سوف تظل الموسيقى العربية بخير ما دام هناك قراء يجيدون تلاوة القرآن، وسوف تظل مصر تحمل لواء الموسيقى العربية ما دام يولد فيها كل يوم بعض من أشهر قراء القرآن فى العالم الإسلامى كله.
هذا ما كنا نؤمن به دائما كما سمعناه على ألسنة المتخصصين فى الموسيقى العربية، وكما أكدته ألحان العديد من الملحنين المصريين الكبار الذين يحملون لقب "شيخ"، لأنهم أتوا من عالم تلاوة القرآن والإنشاد الدينى، مثل سيد درويش وزكريا أحمد وسيد مكاوى، بل إنك لا تستطيع أن تخطئ تأثير تلاوة القرآن فى بعض ألحان عبد الوهاب الذى رفع لواء إلباس الموسيقى العربية ثياب الأفندية والخواجات. ولتجرب أن تستمع إلى غنائه لقصيدة "يا جارة الوادى" بعد أن تنحى الآلات الموسيقية جانبا، أو أن تجرد قصيدة "جفنه علم الغزل" من إيقاع الرومبا، وسوف تكتشف المحاكاة – إن لم تكن المطابقة – لأساليب تلاوة القرآن.
فجأة ذهبت الموسيقى العربية فى مصر أدراج الرياح، ولم يبق منها إلا ظل باهت يضيع فى صخب الإيقاعات شديدة السذاجة والبدائية، وأصبحنا نشكو من فقدان الهوية وافتقاد المتعة، ولم يخطر ببالنا أن السبب الحقيقى وراء ذلك هو انتشار تلاوة المصحف بالطريقة السعودية، أو بالأحرى انتشار التيارات السلفية الزائفة القادمة من بلاد النفط، التى زرعت فى وجدان شريحة كبيرة من الجماهير تلك الفكرة المشوهة بأن التلاوة "الشرعية" للقرآن، أو رفع أذان الصلاة، هى تلك التى تخلو من أى مسحة من الجمال، وتنكر تماما علاقة القرآن بالموسيقى، حتى بات من يحاول إثبات هذه العلاقة قريبا من الاتهام بارتكاب الكبائر.
لكن الغريب أن هناك محاولات جادة لتأصيل هذه العلاقة، كادت أن تضيع فى زوايا النسيان، ومن بين هذه المحاولات دراسة الأستاذ المحقق عبد الوهاب حموده، التى نشرها فى أبريل 1948 فى مجلة "الموسيقى والمسرح"، التى كان يصدرها الدكتور محمود الحفنى. وهى الدراسة التى تعتمد على مصادر تراثية يعتبرها السلفيون بعض عدتهم، مثل "الإتقان فى علوم القرآن" للشيخ السيوطى. وفى مقدمة دراسته يضع عبد الوهاب حموده الأساس الذى ينطلق منه، وهو أن "بين القرآن الكريم والموسيقى صلة وثيقة، وعلاقة متينة، تشيع فى ألفاظه، وتتمثل فى أسلوبه وبلاغته، قصد القرآن إليها قصدا... فكانت له غرضا نبيلا... ليبلغ بها التأثير الروحانى والإقناع الوجدانى"، كما يؤصل العلاقة بين اللغة والموسيقى، فإن "اللغة كلها مركبة من حروف، والحروف منها متحركات ومنها سواكن، وهنا تلتقى الموسيقى باللغة... فالحروف فى اللغة تقابلها النقرات والإيقاعات، والألفاظ يقابلها النغمات، والكلام يقابله اللحن – أو الصوت على حد تعبير كتاب الأغانى للأصفهانى".
وعلماء التجويد يعلمون أسرار هذه العلاقة بين اللغة والموسيقى، "فألف المد تكون تارة ذات صوت ضخم مفخم، كما فى صال وطال، وتارة تكون ذات صوت رقيق كما فى باع وفاه... وتختلف الأصوات اللغوية أيضا من حيث الشدة والرخاوة، فالطاء والدال والراء والقاف حروف شديدة لا تخرج إلا بعد الضغط عليها... أما الذال والثاء والظاء مثلا فهى حروف لينة رخوة".
وبعد هذه المقدمة الفنية الضرورية، نقول – والكلام على لسان المحقق – إن القرآن الكريم أظهر ما تبرز موسيقاه فى فواصله، "والفاصلة هى آخر الآية، كقافية الشعر وقرينة السجع، وفى مقاطع آياته"، ويضرب على ذلك أمثلة عديدة، من بينها "زيادة حرف لا موجب له إلا الحفاظ على الموسيقى، مثل قوله تعالى فى سورة الأحزاب "وتظنون بالله الظنونا"، و"ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا"، و"فأضلونا السبيلا"، فألف المد هنا لا تتفق مع صحيح اللغة، حيث أنها لا تأتى مع (الـ) التعريف، لكن هكذا اقتضت موسيقى اللغة.
على النقيض يحتوى القرآن على حذف لبعض الحروف لتحقيق وحدة الإيقاع الموسيقى، مثل قوله تعالى "أكرمن" و"أهانن" بحذف ياء المتكلم، أو حذف ياء المنقوص (وهى حرف أساسى فى بناء الكلمة) مثل قوله تعالى "عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال" بدلا من "المتعالى"، وحذف ياء الفعل غير المجزوم مثل "والفجر، وليال عشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر" بدلا من "يسرى".
ولننظر إلى "تقديم ما هو متأخر فى الزمان نحو قوله تعالى "فلله الآخرة والأولى" بدلا من "الأولى والآخرة"، لندرك ما رمى إليه السيوطى فى ملاحظته عن أن القرآن الكريم يكثر فيه "ختم الفواصل بحروف المد واللين... وحكمته وجود التمكن فى التطريب بذلك".
ويضع المحقق يده على تفسير السيوطى لما جاء فى فواتح السور من حروف المعجم، وينقل عنه قوله "فسورة (ق) قد بدأت بهذا الحرف خاصة لما تكرر فيها من الكلمات بلفظ القاف"، كما يضيف المحقق "وقد عددت القافات فى السورة فوجدتها 57 مع أن آياتها 45"، وفى سورة (ن) تكرر هذا الحرف 124 مرة وآياتها 52، وجميع فواصل هذه الآيات تنتهى بحرف النون، إلا عشر آيات تنتهى بحرف الميم، وهذان الحرفان متقاربان موسيقيا.
بل إن المحقق يصل إلى نتيجة شديدة الوضوح: "إن موسيقى القرآن ليست وقفا على فواصله، واتزان مقاطعه، وإنما هى شائعة فى كل كلمة من كلماته وفى كل جملة من جمله، فإذا كان المقام إنذارا ووعيدا... نرى ألفاظه جزلة متينة، ودويا وطنينا، فتصل الأسماع وتهز القلوب وتزلزل الأقدام.. مثل قوله تهالى "فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم"... وقوله تعالى "فخذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه"... وقوله تعالى "فكبكبوا فيها هم والغاوون"... فإذا انتقلت إلى وصف المتقين، والحديث عن أهل الجنة ونعيمها، وجدت ألفاظا رقيقة النغم، مثل قوله تعالى "وجوه يومئذ ناعمة، لسعيها راضية، فى جنة عالية، لا تسمع فيها لاغية".
إن ما يثير فى النفس غصة، وفى العقل شكا وارتيابا، أن البعض ممن يزعمون السلفية يتعامون جهلا أو عمدا، عن الجانب الإنسانى الجميل من التراث، ولا يبقون منه إلا على ما يجعل الحياة قاتمة كابية. ولقد أدرك الشعب المصرى – الذى يؤكد دائما أن "الذوق ما خرجش من مصر" – وبفطنته الفطرية، ما فى القرآن الكريم من تأثير موسيقى شديد العمق، فأنجب أجيالا عديدة من المقرئين المجيدين، ووضع أسس الموسيقى العربية فى طرق التلاوة. والخوف كل الخوف من أن ينجح الشيخ الحذيفى ومن هم على شاكلته، فى أن يردموا هذا التراث، عندئذ لن يبقى لنا إلا أن نتقبل العزاء، ليس فى الموسيقى العربية وحدها، وإنما فى جانب مهم من وجدان هذا الشعب.