Tuesday, September 24, 2013

عن أبى وعبد الحليم وعبد الناصر.. "ذات ليلة"


كان أبى رحمه الله إنساناً بسيطاً، فى عمله وحياته وملبسه ومأكله ومشربه، وعندما يخلو إلى نفسه بعد عناء يوم طويل يجلس إلى جوار المذياع، لا يسمع فيه إلا تلاوة القرآن ونشرة الأخبار وأم كلثوم، ولم تكن له علاقة مباشرة بالسياسة، لكننى أدركت من حرصه على سماع النشرة اهتماماً عفوياً وأصيلاً بأحوال البلاد فى تلك الفترة من بدابة الخمسينات. مازالت أذكر ذلك اليوم، وأنا أراه يستمع إلى خبر عن نجاح الضباط الأحرار فى توقيع اتفاقية الجلاء "بدون قيد أو شرط"، فى تلك اللحظة نظر تجاهى وابتسامة الفرحة تنطلق على شفتيه اللتين كان من النادر أن تزايلهما الصرامة، وفى عينيه التماعة الفخر، وهو يقول لى بينما يشير إلى المذياع: "سامع؟! بدون قيد أو شرط". لا أدرى إن كنت قد فهمت حينئذ معنى الكلمات، لكن من المؤكد أن فرحة أبى وفخره تسللا إلى وجدانى، فى ذلك الزمن الذى غنى فيه محمد قنديل "ع الدوار، راديو بلدنا يجيب أخبار"، وصدح كارم محمود: "أمجاد ياعرب أمجاد، فى بلادنا كرام أسياد" التى صارت شارة وأشارة على الإذاعة التى أطلقها عبد الناصر، وحملت اسم "صوت العرب". كان عبد الحليم حافظ جزءاً من ذلك المناخ، الذى كانت فيه مشاعر "الوطنية" تتخلل كل نواحى حياتنا، ببساطة بالغة ودون زعيق أو افتعال، على عكس ما يردده البعض من اتهامات للأغنيات الوطنية لثورة يوليو بالصراخ والافتعال، لكن السمة الحقيقية لها فى تلك الفترة كانت الصدق فى التعبير، لأن "الوطنية" لم تكن – كما أصبحت فيما بعد – تجارة وشطارة، بل مشروع حياة تسودها العدالة الاجتماعية، لذلك لم يكن غريباً أبداً أن يغنى عبد الحليم حافظ فى بداية حياته بلسان العامل، بكلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان عبد الحميد توفيق زكى :"بدلتى الزرقة لايقة فوق جسمى، فى جمال لونها مركزى واسمى، بدلتى الزرقا من نسيج إيدى، لبسها يزينى حتى يوم عيدى"، فكأن تلك الفترة كانت - بعد موجة 1919 وسيد درويش – الموجة الثانية للأغنيات التى تنطق باسم "تحالف قوى الشعب العاملة" الذى ألغاه دستور الاستفتاء، وفى بساطة تلك الكلمات والألحان والأداء عرفت من هو الشعب بالمعنى الحقيقى للكلمة. أقول "عرفت" لأنه لم يكن من بين أفراد عائلتى عامل يرتدى "بدلة زرقا"، لكننى توحدت تماماً مع عبد الحليم حافظ عندما غنى أغنية تحمل عنوان "ذات ليلة" فى عام 1959. كنت عندئذ فى الثانية عشرة من عمرى، وكنت قد أدركت كم عانى أبى من أجل تعليم أخواتى الكبار، وكأنه يناضل لكى يجد لهم مكاناً تحت الشمس، بينما استطاع أن يلقى العبء عن كاهله بتعليمى وإخواتى الأصغر فى ظل "مجانية التعليم" التى أتاحته الثورة له ولكل أفراد الشعب. كانت أغنية عبد الحليم من كلمات مرسى جميل عزيز وألحان كمال الطويل، وتحكى عن طالب يسهر الليالى لكى يشق طريقه لكن الصعوبات الاقتصادية تقف فى وجهه حتى تأتى الثورة فتفتح الأبواب للجميع، كل ذلك بكلمات غاية فى البساطة وألحان تقترب من حافة الدراما وأداء بالغ الصدق: "ذات ليلة وأنا والأوراق والأقلام فى عناق، نقطع الأزمان والأبعاد وثباً فى اشتياق.. ذات ليلة هبت الريح وهزت فى عناد بابيا، أطفأت أمن حياتى أطفأت مصباحيا.....لم أجد ناراً لدى، لم أجد فى البيت شى، غير أم هى لا تملك إلا الدعوات، وأب لم يؤت غيرى للسنين الباقيات، والنهايات السعيدة، أصبحت عنى بعيدة، ذات ليلة وأنا رهن الظنون المجدبة، دقت قلوب طيبة، قالت انهض وتقدم لا تبالى، بالليالى وتصاريف الليالى... قم فباب العلم رحب فى انتظارك، قم وشارك وابن بالعلم الوطن، قلت من أين أتـى هذا الشعاع، قالت الأصداء من قلب شجاع. إنه قلب جمال". بالطبع كان هو جمال عبد الناصر، وليس أى جمال زائف مصطنع، ومع الأغنية كان صوت عبد الحليم يأخذنى من الضياع إلى الأمل إلى الفرحة، لأدرك بحق مدى "النعمة" التى أنعم بها، وأسهر الليالى "وأنا والأوراق والأقلام فى عناق"، وأنظر إلى أبى وهو يسبح بحمد الله. ذهب ذلك كله أدراج الرياح، وأصبحت كلمات مثل "الوطنية" أو "مجانية التعليم" تثير إما الحسرة أو السخرية، وألغيت "المكاسب الاشتراكية" وحلت محلها "البيئة" فى الدستور، وكأنه "دستور بيئة"، واجتمع اللاصقون العرب فى كراسى السلطة لكى يقدموا لإسرائيل عربون محبة تحت اسم "المبادرة العربية" وهم يعلمون أن إسرئيل لن ترضى إلا بالرضوخ الكامل، ولا يعلمون أن اعترافهم بكيان استعمارى أقيم بذريعة دينية يفتح أبواب جهنم أمام كل التيارات السياسية الدينية التى يتصورون أنهم سدوا الطريق فى وجهها بنص دستورى. لذلك كله أحن إلى صوت عبد الحليم، وزمن عبد الناصر، وتلك النظرة من الفرحة والزهو والكبرياء التى رأيتها فى عينى أبى عندما عرف أنه جلاء "بدون قيد أو شرط"، وكم أتمنى قبل أن أموت أن تعرف تلك النظرة طريقها إلى عينى، "ذات ليلة".

No comments: