- أرجو ألا تكتفى ياقارئى العزيز بقراءة هذه السطور لكى تدرك مدى جمال وأهمية الفيلم الفرنسى التونسى "أسرار القمح"، فأيا مابذل الكاتب من جهد فلن يستطيع أن ينقل لك متعة مشاهدة هذا الفيلم، الذى يكفى أن أقول لك أنه سوف يجعلك تعيد النظر فيما نصنع من أفلام، وهل ماتقدمه السينما المصرية فى تيارها السائد والكاسح هو السينما حقا، وماذا تعنى فنون كتابة السيناريو والإخراج والتمثيل، وسوف تجد نفسك أمام أحد معانى وأشكال "الأسلوب" وكيف يختاره صانع الفيلم بوعى كامل منذ أن كان الفيلم مجرد فكرة، ومرورا بالتصوير وحتى آخر مراحل المونتاج.
- أنت فى فيلم "أسرار القمح" داخل عالم روائى من صنع كاتب السيناريو والمخرج الفرنسى عبداللطيف كشيش، تونسى المولد والتراث، ليحكى لك الفيلم عن عامل إصلاح السفن العجوز سليمان (حبيب بوفارس)، الذى هاجر من إحدى دول المغرب العربى ليعمل فى مرفأ بجنوب فرنسا، ويكوِّن أسرة كبيرة من الأبناء والبنات والأحفاد، وهاهو الآن يجبر على التقاعد بعد أن أصبح عاجزا عن الوفاء بمتطلبات العمل بالسرعة الكافية (أو لعله يعمل بإخلاص لم يعد مناسبا الآن)، وهكذا نعيش معه مرارته وهو يتأمل حصاد حياته متسائلا عما إذا كان قد نجح فى أن يوفر للأجيال التالية وطنا جديدا يستطيعون تحقيق ذاتهم فيه، أو أنهم يشعرون أنهم فى منفى من صنعهم، وكلا الاختيارين: الوطن أو المنفى، لا يخلو من أسى، فإذا كانت الأجيال الجديدة قد ذابت فى الوطن البديل فإن هذا يعنى ضياع هويتهم، أما إذا كانت ماتزال تعيش فى المنفى فلماذا كانت هذه الرحلة الطويلة من الشقاء؟!
- فى قلب الفيلم سوف تجد العديد من هذه المفارقات، فكل نقطة ضعف هى نقطة قوة، وعناصر التميز والتفرد تفضى إلى نوع من التمييز والاغتراب، إنها المفارقات التى سوف نظل نكتشفها كلما مضى سليمان فى رحلته، بوجهه المتغضن الحزين، الغارق فى الصمت، بينما لا يتوقف الجميع حوله عن الحوار الصاخب، ولعل الحوار هو إحدى سمات السينما الفرنسية منذ بداياتها، لكنه هنا يكتسب معنى لصيقا بالثقافة العربية التى لم تمحها تجربة الوجود فى مجتمع غربى، فهناك لسليمان أسرة كبيرة أصبحت متعددة الأعراق، بسبب التزاوج من مهاجرين أسبان أو روس أو حتى فرنسيين من الطبقة العاملة، يلتقون كل يوم أحد لتناول وجبة "الكسكسى بالسمك البورى" (وهذا هو عنوان الفيلم بالعربية) عند زوجته السابقة وأم أبنائه سعاد (راوية مرزوق) بينما يغيب هو عن هذا اللقاء، لأنه تزوج من المرأة فى منتصف العمر لطيفة (هاتكة كراوى) وأقام فى الفندق الذى تملكه، حيث يشعر بالوحدة فى غرفته الصغيرة المطلة على البحر، لا يشاركه فيها إلا عصفور غارق مثله فى الصمت، لولا ريم (حفصة حرزى) ابنة زوجته، تلك الفتاة المراهقة الممتلئة بالحيوية والدفء، وتكاد أن تجد فيه أبا حقيقيا.
- لا يجد سليمان فى أسرته الأصلية أو البديلة عزاء يجعله يشعر أن رحلته كانت ذات معنى، وأن تضحياته والإهانات التى تعرض لها طوال حياته كان لها ثمن يمكن أن يعوضه عنها، وعلى دراجته النارية المتواضعة يمضى فى شوارع المدينة، ليحلم بأن يصلح مركبا قديما على رصيف الميناء، ليحوله إلى مطعم يقدم وجبة "الكسكسى بسمك البورى" الذى تجيده زوجته الأولى، وهو الحلم الذى تواجهه فيه عشرات العقبات التى تكاد أن توقفه عن الاستمرار، لكن ريم تصر على أن تقف إلى جانبه، لينتهى الفيلم وقد تجمعت أسرتاه على المركب فى ليلة افتتاح تهدف لإقناع المسئولين الحكوميين فى الإدارات الفرنسية بمنحه التراخيص اللازمة، وهنا يصل الفيلم إلى ذروة شديد التوتر، حيث يتهدد كل شئ بالفشل عندما يضيع وعاء "الكسكسى"، وتصبح مهمة العثور عليه سباقا لاهثا على كل المستويات، أتركك لتشاهده بنفسك، وترى النهاية السعيدة الحزينة التى تضع القوس الأخير فى هذه الرحلة المضنية.
- مرة أخرى أؤكد لك أن هذا العرض لأحداث الفيلم هو الاختزال بعينه، فكل شخصية تراها على الشاشة سوف تبقى فى ذاكرتك كأنك تعرفها فى واقع الحياة، وجميع الشخصيات تتألف من مزيج من المتناقضات التى تكشف عن ازدواجية فى الشخصية العربية، ازدواجية قد تراها سلبية أحيانا وإيجابية أحيانا أخرى، فالقسوة المتبادلة قد تبدو هى الغالبة على السطح بينما هى فى الحقيقة قناع شديد الهشاشة لنبع متدفق من الحنان. تأمل على سبيل المثال كيف أن الزوجة السابقة سعاد ماتزال تشعر بالحب العميق (الذى تسميه "العِشْرة") تجاه سليمان برغم هجرانه لها، أو كيف تعامل الابنة الكبرى كريمة (فريدة بن خيتاش) طفلتها ذات العامين عمرا بعدوانية لكى تعودها على التحكم فى عاداتها الطبيعية، ناهيك عن مشهد تجمع الأسرة على مائدة الطعام، تضم جنسيات مختلفة، وتأكل بينما لا تتوقف عن الكلام، وأخيرا ذلك المشهد الذى يقطع نياط القلوب لزوجة الابن الروسية، التى تبكى بحرقة ثائرة على خيانة زوجها المتكررة وتستر الأسرة عليه، واتهامها لهم بأنهم يخدعونها وكأنهم يرفضون فى قرارة أنفسهم انتماءها إليهم.
- جمع صانع الفيلم ذلك المزيج الفريد من المأساة والكوميديا وحتى الميلودراما فى أسلوب تسجيلى خالص، فالكاميرا "تعيش" داخل هذا العالم، تتحرك فيما يبدو لنا أنه عفوية وتلقائية كاملتين، مع قطعات مونتاجية تجعلك تشعر أحيانا أن المخرج استتخدم أكثر من كاميرا خلال مرحلة التصوير (وإن لم أكن متأكدا من ذلك)، فليس هناك خطأ واحد فى التتابع برغم تدفق الحركة والحوار دون توقف، حتى أنك لا تشك لحظة واحدة أنك أناس حقيقيين يعيشون لحظات واقعية من حياتهم اليومية، وهو الأمر الذى يتأكد مع تلك المجموعة من الممثلين (لا أدرى إن كان بعضهم أو معظمهم من غير المحترفين) الذين تتدفق معهم جمل الحوار والإيماءات والنظرات دون أدنى إيحاء بأن هناك "تمثيلا" أو تقمصا لشخصية مكتوبة، فهم بالفعل الشخصيات التى نراها على الشاشة، فكأن صانع الفيلم لم يفعل إلا أن يقدم عنهم فيلما تسجيليا.
- قد تشعر أحيانا بأن هناك بعض المشاهد التى استغرقت وقتا ممتدا، خاصة أننا اعتدنا على الإيقاع الخاص بالسينما الأمريكية السائدة، أو قد تقول لنفسك أنه يمكن لصانع الفيلم أن ينجز نسخة أقصر من الساعتين ونصف الساعة التى استغرقها الفيلم، لكنك لن تشعر بالملل، فأنت أمام شريحة من حياة المغتربين العرب فى الأوطان المنافى، تثير فيك الشجن، تلك الكلمة التى تجمع مزيجا فريدا من الحلاوة والمرارة، وهو الشجن الذى سوف يزداد مع المتفرج المصرى الذى سوف يفاجأ بأن الموسيقى – التى تنبع من داخل عالم الفيلم وليس من خارجه – هى فى الأغلب موسيقى مصرية: "فتافيت السكر" لمحمد فوزى، و"الفن" و"جفنه علم الغزل" لعبدالوهاب، و"غنى لى شوى" لزكريا أحمد، ولتتأمل ذلك كله مع اللقطات القريبة جدا (التى يعشقها المخرج عبداللطيف كشيش) للوجوه العربية، فيها التعاطف والحسد، عشق الحياة والزهد فيها، الحب والكراهية، وإن أردت مثالا طريفا أنظر لوجه الابنة ليليا ذات الجسد المكتنز وفرحتها بهمسات الرجال الفرنسيين عما إذا كان هذا الجسد طبيعيا أم صناعيا، فما يبدو سببا للشعور بالنقص هو فى حقيقته مصدر للشعور بالفخر، وذلك هو جوهر التناقض الذى نعيشه، وياليتنا نعرفه ونؤمن به، فكل مااستقر فى أعماقنا من ثقافة وحضارة يؤكد أننا نعشق الحياة، حتى لو كنا نعانق الموت.
Friday, October 06, 2017
كسكسي بالبوري.... أو أسرار الحنطة
Subscribe to:
Posts (Atom)