عندما يقرر صناع الدراما التليفزيونية "إعادة صنع" عمل سينمائي ما، فلابد أن هناك سببا قويا يدفعهم إلى ذلك، لكن تجارب المسلسلات المصرية في الاقتباس عن أعمال سينمائية سابقة أتت جميعها مخيبة للآمال، لسبب رئيسي هو تصور صناعها أن مجرد النجاح الجماهيري للفيلم سوف يضمن بالضرورة نجاح المسلسل، لكن ذلك تحديدا هو جوهر الفشل، ففي كل لحظة من هذا المسلسل أو ذاك لا يتوقف المتفرج عن مقارنته بالفيلم، وتكون النتيجة دائما لصالح هذا الأخير، وهذا بالضبط هو ما حدث مع مسلسل "الزوجة الثانية".
لقد تم عرض فيلم "الزوجة الثانية" عشرات المرات على مختلف القنوات التليفزيونية الفضائية، ولم يعد نجاحه مقتصرا فقط على الجيل الذي شهده في السينما في النصف الثاني من الستينيات، بل أصبح بالنسبة لأجيال عديدة جزءا من "فولكلور" جديد، وجرت على الألسنة عبارات مثل "الدفاتر دفاترنا"، في إشارة للتزييف الذي يأخذ شكلا قانونيا، أو "الليلة يا عمدة"، تلميحا إلى العناد الذي يتسبب عن غيرة متأججة. لكن صناع مسلسل "الزوجة الثانية": ياسين الضو وأحمد صبحي كاتبين للسيناريو، وخيري بشارة مخرجا، لم يتوقفا بالتأمل عند السبب الحقيقي للفيلم، أو قل الأسباب العديدة لهذا النجاح، والتي سوف نتناولها لاحقا بشيء من التفصيل.
دعنا نبدأ أولا بالحبكة الرئيسية للقصة، التي كتبها للفيلم أحمد رشدي صالح: عمدة لا يعرف طمعه حدودا، ويستولي على كل ما تصل إليه يداه، حتى نصيب أخيه من الميراث، لكنه زوجته التي لا تختلف عنه كثيرا لا تنجب، ليدرك العمدة أن كل شيء سوف يؤول بعد وفاته إلى الآخرين، لذلك فهو يريد ابنا يرثه. غير أن تلك الرغبة تتلاقى مع رغبة أخرى أكثر عمقا، وهي اشتهاؤه لفلاحة فقيرة جميلة لكنها متزوجة، فيدفع زوجها إلى تطليقها بالقوة، ويتزوجها في الليلة ذاتها. وتعرف الفلاحة بالصدفة أن مثل هذا الطلاق أو الزواج غير جائز شرعا، وأنها ما تزال زوجة لزوجها الفلاح الفقير، فتقرر ألا يمس العمدة شعرة منها، بينما تحمل من زوجها، فتؤدي هذه الصدمة بالعمدة إلى الشلل ثم الموت، وترث البطلة وابنها كل شيء بحكم القانون الذي أراد العمدة في البداية التلاعب به.
لديك هنا بطلة تثير تعاطفك بكل ما تملك من مشاعر وأفكار، سواء في مرحلة القهر والفقر، أو في مرحلة التحايل على الواقع المرير. ولعلنا جميعا نتفق على أن جانبا كبيرا من نجاح الفيلم يعود إلى قيام سعاد حسني بتجسيد دور البطلة فاطمة، لكن ذلك ينسحب في الحقيقة على كل ممثلي الفيلم الذي أخرجه صلاح أبو سيف، وهو الذي عرف عنه التدقيق الشديد في اختيار وإدارة ممثليه، صلاح منصور في دور العمدة، وسناء جميل في دور زوجته، وشكري سرحان في دور الزوج المقهور، وحتى الشيخ الذي يضفي غطاء "شرعيا" مزيفا على كل التصرفات الظالمة، وقام بتجسيده حسن البارودي. لكن الأهم من ذلك كله هو "إحساس" صلاح أبو سيف بأجواء الأحداث، التي لا تدور في "ديكور" مصطنع، وتأكيده على عنصر "المفارقة"، في المرارة التي يشعر بها العمدة، لأنه يترك ميراثه بعد رحلة طويلة من جمعه بكل الوسائل، إلى وليد ليس في الحقيقة هو ابنه!!
سوف تضيع هذه المفارقة الجوهرية تماما في المسلسل التليفزيوني، ليس فقط بسبب "مط" الأحداث بشكل متعسف لتصل إلى ثلاثين حلقة، وإنما للانعطافات التي أخذ فيها كاتبا السيناريو أحداث القصة، وغياب إحساس المخرج بأجواء الريف الحقيقية، وهو ما سوف يتأكد لك على الفور مع اختيار الممثلين (أو قل عدم اختيارهم)، فقد جاءت مثلا الممثلة آيتن عامر بطلة للمسلسل لأنها شقيقة زوجة المنتج (!!)، لكن ذلك ينسحب أيضا على بقية الأدوار، ولتتأمل على سبيل المثال علا غانم في دور الزوجة الأولى، التي ترتدي ملابس فاضحة وتظهر بها أمام الجميع، وتتحدث بلهجة أقرب إلى الغانيات، وإن كان المسلسل سوف "يحشر" أيضا الغانية راوية (إيناس عز الدين)، التي تكسب عيشها من تزويج الفلاحات صغيرات السن إلى عجائز أثرياء، ولن يعرف المتفرج أبدا سبب وجودها، سوى أنها تشتهي الزوج الفلاح أبو العلا (عمرو واكد)، وتنتظر تطليقه لزوجته فاطمة، حتى تأخذه إلى عالم الصفقات المالية الرابحة، في تحول في السرد يأخذ الحبكة بعيدا تماما عن جوهرها!!
ليس الأمر هنا هو الالتزام بالحبكة الأصلية للقصة أو الابتعاد عنها، وإنما تحقيق التوحد، أو التعاطف على الأقل، مع هؤلاء الأبطال المضطهدين، وهو ما افتقده المسلسل خاصة في نصفه الثاني، ليضاف عنصر جديد إلى المقارنة بين سعاد حسني وآيتن عامر، وهو تحول البطلة فاطمة في المسلسل إلى الشراسة والعدوانية، التي تصل أحيانا إلى درجة السوقية التي تثير نفور المتفرج بدلا من أن تثير شفقته. إن ذلك يمتد إلى بقية الشخصيات، فمرة أخرى في مسلسل "الزوجة الثانية" تشاهد مزيدا من "فلاحي التليفزيون"، الذين يعيشون في ديكورات مرسومة، ويتحدثون بلهجة مصطنعة، دون أن تجد سببا واحدا، أو إضافة ذات مغزى، تبرر إعادة صنع فيلم "الزوجة الثانية" في شكل المسلسل التليفزيوني.
ومن الحق القول إن المشاهد الصادقة الوحيدة في المسلسل كانت تلك التي تتسم بصبغة تسجيلية، خاصة في شكل الأفراح الريفية البسيطة، لتتذكر كيف أن المخرج خيري بشارة بدأ حياته السينمائية مخرجا بالغ التميز للأفلام التسجيلية، لكنه عندما يتحول إلى الدراما يفقد جزءا لا يستهان به من الإحساس بالواقع، فكما كانت جماليات الصعيد في فيلمه "الطوق والإسورة" لا تعكس الحرارة الخانقة في هذا العالم، فهو هنا أيضا يرى عالم الفلاحين من على السطح، أو بالأحرى ليس بعيني الواقع وإنما من خلال التراث التليفزيوني عن هذا العالم. تأمل على سبيل المثال تلك المشاهد الحوارية الطويلة بين الشخصيات، لا تفعل فيها شيئا سوى أن تقف أو تجلس كأنها على خشبة مسرح، ناهيك عن الاسترسال أيضا في "مونولوجات" طويلة" تخلط بين عالم "هاملت" وعالم قرية مصرية صغيرة فقيرة!
وفي مثل هذا العالم سوف يعود "فلاحو التليفزيون" إلى تقمص الأدوار البلهاء، التي تخلط بين التخلف العقلي وما يفترض أنه الكوميديا، فالخفير حسان (هشام اسماعيل، الذي حل محل دور عبد المنعم ابراهيم) يتبادل حديثا طويلا مع أوزة، وتظل جميع الشخصيات طوال حلقة كاملة تتحدث عن انتظار تركيب "تليفون" في مكتب العمدة، في حوار أقرب إلى التهريج المفتعل. كما يفتقد العمدة عتمان هنا (عمرو عبد الجليل) قدرا كبيرا من المصداقية التي تمتع بها عمدة الفيلم، فهو ما يزال في ريعان شبابه وليس رجلا يقترب من شيخوخته.
الصدق الواقعي والفني، هذا باختصار ما افتقده مسلسل "الزوجة الثانية"، فلم يأت فقط ظلا باهتا للفيلم، وإنما لأي واقع حقيقي أيضا، فأنت لن تصدق قدر الفقر الذي يعيش فيه أبو العلا وزوجته فاطمة، ولن تشعر بذل القهر الذي يدفع هذا الرجل لتطليق زوجته، ولن تتعاطف مع فاطمة التي لا تملك لضعفها سوى أن تتحايل على كل هذا الهوان. وإن أردت مثالا على خطأ (يكاد أن يصل إلى درجة الخطيئة) في ابتعاد المسلسل عن القصة الأصلية، فسوف تجده في المرض الذي أقعد أبو العلا عن العمل، مما اضطر فاطمة للعمل في بيت العمدة حيث اقتربت الفريسة من شبكة الصياد: في الفيلم يجتاح القرية وباء الكوليرا، أما في المسلسل فإن أبو العلا يصاب في خناقة عارضة!! وذلك ليس إلا مثالا على عدم إدراك صناع المسلسل لأهمية السياق الدرامي الذي تدور فيه الأحداث، بقدر عدم إدراكهم للسياق الواقعي ذاته، فجاء معظم ما فيه مزيفا، ليستحق كل هذا الانتقاد المرير الذي ناله من بين كل مسلسلات رمضان.