا ولدت مدرستان في السينما التسجيلية: سينما الحقيقة في أوربا، والسينما المباشرة في أمريكا، تعتمدان كلاهما على تصوير أكثر اللحظات رهافة في الواقع، على نحو أكثر صدقا من أي شرائط سينمائية سابقة، بينما كان الفرق بينهما أن سينما الحقيقة لا تتدخل مطلقا في الموضوع الذي يتم تصويره، على حين تختلق السينما المباشرة مواقف تكشف أكثر عن هذا الموضوع، وكان النموذج الشائع لها هو
الكاميرا الخفية".
وكلما تزايدت إمكانات السينما، التقنية والجمالية، كانت الأفلام التسجيلية تكسب أرضا جديدة، ويتسع أفق استخداماتها. فإذا كان فلاهرتي في العشرينيات والثلاثينيات قد وجد صعوبة بالغة في تصوير أفلام عن القطب الشمالي (في "نانوك من الشمال") أو عالم الصيادين في اسكتلندا (في "رجل من آران")، حتى أنه كان يضطر أحيانا لصنع الواقع لا تسجيله المباشر، فإن الفرنسي جان روش أخذ كاميرته في الخمسينيات والستينيات إلى عالم القبائل البدائية، ليقدم تسجيليا "أنثربولوجيا" علميا وأصيلا مائة في المائة، كان له تأثير عميق حتى على السينما الروائية، التي بدأت تكسر الحاجز الفاصل بينها وبين السينما التسجيلية، لتظهر أفلام الفرنسي جان لوك جودار، التي ينطبق عليها أكثر اسم "المقال" أو "البحث".
ولأن التاريخ يحمل أحيانا تناقضات ساخرة، فقد ظهر تأثير السينما التسجيلية على السينما الروائية واضحا في منتصف الأربعينيات، هذه المرة بسبب ضعف الإمكانات التقنية!! ففي إيطاليا المدمرة ما بعد الحرب، وجد السينمائيون الإيطاليون أنفسهم أمام صناعة سينما متهالكة، وليس أمامهم إلا استخدام ما تبقى في العلب من الفيلم الخام، والتصوير في الشوارع بإضاءة طبيعية لا تسمح بضبط الإضاءة كما يحدث داخل الاستوديو، والاستعانة بممثلين غير محترفين، لتولد من ذلك كله مدرسة "الواقعية الجديدة"، التي تركت بصماتها على الكثير من صناعات السينما في العالم.
كان هذا الأسلوب الجمالي "الخشن" الذي اضطرت إليه الواقعية الجديدة، يجعل السينما الروائية تقترب من التسجيلية، وإذا كان الإيطاليون قد لجأوا إليه لنقص الإمكانات، فإن فيلم "معركة الجزائر" للمخرج جيلو بونتيكورفو يختاره عن وعي كامل، حتى أصبح هذا الفيلم نموذجا للأفلام الروائية التي تتعمد أن تختار شكلا تسجيليا. لكن هذا الامتزاج بين نوعي السينما قد تعدى اليوم مجرد الشكل، وأصبح يتناول المضمون أيضا، فإذا كان السينمائي التسجيلي (في أغلب الأحيان) لا يعرف مقدما ما سوف يقوم بتصويره، فلماذا لا يفعل ذلك السينمائي الروائي، بحثا عن قصص وعلاقات أكثر أصالة وصدقا؟
قد نتذكر في هذا السياق فيلم المخرج البريطاني مايك لي "عام آخر"، والذي كان يعتمد على كتابة السيناريو بالاشتراك الطويل مع الممثلين، كل في شخصيته في العالم الفيلمي، كما يسمح لهم بقدر من الارتجال العفوي خلال اللقطات الطويلة، بما لا يخرج بهم عن حدود الشخصية المرسومة، بل إنه يجعلهم أكثر تجسيدا لهذه الشخصية. ويصل التسجيل في السينما الروائية إلى مدى أبعد، مع ثلاثية المخرج الأمريكي ريتشارد لينكليتر، والتي يتتبع فيها مصير شخصيتين على فترات تفصل بينها تسع سنوات (في الأفلام والحقيقة أيضا). إنه في "قبل الشروق" ثم "قبل الغروب" ثم "قبل منتصف الليل"، يسجل مسار العلاقة بين رجل أمريكي (إيثان هوك) وامرأة فرنسية (جولي ديلبي)، ليكتب المخرج مع الممثلين هذه الأفلام الثلاثة، بقدر من النزعة التسجيلية الأصيلة.
إن معظم الفلاسفة المعاصرين لفن السينما يضعون هذا الفن كله، تسجيليا كان أم روائيا، تحت تصنيف "الفنون التي تعتمد على تسجيل الواقع". وحتى في الأفلام التي لا يتم من خلالها تصوير ما هو موجود أمام الكاميرا، بل خلق الصور كومبيوتريا، فإن المتفرج ينتظر دائما أن يرى على الشاشة ما يمكن أن يقارنه بواقع حقيقي، حتى أنه يمكن لك أن تقول على نحو ما إن "كل الأفلام تسجيلية"!!
تأتي السينما العربية (والمصرية خاصة) في أغلبها متناقضة مع الحس التسجيلي في السينما، ولعل ذلك يعود إلى أن صناعها وجمهورها اعتاد على أن يقرن بين الأفلام و"القصص" أو حتى الحواديت. وفي الحقيقة أن ذلك يعكس قصورا جوهريا في بنية الصناعة السينمائية العربية ذاتها، فكما أنها حتى الآن تقصي الأفلام التسجيلية وتجعلها أدنى من قريناتها الروائية، فهي لا تعرف أيضا اهتماما أصيلا بسينما التحريك، التي كانت على الدوام جزءا لا يتجزأ من أي صناعة سينما جادة، بل ربما اكتسب بعضها – مثل يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا – شهرته من ارتياده جماليات وتقنيات متفردة في فن التحريك.
ومع ذلك فإن السينما المصرية عرفت في فترات متباعدة من تاريخها بعض الازدهار النسبي في السينما التسجيلية، التي بدأت مع التوثيق الشهير للسينمائي المصري محمد بيومي لعودة سعد زغلول من المنفى في عام 1923، ثم أصبحت الجريدة السينمائية مادة ثابتة يصنعها "استوديو مصر" منذ إنشائه في عام 1935، لتعرض قبل عرض الفيلم الروائي الطويل. كما استمدت هذه الجريدة فيما بعد، وفي أعقاب ثورة 1952، أهمية أكبر، عندما أصبحت هيئة الاستعلامات مشرفة عليها، لتقدم مادة إخبارية دعائية في مجملها، لكنها كانت "توثيقا" سينمائيا مهما لتلك الفترة.
ولأن السينما التسجيلية تحتاج إلى من يؤمن بها حقا، وبقدرتها على إعلام الجمهور والترفيه عنه في وقت واحد، ولأن صناعة السينما المصرية لم تكن تملك هذا الإيمان، فيمكنك أن تقول بقدر غير قليل من الثقة إن الإنجازات الحقيقية عندنا في هذا المجال أتت من إحساس "الدولة" أو "النظام" بضرورة وجودها، وهو الإحساس الذي بلغ ذروته مع المراحل المختلفة لبناء السد العالي. وكان من المألوف آنذاك أن ترحل طواقم سينمائية إلى مواقع البناء، أو حتى تقيم مع عماله، لتسجل هذه الوقائع يوما بعد يوم، لتظهر سلسلة من أفلام التوثيق التي صنعها آباء السينما التسجيلية المصرية، مثل صلاح التهامي وسعد نديم وعبد القادر التلمساني وغيرهم.
ولعل من طرائف هذه المرحلة ما حكاه المخرج المصري العظيم توفيق صالح، عن أزمة صناعة السينما المصرية في بداية الستينيات، بعد ما يشبه المقاطعة في الأسواق العربية، فلجأ المخرجون إلى الزعيم جمال عبد الناصر يشكون إليه حالهم، وفي اجتماع مباشر معهم اتخذ الزعيم قرارا بأن يوكل إليهم صناعة أفلام تسجيلية قصيرة، في محاولة لإنعاش الصناعة، لتكون النتيجة بعضا من أجمل الأفلام التسجيلية في تاريخ السينما المصرية، تعتمد على توثيق بعض السمات الفولكلورية، وتحول هذا التوثيق إلى عمل جمالي طريف وراقٍ في آن.
لكن لأن مصر ما بعد عبد الناصر فقدت مرة أخرى إيمانها بالسينما التسجيلية، وهو ما ينعكس في عدم وجود مادة وثائقية كافية عن حرب أكتوبر 1973 مثلا، وأيضا في سيطرة سينما روائية بالغة السطحية، فقد اختفت السينما التسجيلية لسنوات، قبل أن تعود بمجهود فردي للمخرج الرائع شادي عبد السلام، الذي أنشأ وحدة تابعة للدولة لهذه السينما، لم تكن فقط مجالا لتدريب جيل جديد من السينمائيين الذين سوف ينتقلون فيما بعد إلى السينما الروائية، بل كانت أيضا مجالا خصبا للتجريب، لتظهر أساليب سينمائية متنوعة، في الشكل الجمالي الأقرب للسينما المباشرة عند خيري بشارة في "حديث الحجر" على سبيل المثال، أو التناقض الساخر المقصود بين شريطي الصورة والصوت عند داوود عبد السيد في "وصية رجل حكيم، في شئون القرية والتعليم".
إلى جانب وحدة شادي عبد السلام كانت هناك محاولات فردية أخرى متناثرة، لكنها بالغة الأصالة والتأثير، تراوحت أيضا بين غنائية هاشم النحاس في "النيل أرزاق"، ووجهة النظر الاجتماعية والسياسية القوية عند عطيات الأبنودي منذ فيلمها الأول (من إنتاج "جمعية الفيلم" المستقلة والتي أنشأها هواة) "حصان الطين"، وظلت بعدها تقدم أفلاما ترحل في الزمان والمكان، في محاولة لما أسمته "وصف مصر". لكنه للأسف "وصف مصر" الذي لم يكتمل، لأسباب عديدة قد يأتي نقص التمويل على رأسها، وكان الأحرى بالدولة أن تتبنى مثل هذه المشروعات، لكنها كانت قد قررت أن تترك السينما لتجار السينما!!
لم يختلف الحال كثيرا في بلدان عربية أخرى، ولا يكاد أن يبقى في الذاكرة سوى القليل من الأفلام التسجيلية، ربما يأتي على رأسها فيلم المخرج السينمائي السوري عمر أميرالاي "الحياة اليومية في قرية سورية"، الذي كان صرخة أبناء المناطق النائية من التجاهل، وما تزال لقطة "اللايتموتيف" التي تكررت مرارا في الفيلم، لفلاح فقير يشق ملابسه صارخا، من بين أبرع الأدوات الأسلوبية والموضوعية لخلق وحدة في شكل فيلم تسجيلي طويل. لكن أميرالاي يضطر في مرحلة لاحقة للتمويل الأوربي، ويأتي فيلمه "مذكر مؤنث" مجرد رؤية استشراقية للعلاقات بين الرجل والمرأة في مصر، تتلخص في الجنس، وتخلو من أي أبعاد اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية.
ووسط هذا التجاهل من جانب الأنظمة للسينما التسجيلية، ليس هناك سوى طريقين، الأول هو الإنتاج التليفزيوني الذي يفرض ويفترض في مصر شكلا جاهزا (هناك مثلا أغنية دائما على شريط الصوت، تأتي من خارج عالم الصورة تماما!!)، ولا يكاد أن يبقى من بين مثل هذه المحاولات إلا أفلام قليلة للمخرجة حنان راضي في فيلم "أهل الرضا"، الذي يصور عالم الفقراء الذين يناضلون كل يوم من أجل لقمة عيشهم، دون أن تفارق شفاهم كلمات الرضا والحمد لله. أما الطريق الثاني فهو مغامرة الإنتاج المستقل، التي يرتادها هواة عابرون تقع أغلب أعمالهم في إطار "الريبورتاج" الخالي من أي فن، ويفلت من هذا المصير فيلم مثل "جلد حي" للمخرج فوزي صالح، الذي يدخل إلى عالم دبغ الجلود بكل قسوته، ويعيش فيه أياما، ليقدم وثيقة وتسجيلا لحياة أناس قد لا نعرف عنهم شيئا، بما يذكرك على نحو ما بأفلام عطيات الأبنودي الأولى.
ما هو سبيل الخروج من تلك الأزمة؟ في الحقيقة أنه مرتبط على نحو وثيق بالخروج من أزمات أخرى عديدة، لكن يأتي على قمة هذه السبل وجود من يرعى هذه السينما، إنتاجا وعرضا. وقد تسمع من البعض آراء تتحدث عن تدخل الدولة من جديد، وفرض عرض فيلم تسجيلي قبل الفيلم الروائي في دور العرض. لكن أليس ذلك قيدا آخر نفرضه على السينما التسجيلية، لتظل أسيرة وتابعة وظلا للسينما الروائية؟ وليس هناك من يصلح لرعاية هذه السينما من قنوات فضائية تتخصص في هذه النوعية من الأفلام، وتعيد للجمهور القدرة على تذوقها.
لكن ذلك مرهون من جانب آخر بتعدد أساليب الفيلم التسجيلي، بدلا من ذلك المفهوم القاصر عنه ويجعله أقرب إلى التحقيقات الصحفية الكسول. وحتى أسلوب التحقيقات في السينما يمكن أن يكتسب طرافة أخاذة، مثل الفيلم الأمريكي "اجعلني سوبرسايز"، أراد فيه صانعه أن يبرهن على خطورة الاعتماد على الأكلات السريعة الجاهزة، فجعل ذاته موضع التجربة، وعاش طوال شهر كامل على هذه الأكلات، ووثق أحواله الصحية والمعيشية يوما بعد يوم، ولك أن تتخيل ما صار إليه عند نهاية الفيلم!! والنموذج الآخر من التحقيقات هو ما صنعه مايكل مور في العديد من الأفلام التسجيلية، التي حققت أرقاما غير مسبوقة في شباك التذاكر، مثل "لعب البولينج من أجل كولومباين" عن حمل الناس العاديين للسلاح في أمريكا، وحوادث القتل العشوائي، وهو يمزج تحقيقاته بقدر كبير من السخرية.
غير أن البداية في ذلك كله هو أن نؤمن بـ"التوثيق" في حياتنا، لكي نراكم خبراتنا التاريخية ونتقدم بها إلى الأمام، وليس هناك فن قادر على ذلك أكثر من السينما، خاصة في عصر التقنيات الرقمية، التي تتيح لأي إنسان أن يصنع فيلمه التسجيلي. وربما كانت المشكلة هي قدر الحرية الحدود الذي يمنع حتى الآن التصوير في مصر إلا بتصريح، لكن هذا إذا تحدثنا عن المستقبل، لكن حتى إذا تحدثنا عن الماضي، من هو السبب في ضياع أغلب ما تم تصويره من سلسلة "الجريدة السينمائية"؟ سؤال لن يجد إلا إجابة تغرق في بحار من المرارة!!