Thursday, August 18, 2011

مسلسل "خاتم سليمان" استعراض الممثل الواحد


في رمضان من العام الماضي، كان هناك مسلسل يحمل اسم "أهل كايرو"، الذي حقق جماهيرية واسعة بسبب حبكته البوليسية التي أحبطت المشاهدين في نهاية الحلقات، لأنها جاءت بحل مفاجئ لم تكن له أي إشارات سابقة في الأحداث أو رسم الشخصيات. وكان الممثل خالد الصاوي هو بطل الحلقات، لكن بالرغم من ذلك كانت هناك إلى جانبه العديد من الشخصيات الرئيسية والثانوية، والإيقاع المتدفق السريع، والحوار الذي يلمح إلى الكثير من تناقضات الحياة في مصر في الآونة الأخيرة، وكانت كل تلك العوامل مجتمعة هي أسباب إضافية للنجاح النسبي للمسلسل، ويبدو أن ذلك قد أغرى خالد الصاوي بتكرار التجربة، ليقوم هذا العام ببطولة "خاتم سليمان"، الذي بدأ في حلقته الأولى بداية مشجعة، لكنه مع توالي الحلقات يشي بنقاط ضعف عديدة جعلته يتراجع يوما بعد يوم.
لعلك قد لاحظت منذ اللحظة الأولى تلك "الموضة" في التورية التي يحملها عنوان المسلسل، الذي يحمل اسم بطله "سليمان"، لكنه يضيف إليه خاتما سوف يجعله يرتديه لسبب غامض، فكأنه إشارة ملتبسة لخاتم النبي سليمان الذي يسخّر به الجن، فكذلك بطلنا سليمان الذي يأتي بالأعاجيب بين الحين والآخر، برغم المآزق التي يمر بها وتكاد أن تعصف به، لكنه يقوم من عثرته قويا ليعاود سحره من جديد.
هذا "السحر" الذي يملكه سليمان – الذي يقوم بدوره بالطبع خالد الصاوي – هو محور كل الحلقات، التي كتبها محمد الحناوي وأخرجها أحمد عبد الحميد، لكنك تلمس في كل التفاصيل تدخل البطل الممثل الذي يبدو أنه اعتبر نفسه "نجما"، وليست القضية أن يكون ذلك صحيحا أو لا (فالنجومية شيء نسبي تماما، خاصة إذا أصدر صاحبها حكما بشأنها)، لكن القضية هي أن تصبح هذه النجومية هي البداية والنهاية، وبدلا من أن تكون في خدمة العمل الفني، تصبح كل عناصر العمل في خدمتها!
تبدأ الحلقة الأولى بداية قوية، وهي الحلقة التي تمثل "قسم العرض" في البناء الدرامي، فهناك مستشفى شهيرة تحمل اسم صاحبها سليمان العريني، جراح القلب البارع الذي يصفه الحوار كالعادة بأنه "أشطر جراح قلب في مصر"، وتدير هذه المستشفى الدكتورة شاهيناز (رانيا فريد شوقي) زوجة سليمان، وهي تمسك بحزم بمقاليد الأمور فيها، وهو ما نراه في لمسات سريعة في إصدارها الأوامر هنا وهناك، حيث وصل إلى المستشفى أحد الوزراء مصابا بجلطة في القلب، لكن المشكلة أن الدكتور سليمان كعادته غائب في مكان مجهول.
دعك الآن من "منطقية" أن يكون هناك في الواقع جراح شهير على هذه الشاكلة، فلابد أنك تتسامح مع هذه التفاصيل قليلا لكي تستمتع بالعمل الفني، وسوف تعرف سريعا أن بطلنا جالس يلعب "طاولة" في مقهى شعبي، تنطلق من قلبه الضحكات الطفولية الصافية وهو ينتصر على خصمه. بعد أن ينتهي بطلنا من اللعب يصحبنا إلى سطح منزل فقير في قلب الحي القديم من القاهرة، لينطلق في تأملات عن منظر المدينة في الليل، لكن هدفه في التواجد في هذا المكان هو استعادة "حمامة زاجلة" له، كانت قد ضلت طريقها إلى عش غريب، ويدفع سليمان مبلغا كبيرا لاستعادتها وهو راضٍ بذلك.
كانت السلطات تبحث عن الدكتور سليمان في كل مكان لكي ينقذ الوزير المريض في تلك اللحظات الحاسمة من حياته، وينجحون بالفعل في النهاية، ويصحبونه عائدين إلى المستشفى، لكنه يبدو لاهيا بحكاياته مع الضابط الذي يصحبه، عن هواياته الغريبة وذكرياته المضحكة عن وزير الصحة الذي كان زميلا قديما له أيام الدراسة. لقد كان المسلسل هنا (وطوال الحلقات) يريد أن يضع خطوطا أكثر وضوحا حول شخصية سليمان، لكنه كلما حاول ذلك زاد الشخصية غموضا، حتى أنك تسأل نفسك: هل هو عابث ليس لديه إحساس بالمسئولية؟ هل يعاني من اضطراب نفسي ما؟ أم أنه متمرد على نجاحه ويريد أن يعيش حياة عادية مليئة بالمباهج الصغيرة؟
عبثا تحاول أن تجد إجابة واضحة على تلك الأسئلة حول بناء الشخصية الرئيسية، ويبدو أن صناع المسلسل بدورهم لا يملكون إجابة واضحة عنها، فما أغراهم بها هو أنها تقترب من شخصية "زوربا اليوناني"، التي ظهرت في الفيلم الشهير من بطولة أنتوني كوين، عن رواية الأديب اليوناني الكبير نيكوس كازانتزاكس، وهي شخصية تغري بالفعل أي ممثل بتجسيدها لما تملكه من تناقضات بالغة الحيوية، لكنها تحتاج إلى قدر هائل من الرهافة حتى لا تبدو هذه التناقضات – كما هو الحال هنا – أقرب إلى التشوش والاضطراب.
سوف يحاول المسلسل بالطبع أن يضع هذه الشخصية في مواقف تبرز تناقضاتها وحيويتها، لكن هذه المواقف سوف تصبح أقرب إلى "نمر" فيها الكثير من الافتعال، وقد تستغرق إحدى هذه النمر حلقات بأكملها، حتى إذا انتهت ينساها المسلسل ليمضي إلى نمرة أخرى. تبدأ هذه النمر مع كارثة حقيقية يعيشها سليمان وزوجته شاهيناز، فابنتهما الشابة الوحيدة شهد تذهب مع إحدى صديقاتها إلى موسيقي شهير، حيث تتكشف الليلة عن مصرع هذا الموسيقي، ليقع الاتهام بالقتل على الابنة، ويمضي سليمان في مغامرات بالغة السذاجة في محاولة للكشف عن الفاعل الحقيقي، مستخدما واحدا من أصدقاء الطفولة تحول إلى ممارسة الدجل والشعوذة، اللذين يصبحان سلاحه في اكتشاف أسرار الجريمة!
في "منطقة" أخرى من المسلسل (فكأن المسلسل مناطق معزولة دراميا عن بعضها البعض) نرى الصحافية الشابة عبير، التي تحاول الحصول على سبق صحفي يؤهلها للتعيين في الصحيفة التي تعمل بها، فتمضي خلف قصة الوزير المريض، وتدعي المرض لتدخل المستشفى لتكون قريبة من مصدر الأخبار، وحين تتكشف حقيقتها وتبدو قريبة من تلقي العقاب، يكشف لنا المسلسل عن أنها مريضة بسرطان الدم، وتلك كما ترى تطورات لا علاقة لها بأي بناء درامي متماسك، حيث لا علاقة بين مرضها ومغامراتها الصحفية، تماما كما يسير المسلسل في خط جديد عندما يقابل سليمان مجموعة من المجرمين، يدخل معهم في محاورات تجعلهم – مثلنا – حائرين في فهم شخصيته!!
من هذه الخطوط القصصية العشوائية تدرك أن البناء البوليسي هنا يفتقد الحد الأدنى من التماسك والإقناع، وذلك للانشغال بما يراه المسلسل أكثر أهمية وهو شخصية سليمان، لكنه هنا أيضا يفتقد المصداقية، ليس فقط لأن الشخصية بعيدة عن الواقعية، وإنما لأنها غير متكاملة الملامح بالمعنى الدرامي للكلمة. دائما يتحدث نقاد الدراما عن "الدافع" الذي يقود الشخصية لتصرفاتها، حتى لو كانت هذه التصرفات بالغة الغرابة, لكن الشخصية هنا ولدت "هكذا" وبدون أية دوافع، ولا تجد سوى "مونولوجات" طويلة من الحوار يتحدث بها البطل عن نفسه، أو يتحدث بها الآخرون عنه، وبصرف النظر عن أن هذه المونولوجات تربك إيقاع الأحداث تماما، أو أنها تجعل الممثلين يسترسلون في أداء "زاعق" بالمعنى الحرفي للكلمة، فإنك لا تستطيع أن تبني دراميا شخصية ما من خلال الحوار وحده، خاصة عندما يكون محتشدا بعبارات غائمة تصف سليمان بأن "بحر مليء بالألغاز" أو بأنه "شبح"، كما جاء بالنص في المسلسل!!
يدور المسلسل إذا عن سليمان، وكل الشخصيات تدور في فلكه، وكل الأحداث تمضي إليه، لذلك تبدو كل عناصر المسلسل مكرسة له، أو بالأحرى لخالد الصاوي، الذي يظهر كما لو كان يقف على خشبة مسرح، يلون في نغمات صوته وحركات جسده على نحو شديد المبالغة بما لا يتناسب مع رهافة الشاشة الصغيرة، التي تسجل النفاصيل الدقيقة فلا تتطلب من الممثل كل هذا القدر من تضخيم الأداء.
ربما تحمل الحلقات الأخيرة من "خاتم سليمان" نفسيرا لهذه الشخصية، لكن ذلك سوف يكون بدوره عن طريق جمل الحوار وحدها، وبعد ثلاثين حلقة من مسلسل كان يكفي فكرته فيلم في أقل من ساعتين، لكن همه كان أن يمنح بطله عرضا متصلا لأن يثبت موهبته، فإذا به يتحول في النهاية إلى أن يكون عرضا للممثل الواحد!!

Wednesday, August 17, 2011

الكبير أوي الضحك من غير سبب ليس دائما قلة أدب


أحيانا ما يتعامل النقد مع الأعمال الكوميدية بمنطق الاستخفاف، وينظر لها على أنها لا ترقى لمستوى النقد، وغالبا يكون السبب الرئيسي في ذلك أن النقد يتعامل أساسا مع المضمون، بينما يهمل الشكل أو يتجاهله ويجهله. فأغلب المقالات النقدية تبدأ بعبارة: "هذا العمل يتناول ..."، فإذا كان هذا الذي يتناوله العمل الفني جادا في مظهره أصبح في عرف الناقد جديرا بالاحترام، حتى لو كانت المعالجة هزيلة. وهناك أمثلة عديدة هذه الأيام لأعمال الفنية ضعيفة، لكنها تختفي وراء الزعم بمعالجة قضية جادة، وذلك في الحقيقة أخطر من ألا يتناول العمل مثل تلك القضايا أصلا، فغايته في هذه الحالة تكون هي الضحك بمعناه البسيط، وهو إن لم ينفع لا يضر، وذلك تماما هو حال المسلسل التليفزيوني "الكبير أوي"، الذي يأتي هذا العام جزأه الثاني ليحقق نسبة عالية في المشاهدة.
أثار حيرتي في البداية نجاح هذا المسلسل "الخفيف"، بين الكبار أو الأطفال على السواء، وأهملته بعض الوقت لكن تزايد النجاح جعلني أقترب منه بالتحليل، فإذا بي بالفعل أمام عمل قد يبدو للوهلة الأولى سهلا، لكنه يحتاج إلى جهد كبير في التنفيذ، وصياغة دقيقة رقيقة للعناصر الدرامية والبصرية معا، لأنه يستفيد كثيرا من ثقافة سينمائية وتليفزيونية واسعة، عربية وغرببة على السواء، وهذا في رأيي أحد أسباب نجاحه، فنكاته تشبه نكات أفلام التحريك الأمريكية المعاصرة، التي تحتوي على مستويين، الأول مباشر يخاطب الأطفال، والثاني موجه للكبار أصحاب قدر من الثقافة يسمح لهم بإدراك الأبعاد التي تفوت على من لا يملكها.
دعنا في البداية نلقِ نظرة على البناء العام للمسلسل الذي كتب فكرته وقام ببطولته أحمد مكي: هناك رجل صعيدي يدعى "الكبير قوي" يعمل عمدة لقرية تسمى "المزاريطة"، يفاجأ أن له شقيقا توأما تربى في أمريكا ويحمل اسم "جوني"، ويظهر جوني ذات يوم ليعيش في القرية أيضا، وهنا تتصادم الثقافات المتباينة تصادما مضحكا، خاصة أن القرية تحمل أحيانا ظلالا رمزية من فكرة "الوطن". إن هذا التصادم يميل أحيانا إلى السخرية من "الخواجة"، لكنه يوجه سهام نقده أيضا للعمدة الصعيدي، فالمسلسل لا يقع في مأزق الانحياز لأيهما، أو السخرية الفجة من الصعيدي مثلما فعلت أعمال أخرى كانت مجرد نكات جامحة من ذلك النوع الذي يتداوله الناس في حياتهم اليومية.
بالطبع يلعب أحمد مكي دوري الشقيقين، بينما يكتب السيناريو والحوار كل من مصطفى صقر ومحمد عز الدين وتامر نادي، ويتناوب على الإخراج إسلام خيري وأحمد الجندي. لكنك تستطيع أن تلمس تأثير أحمد مكي في كل التفاصيل، خاصة اختيار فريق الممثلين الذين يعملون معه دائما، ويشكلون بالفعل فريقا متجانسا يجيد الأداء على نحو يندر أن تجده في أعمالنا الفنية المعاصرة، لا فرق في ذلك بين ممثل رئيسي أو "كومبارس" يلقي جملة حوار واحدة، خاصة أن العمل يقتضي في بعض الحلقات استخدام مجاميع هائلة، مثل الحلقات الثلاث التي تحدثت عن قدوم فريق كرة قدم أمريكية إلى القرية، في تنافس يحمل بعض دلالات وطنية.
في تلك الحلقات – كمجرد مثال – نموذج على أسلوب المسلسل كله: فهناك تأثر واضح بأفلام الألعاب الرياضية الأمريكية، حيث يأتي التحدي من فريق كرة قدم أمريكية فلا يجد البطل مناصا من قبوله لأنه يمس شرفه، وهو هنا الشقيق جوني، فإذا به يجمع مجموعة من البسطاء الذين لا يعرفون بالطبع شيئا عن هذه اللعبة، لذلك فهم يبدأون من الصفر أو ما هو دونه، وعندما يبدو الأمل ضعيفا يظهر شخص يملك قدرات خاصة، وهو هنا لص يدعى "القطر" (أي القطار)، سريع العدو بحيث لا يستطيع أحد اللحاق به، ويأتي يوم النزال، ويتجمع أهل القرية جميعا على نحو فريد، وأعتقد أن صناع المسلسل بذلوا جهدا فائقا في تصوير هذه المباراة، ولعل ذلك استغرق منهم يوما كاملا لالتقاط العديد من اللقطات العفوية لكي يمكن فيما بعد تجميعها في المونتاج.
وكعادة أفلام الرياضة ينهزم في البداية فريق البطل جوني، بينما يجلس الشقيق الكبير قوي في المدرجات متخفيا لأنه يعتبر الاشتراك في هذه اللعبة عارا. وينزل "القطر" إلى الملعب ليحمل بعض الأمل للفريق المهزوم، لكنه يصاب ليضيع هذا الأمل، وهنا يقرر الكبير قوي أن ينزل إلى أرض الملعب ليشترك مع شقيقه في الدفاع عن شرف القرية، وعندما يتحقق الانتصار الصعب نرى على الشاشة تقليدا ساخرا من طريقة التليفزيون المصري في الاحتفال بتلك الانتصارات الرياضية في مبالغة مضحكة.
من أهم سمات "الكبير أوي" أنه يوزع سخرياته بجدية بالغة، فهو لا يميل أبدا للتهريج في التمثيل الذي أصبح من علامات هذا الفن في مصر في الآونة الأخيرة، خاصة فيما عرف باسم "كوميديا الموقف" أو "السيتكوم"، وبلغ هذا التهريج ذروته العام الماضي في مسلسل "عايزة أتجوز" وأصبح الجميع يقلدونه، لكن "الكبير أوي" يحافظ على الشعرة الدقيقة الفاصلة بين الجد والهزل، ولعل هذا هو السبب في أن الممثلين يحققون هنا درجة عالية من الإتقان والإقناع، نذكر من بينهم دنيا سمير غانم في دور هدية زوجة الكبير قوي، أو هشام اسماعيل في دور الخفير فزّاع، أو محمد شاهين في دور توماس صديق جوني ومساعده.
لا يبتعد "الكبير أوي" في بنائه العام عن كوميديا الموقف أيضا، فقد تأتي كل حلقة منفصلة بذاتها، أو تتجمع حلقتان أو ثلاث معا في حكاية واحدة. وهذا البناء يسمح لصناع المسلسل باستضافة بعض الممثلين المشهورين في بعض الحلقات، كما يسمح لهم أيضا بأن ينتقلوا في الزمان والمكان، حتى أن هناك بعض الحلقات تمضي إلى الماضي لتحكي عن نزوات الأب المضحكة في شبابه. هناك سمة أخرى لا تقل أهمية، وهي أن المسلسل لا يقع في الثرثرة المملة التي تهدف إلى التطويل بأي ثمن، وجرب مثلا أن تفوت جزءا من بداية حلقة ما وسوف تكتشف أنه قد فاتك الكثير، ففي قسم عرض المعلومات الرئيسة تشعر بتدفق الإيقاع السريع سواء في الأحداث أو الحوار، كما أن المشاهد الطويلة نسبيا تعمد على الفور إلى استخدام المونتاج لخلق هذا الإيقاع.
غير أن السمة الأهم هي الاعتماد على السخرية من أعمال سابقة. تأمل مثلا الحلقة التي شك فيها الكبير قوي في أن توماس جاسوس، بسبب أسئلته الفضولية وتصويره لأماكن عديدة في القرية، فيذهب بطلنا إلى المخابرات المصرية، حيث يجد ضابطا هو ابن الضابط الذي كان مسئولا عن رأفت الهجان، ويقلد يوسف شعبان الذي قام بهذا الدور!! ولتلاحظ أيضا التناقض بين منطوق بعض جمل الحوار ومضمونها، إن الضابط يقول للكبير: "خد راحتك كأنك بتكلم واحد صاحبك"، بينما يشي الأداء بالتهديد والوعيد!!
في حلقة أخرى يصبح هدف السخرية هو الفيلم الأمريكي "تبديل الوجوه"، الذي قام فيه المجرم جون ترافولتا بسرقة وجه نيكولاس كيدج، فلم يجد هذا الأخير إلا أن يكتسي بوجه الأول ليمضي الفيلم في مفارقات تحتشد بالتشويق و"الأكشن"، أما هنا فإن الكبير يشاهد الفيلم قبل نومه فيحلم بكابوس يرى فيه تبديل الوجوه مع شقيقه جوني، وتتصاعد المفارقات حتى أن الجميع في القرية يبدلون وجوههم مع بعضهم البعض.
تعتمد مثل هذه المحاكاة هنا على إدراك التفاصيل السينمائية والبصرية وليس مجرد البناء العام للحبكة فقط، لذلك فإن "المتعة" في مشاهدة "الكبير أوي" قد تتوقف بالنسبة لبعض المتفرجين عند الضحك، لكنها تمتد عند البعض الآخر إلى إدراك التشابه مع الأعمال التي يتم السخرية منها، وإلى دقة التنفيذ التليفزيوني التي يمكن أن تجد لها مثالا في مشهد يودع جوني والكبير فيه كل منهما الآخر حتى أنهما يحتصنان، وإذا أتيحت لك فرصة مشاهدة هذا المشهد مرة أخرى فسوف يدهشك براعة المونتاج واستخدام "الدوبلير" في وقت واحد.
في سياق من التوترات ذات المستويات العديدة يأتي مسلسل "الكبير أوي" ليمنح المتفرج بعضا من لحظات اللهو البريء النظيف، وذلك هدف يستحق العناء بالفعل، وصل إليه صناع المسلسل بالكثير من الجهد، فاستحقوا نجاحا جماهيريا، وليثبتوا أن الضحك من غير سبب ليس دائما قلة أدب!!

Tuesday, August 16, 2011

رمضان والصيام عن الثورة


يأتى شهر رمضان هذا العام بطعم مختلف ... منذ ثلاثين عاما أو يزيد تعود المصريون أن ينظروا إلى هذا الشهر على أنه شهر التليفزيون، وأصبحت الأجيال تُنسب إلى "فوازيرها"، فذاك جيل فطوطة أو نيللى، وهذا جيل شيريهان، وفجأة انقطعت الأجيال أو تمييزها على الأقل بهذه الطريقة، فقد باخت الفوازير إلى درجة أن أحدا لن يتذكر مثلا أنه قد ظهرت فى العام الماضى "واحدة" تدعى ... (نسيت اسمها للحظة ثم تذكرته: مريم فارس)، قدمت فوازير ليست فوازير، ورقصا أشبه بارتعاشات الصرع، وأغنيات أقرب إلى الزار. كان السبب فى فقدان بهجة الفوازير هو أن الحياة اليومية باتت فزورة كبرى، كان خاتمتها الانتخابات التشريعية "بتاعة" أحمد عز، التى فاق التزوير والفُجر العلنى فيها كل تصور، ثم جاءت فزورة "خليهم يتسلوا"، أو بكلمات أخرى: "فيلشربوا من البحر، أو يخبطوا رأسهم فى الحيط"، وكان أن خبطنا رؤوسنا بالفعل، ولكن فى رأس النظام، الذى تهاوى بعد أن خاض دور شطرنج طويلا مع الشعب.
نتصور أحيانا أننا قد انتصرنا فى هذه المباراة، والحقيقة أن "الطابية" قد تدخلت بما بدا للحظة أنه لصالحنا، لكن بعد استراحة قصيرة من توتر اللعب أدركنا الحقيقة المرة: الطابية تريد أن تصبح الملك!! لذلك يأتى رمضان هذا العام بطعم مختلف.
فى كل صباح رمضانى هناك فرصة أمام ربات البيوت بشكل خاص أن ترين المسلسلات والبرامج التى لم تتمكن من رؤيتها فى الليلة السابقة، لكن فى اليوم الرابع عشر من رمضاننا هذا كانت المحطات تذيع محاكمة حبيب العادلى "المدنية" بتهمة قتل الثوار، فى "شو" إعلامى لطيف يجلس فيه الرجل كأنه فى نزهة قصيرة. فى الوقت ذاته كان هناك حدث مهم يجرى دون أن يدرى به أحد، لأن التليفزيون لم يهتم به حتى كخبر قصير، وهو تحويل أسماء محفوظ للنيابة "العسكرية"، ولأنها غير مشهورة بالمعنى التليفزيونى، ولا يراد أن تكون مشهورة، فقد قامت وسائل الإعلام بأن "كفت على الخبر ماجور"!! من هى أسماء محفوظ؟! فتاة مصرية تشبه أخواتنا وبناتنا، كانت من بين شباب مصر الذى خرج فى يوم 25 يناير، وقامت على أكتافه كل الأمجاد المزعومة التى تشدقت بها فصائل عديدة، مثل حديث عصام العريان عن "خطط" الإخوان المسلمين" للثورة منذ زمن طويل، وهم الذين انتهزوا ومايزالون ينتهزون أى انتصار يحرزه غيرهم.
لماذا تم تحويل أسماء للنيابة العسكرية؟ لأنها نبهت إلى أن المجلس العسكرى يرتكب خطأ فادحا بتصرفاته التى يحار فى فهمها كل لبيب، وحذرت من أن سياسة المجلس إياه سوف تؤدى إلى تيارات من العنف. النكتة الأولى هنا هو اتهام الفتاة البريئة بالدعوة إلى العنف، وهى التى بح صوتها ورفاقها من أبناء الشعب المصرى بالهتاف: "سلمية سلمية"، بينما كانوا يلاقون أبشع وسائل العنف على أيدى رجال العادلى، الذى كان يبتسم فى قفص محاكمته فى يوم التحقيق مع أسماء.
النكتة الثانية هى أن جلسة محاكمة العادلى "المدنية" انتهت بينما استمر التحقيق "العسكرى" مع أسماء ساعات عديدة. عبثا حاولت أن تقنع المحققين بجدية تحذيرها، الذى لا يعنى أبدا أنها شخصيا سوف تلجأ للعنف، وإنما أن المجلس العسكرى يمارس مرة أخرى سياسة "خليهم يتسلوا"، بما سوف يعيد الدائرة إلى بدايتها (أنظر أعلاه!!)، أو لأن هذه السياسة التى تلعب لعبة خطيرة هى التى تستخدم قوى العنف والإرهاب لتضرب قوى الثورة، وما تزال مظاهرات السلفيين فى الأذهان، ورفعهم صور بن لادن ورايات تنظيم القاعدة وأعلام السعودية، ولم يتم التحقيق مع أحدهم أبدا برغم ارتكابهم ما يرقى إلى الخيانة العظمى، كما لم يتم التحقيق مع ما يسمونهم "البلطجية"، الذين اعتدوا على الثوار تحت سمع وبصر المجلس العسكرى مرتين، مرة فى "الجمل" وأخرى فى "العباسية"، بينما يتم التحقيق مع أسماء لأنها أطلقت نداء على "تويتر"!!
أُفرج عن أسماء بكفالة عشرين ألف جنيه فى النيابة العسكرية، فى الوقت الذى كانوا قد أفرجوا عن عائشة عبد الهادى فى النيابة المدنية بنصف هذا المبلغ لاشتراكها فى "معركة الجمل"!! ولم تظهر هيئة سياسية واحدة تعرض دفع الكفالة فقام الشباب بجمعها من بعضهم، وقد فات عليهم – لأنهم مشغولون بالثورة – أن يشاهدوا مسابقة "بيبسى" المحمومة على شاشات التليفزيون، التى تعرض جوائز تكفى للإفراج عن العديد منهم أمام النيابة "العسكرية"، وربما تفادى الثوار أن يستعينوا بـ"بيبسى" حتى لا تثبت التهمة التى أطلقها "واحد" يقال أنه مطرب وملحن، اسمه عمرو مصطفى، ظهر فى العديد من البرامج التليفزيونية الرمضانية هذا العام، ليقول إن هذا البيبسى خطط للثورة تحت شعار "اشرب وعبّر" أو "اتكلم واشرب"، لست أدرى على وجه اليقين، وأن بيبسى حين ذكر احتفاله بمرور 125 عاما على انطلاقه كان يعطى إشارة بدء الثورة لأتباعه فى اليوم 25 من الشهر 1!! جاء ذلك فى أحد البرامج التليفزيونية، بينما كان موقع "يوتيوب" يبث شريطا قصير يؤكد فيه أن كلمة "بيبسى" تعنى "ادفع كل قرش لتنقذ اسرائيل"، مع أن اسم هذا المشروب يعود إلى "إنزيم" يدعى "بيبسين"، كما أنه ظهر قبل أن يكون لكلمة "إسرائيل" أى معنى غير الإشارة لنبى الله يعقوب، ولكى يزداد الأمر "لخبطة" فقد كان هذا الشريط الهزلى لمرشح الرئاسة عن السلفيين حازم أبو اسماعيل، الذى كان "الوحيد" – حتى كتابة هذه السطور – الذى أدان بكلمات بالغة الحدة والوضوح تحويل الشباب الثائر للمحاكمات العسكرية!! حد فاهم حاجة؟!!
فى هذا الواقع المضطرب أتى رمضان هذا العام، وكنت لسذاجتى قد توقعت أن يكون رمضان ساخنا، يتحول فيه "الميدان" إلى ساحة للاحتفال السياسى والكرنفالى فى وقت واحد، فإذا بنا نقرر أن نأخذ "أجازة" من السياسة فى رمضان لنجلس أمام شاشات التليفزيون، فى الوقت الذى قرر فيه المجلس العسكرى "احتلال" الميدان، مع أول يوم من الشهر، وأن يُجلى عنه قوات "الأعداء" الذين جاءوا للإفطار فيه، بينما احتلت قوات الثورة المضادة شاشات التليفزيون.
جلسنا أمام الشاشات نتلقى برامج غسيل الدماغ، التى تعبث فى عقول ملايين المتفرجين، الذين باتوا أقرب لعدم فهم ما يجرى بسبب التباس المواقف، هل ما حدث ثورة؟ هل قامت الثورة بهدف إقصاء مبارك أو حتى محاكمته، لكى يجلس مكانه "جنرال" من نظامه، لتصدق "نبوءة" عمر سليمان عن الانقلاب العسكرى، ليكون ذلك هو أول انقلاب عسكرى يُعلن عنه قبل وقوعه؟ هل المسألة مجرد تغيير فى الوجوه بينما يبقى الوضع على ما هو عليه، هذا الوضع الذى يعنى أن تظل مصر دولة تابعة، وأن يقوم اقتصادها على الطفيلية التى من توابعها أقصى درجات الظلم الاجتماعى؟ وهل بدأت الديكاتورية حقا مع نظام عبد الناصر الذى يقع ضمن "الستين عاما" التى يذكرونها دائما عندما يتحدثون عن "الماضى"، لتزول الفروق الجوهرية بين نظام ناصر الذى لا يفرق بين الديموقراطية السياسية والاجتماعية، ونظامى السادات ومبارك الذين يقومان على تكوين عصابات النهب المنظم للأوطان؟
وسط هذه "اللخبطة" ظهرت برامج رمضانية تكائرت كأنها الخميرة التى كانت نائمة ثم استيقظت فجأة، وأنا أعترف للقارئ بعجزى عن معرفة إذا ما كانت تلك مصادفة أم تخطيطا منظما، أن يظهر مثلا تامر أمين فى العديد من الشاشات على مدى أيام متناثرة، ليقول أنه وزملاءه فى "البيت بيتك" هم الذين أشغلوا فتيل الثورة، أو أن نرى أسامة سرايا يشرح فلسفته فى الدفاع عن الحزب الوطنى، أو حسام البدراوى يحكى بالتفصيل الممل عن "نضاله" لكى يعود مبارك إلى صوابه، ناهيك عن طلعت زكريا، أو تامر الآخر (حسنى). ولست ضد أن يظهر هؤلاء وغيرهم ليدافعوا عن مواقفهم، لكن ما دام التليفزيون قد قرر أن يأتى هذا العام ببرامج "سياسية" فى قالب ترفيهى، فلماذا لم يستخدم ذلك فى تصحيح بعض المفاهيم بدلا من زيادة تشويهها على طريقة "الليبرالية يعنى أن أمك تقلع الحجاب" (!!!)، ولماذا لا يهدف للتنوير بدلا من ضرب كل الكراسى فى "الكلوبات" بالسخرية الجامحة من أى حديث سياسى جاد، فى عشرات البرامج التى تحاكى بشكل هزلى برامج "التوك شو"، حين يقال لنا مثلا أن الحرية اشتقت اسمها من "الحر"، أى من الجو الحار؟!!
من جانب آخر هناك برامج تغذى النزعة العدوانية فى نفوس المشاهدين (ما هى ناقصة!!)، برامج تقول للمتفرج أن يضحك وهو يرى شخصا فى مأزق رهيب، وكأنها فى الحقيقة نوعا من تعويد الناس على العنف الذى استشرى فى الآونة الأخيرة منذ ما أُسمى "الانفلات الأمنى"، وهو اسم الدلع للتفريط الأمنى المتعمد، من السلطات القائمة على شئون البلاد، السلطات السابقة واللاحقة، التى تستخدم هذه الفوضى لتأسيس سلطتها والحاجة للاستعانة بها. ولست أدرى فى الحقيقة أين ذهبت "الدولة"، فالثورة لم تتوجه للحظة لتقويض الدولة أبدا، بل للنظام، فكانت النتيجة أن اختفت الدولة وبقى النظام!!
ما الذى يحدث؟ إننى أنظر إلى شاشات التليفزيون وأحاول القراءة، فلا أرى سوى إعادة إنتاج للمرحلة السابقة، كل ما حدث أن مبارك وولديه وراء القضبان، بشكل مؤقت أو دائم؟ حقيقة أم تمثيلية؟ لا يهم، فالمهم ألا يتغير شىء، بل ربما يصير أسوأ، حين تصبح المحاكمات العسكرية هى "العادية"، فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد كما قال الرائع الراحل أمل دنقل، لكن هل لن تبقى وراء شهدائنا إلا دمعة سدى؟ هل نصوم طويلا عن السياسة؟ هل نعود إلى الحظيرة؟ تساؤلات تجعل لرمضان هذا العام طعما آخر، كأنها الهزيمة بنكهة الانتصار، وياليتها لا تكون!!