Friday, April 29, 2011
هل هناك أمل فى إحياء صناعة السينما المصرية من جديد؟
لم أدرِ إن كنت أضحك أم أبكى، عندما قرأت خلال الأيام القليلة الماضية نداء استغاثة ممن يقولون أنهم صناع السينما المصرية، موجها لـ"الدولة" يطالبونها بالتدخل لحماية هذه الصناعة التى يخافون أن تكون على وشك الانهيار، إن لم تكن قد انهارت فعلا. الآن يلجأ أصحاب "الفلوس" فى السينما المصرية إلى الدولة، وهم الذين كانوا يرفعون عقيرتهم دوما بشعار حرية السوق وعدم وجود أى نوع من القيود. إنهم هم أنفسهم من باعوا واشتروا فى تراث السينما المصرية، الذى ذهب معظمه إلى شركتين فقط منذ عقد واحد فقط، والله وحده يعلم إن كان ذلك التراث قد بيع الآن لشركات ونظم أجنبية أخرى يهمها أن تضع قبضتها على كل مقدرات الشعب المصرى.
فى الحقيقة إنه لا يمكننا أن نوجه اللوم كله للمتاجرين بهذه المقدرات، فاللوم الأكبر يقع بلا شك على مناخ سياسى واقتصادى استمر طوال الأربعة عقود الماضية، فإذا كان النظام السياسى المصرى قد روج خلال هذه الفترة لمفهوم أن أوراق "اللعبة" فى يد أمريكا وحدها، وإذا كان العدو الصهيونى قد أصبح صديقا بينما تقطعت صلاتنا بأشقائنا الحقيقيين، وإذا كان الشعار المرفوع هو "اكسب واجرِ" فى كل أمور حياتنا، وإذا اختفى أى ظل لمشروع قومى بالمعنى الكامل للكلمة، وإذا أصبح المواطن المصرى مجرد شبح إنسان "يرضى بالهم والهم مش راضى به" كما يقول المثل الشعبى، فلا تنتظر إلا أن يتفكك الوطن، ويصبح أنقاضا يبيعونها فى "سوق الكانتو"، والتاجر الشاطر هو من يعرف أنه "إذا تهدم بيت أبيك اخطف لك منه قالبا"، وليذهب البيت نفسه فى ستين داهية!!
يضحكنى ويبكينى الآن أن هؤلاء يتباكون على السينما المصرية، وهم الذين أوصلوها إلى ما هى عليه. تأمل ما حدث خلال هذه العقود الأربعة التى نتحدث عنها: فى السبعينيات، وبعد تفكيك تجربة القطاع العام التى ألصقوا بها سلبيات أكثرها مختلق، سادت سينما محمود ياسين وحسين فهمى، لأبطال يسكنون بيوتا خرجت لتوها من مجلات تخصصت فى صور الأثاث الحديث، وهم لا يعملون فى مهنة محددة، وليست لهم أية ملامح سوى أنهم "يحبون على أنفسهم". كان ذلك متسقا تماما مع مفهوم تلك الحقبة فى النجاح، التى لخصها السادات بقوله: "اكسب زى ما أنت عايز ما دام بتدفع لى"!! ثم جاءت الثمانينيات بقدر من التفاؤل فى بداياتها، وظهرت سينما محمد خان وخيرى بشارة ورأفت الميهى وعاطف الطيب وداود عبد السيد. لم تكن تلك السينما سائدة بالمعنى التجارى للكلمة، لكن ما ساعدها على الوجود عامل قد ننساه أو نتجاهل تأثيره، وهو سوق شرائط "الفيديو" المتنامى آنذاك، وكان سببا فى ازدهار كمى فى صناعة السينما المصرية، تجسد فيما نطلق عليه "أفلام المقاولات"، لكن وجود هذين التيارين المتناقضين معا يشير إلى حقيقة بسيطة: لكى توفر الظروف لسينما جادة يجب أن تدور عجلة الانتاج حتى لو جاء أغلب الحصاد متواضعا.
بين نهاية عقدى الثمانينيات وبداية التسعينيات بدأ الانهيار، جاءت أزمة الخليج لتعلن عن شرخ عميق فى التوجهات العربية، اكتمل مع تداعى الاتحاد السوفييتى والكتلة الشرقية مما جعل أغلب المثقفين المصريين يكفرون بكل الأيديولوجيات (مع أن هذا الموقف ذاته نوع من الأيديولوجيا!!)، ووصلت إلينا موجة ما بعد الحداثة التى تقول أنه لا توجد أية حقيقة مؤكدة (لكن لماذا تكون تلك ذاتها حقيقة مؤكدة؟!). لقد كان ذلك كله مناخا ملائما لكى يعلن النظام السياسى المصرى عن حقيقته دون مواربة، باعتباره "سمسارا" لأمريكا وإسرائيل فى المنطقة، وكان الوجه الآخر لذلك سياقا اقتصاديا يفكك كيان "الدولة" ليستولى بضع أفراد على ما تبقى منه. فى ظل هذا المناخ الذى تواقت مع توقف سوق الفيديو، ليبدأ عصر الفضائيات التى تعرض الأفلام المصرية القديمة أو الموجودة بالفعل، تراجع الإنتاج إلى حد كبير، واختفى الفنانون السينمائيون الجادون واحدا وراء الآخر (من يتصور أن آخر أفلام خيرى بشارة التى عرضت تجاريا يعود إلى عام 1995؟!).
منذ ذلك الحين عادت السينما المصرية نصف قرن أو يزيد إلى الوراء، إلى أفلام فوزى الجزايرلى وتوجو مزراحى، إلى كشكش بك وبربرى مصر الوحيد، هذه المرة تحت ذلك الاسم السخيف السقيم: "المضحكون الجدد". وإذا لم يكن فى الإضحاك نفسه ما يعيب، فالعيب كل العيب أن يكون لديك ماضٍ طويل عريق فى اللغة السينمائية ثم تتخلى عنه بإرادتك لكى تتهته وتفأفئ بأفلام تخجل أن تراها، لكن صناعها لم يكن يخجلون أن يصنعوها!! عندما ننظر إلى الأمر اليوم نرى أنهم جزء من تجريف هذا الوطن، ماديا ومعنويا، لا فرق بين بيع مصانع الشعب ليبيعها بعد ذلك من اشتراها أرضا للبناء، أو بيع تراث السينما المصرية لأصحاب قناتين فضائيتين أو ثلاث، أو الدخول لعالم إنتاج أفلام من نوعية "اسماعيلية رايح جاى" وحتى "أبو العربى".
كنا قبل تلك المرحلة ننتظر ظهور مخرجين جدد يضخون دماءً شابة فى جسد السينما المصرية، لكن ما حدث بعدها كان مخيبا للآمال إلى حد كبير، فمعظم من بدأوا أول أفلامهم خلال العقدين الماضيين توزعوا بين اتجاهين: أفلام مغرقة فى التقعر الأجوف، وأفلام أخرى تغرق فى الخفة (لا أقصد خفة الظل)، بل لم يكن غريبا أن يبدأ الواحد منهم بالتعقيد المفرط لينتقل فى فيلمه الثانى إلى النقيض، ويمكنك على سبيل المثال أن تقارن بين فيلمى المخرج أحمد عاطف "عمر 2000" و"إزاى البنات تحبك"، وكان هذا الفيلم الثانى هو أول أفلام السينما المصرية التى تعلن دون مواربة عن "بيزنيس" صاحب الفلوس، حيث تم تصوير الفيلم فى القرية السياحية التى يملكها، بالإضافة إلى تقديم التحية له فى جملة حوار، بتعريف بطلة الفيلم بأنها "بنت كامل بيه أبو على، الراجل الطيب"، وهو إن لم تكن تعلم اسم منتج الفيلم!!
وكان كامل "بيه" أبو على نموذجا حقيقيا لمنتجى هذه المرحلة، كما كانت علاقته بالسينمائيين مثالا على حالة التجريف أو حتى التشويه. وربما كان كامل أبو على فخورا بفيلميه "أبو العربى" و"درس خصوصى"، فهما أبلغ تعبير عن دور المنتجين الجدد، فالفيلم الأول لا يفوت فرصة لكى يحول "حرب أكتوبر" لنكتة سقيمة، ولا أدرى ما يمكن أن يتركه ذلك فى وجدان الجيل الجديد الذى يسمع عنها ولم يحضرها. أما الفيلم الثانى فهو يهيل التراب على "كل" التاريخ النضالى للشعب المصرى، فكأنه محاولة لمسح هذا التاريخ من وجدان أجيال تعلمت أن تكره "الشعارات" الوطنية والقومية، بسبب المهانة التى يعيشها أبناء هذا الجيل فى حياته اليومية، والتناقض الصارخ (وأراه مقصودا) بين الأقوال والأفعال. ولكى يكتمل دور هذا الرأسمال الجديد فصولا، زعم أيضا أنه يصنع أفلاما عن "الفقراء" كتلك التى قدمها أبو على بالتعاون مع خالد يوسف، فى سلسلة "حين ميسرة" و"كلمنى شكرا"، تلك التى تجعلك تتمنى لو اختفى هؤلاء "البشر" الذين لا يستحقون الحياة، لأنهم كما تقدمهم هذه الأفلام مجرد حيوانات ليس فيها إلا كتلة من الغرائز البهيمية. وها هو كامل أبو على ينسحب من صناعة السينما بعد أن كان المسيطر على معظمها فى الفترة الأخيرة، لأنه لم يكن ينتمى بحق لهذه الصناعة ولن يدافع عنها فى محنتها، أما عن أحلام خالد يوسف معه فلعله سوف يجد بديلا، وأتركك ياعزيزى القارئ تعرف هذا البديل بنفسك كما سوف تسفر عنه الأيام القادمة.
هذه هى حكاية صناعة السينما فى العقدين الأخيرين، التى يمكن أن ألخص لك نتائجها فى سطور قليلة: تراجع على مستوى الكم والكيف معا، وسيطرة مفهوم الكسب السريع، وترويج بضاعة لبضع أشخاص يسمونهم نجوما بينما أغلبهم لا يملك أية موهبة، واضطرار معظم الفنانين إما للبقاء فى بيوتهم أو التحلى (وإن كانت كلمة غير دقيقة فى هذا السياق) بقدر من الانتهازية، وغياب متعمد عن تناول قضايا حقيقية تهم المواطن المصرى، والاختفاء وراء بعض البهلوانيات الشكلية السينمائية التى قد تغطى على غياب مضمون جاد، لكنها تفقد بريقها سريعا (وأفلام ساندرا نشأت خير مثال على ذلك).
ما الحل الآن؟ أعود إلى نقطة البداية مع مناشدة بعض "المنتجين" إياهم الدولة للتدخل لمساعدتهم. ياه!! أليست هذه هى "الدولة" التى ألصقوا بها كل عيب، واتهموها بأنها السبب وراء تخريب السينما المصرية حسب أقوالهم. دعنى يا قارئى العزيز أتفق معك على مبدأ: وهو ألا نبدا بمقولات أو مفاهيم جاهزة، يحكمها دائما المصالح الآنية ضيقة الأفق أو قصيرة النظر، كما يحدث مع أصحاب الفلوس الذين يكرهون دور الدولة عندما يعيثون فى الأرض فسادا، ثم يتملقونها لكى تقيلهم من عثرتهم. ولعل البداية هى تحديد معنى الدولة فى هذا السياق تحديدا (فمن المؤكد أنه أشمل كثيرا مما سوف نذكر)، فالدولة ببساطة هى ما لا نستطيع أنا أو أنت بمفردنا أن نقوم به، وهو الدور الذى يوازن بين كل الأطراف حتى لا يطغى طرف على آخر. لذلك فالدولة موجودة بقوة فى كل الأنظمة القوية حتى الرأسمالية منها (على عكس ما يتم الترويج له عندنا)، إنها مثلا موجودة فى قانون الضرائب التصاعدية الذى ترفضه الرأسمالية المصرية برغم أن هدفه تحقيق نوع من العدل الاجتماعى، وموجودة فى قانون منع الاحتكار الذى حاربته رأسماليتنا بشراسة، مع أنه بالنسبة للسينما أحد الأسباب القوية لازدهار صناعة السينما الأمريكية.
ربما لا يعادل دور الدولة فى السينما إلا دورها فى الدفاع عن أرض الوطن، فالسينما أحد الخطوط الدفاعية (والهجومية أحيانا) بالغة الأهمية بالنسبة لوجدان الأمة. وإذا كان علينا أن نبدأ بـ"تشخيص" المرض تمهيدا لعلاجه، فالحقيقة المريرة هى أن السينما المصرية تعانى من حالة هى أقرب للموت الإكلينيكى، أو الحركة بالقصور الذاتى حتى تتوقف أو ترتطم بما يدمرها. أما الأعراض فهى تراجع حاد فى أعداد الجمهور ونوعياته، فالزبون اليوم بدوره عابر سبيل يدخل السينما بالصدفة. والعلاج هنا يبدأ من زيادة عدد دور العرض الصغيرة، المنتشرة فى كل المدن وحتى القرى، وعلى الدولة أن تقوم بتشجيع إنشاء هذه الدور بسن كل التشريعات التى تضمن ذلك. من جانب آخر، فإن إحجام المواطن البسيط عن ارتياد السينما يعود إلى أن ميزانية أسرته لا تكفيه للطعام والدروس الخصوصية والدواء، فكيف له أن ينفق على السينما أيضا؟ والحل هنا هو إصلاح حقيقى للاقتصاد المصرى لكى يعود بالفائدة على حياة المواطن.
ها أنت قد رأيت إن إصلاحا فى جانب واحد فقط يحتاج إلى رؤية أشمل، وهو ما ينطبق على الجوانب الأخرى جميعا، التى يمكن أن نلخصها فى بعض النقاط. لابد أولا من مراجعة سياسة الإنتاج الحالية، حيث تُنفق أغلب ميزانية الفيلم على هذا النجم المزعوم أو ذاك، فاللجوء إلى الأفلام قليلة التكاليف لا يعنى أبدا انخفاضا فى الجودة الفنية، بل ربما كانت الأفلام القصيرة حلا للأزمة الإبداعية، وأرجو أن نتأمل مثلا كيف أن السينما الإسبانية تصنع عشرات من الأفلام القصيرة فائقة الجودة (يشهد على ذلك مهرجان الاسماعيلية)، وهى أفلام تشارك فى إنتاجها "البلديات" التى توازى المجالس المحلية عندنا. كما أرجو أن تقارن ما يصيبنى دائما بالمرارة حين أتذكر أن إسرائيل تقوم بإنتاج عشرة أفلام روائية طويلة كل عام، ينافس ثلاثة أو اربعة منها فى المهرجانات العالمية، ولا تزيد تكلفة الواحد منها عن مليون دولار، ويتم جمع هذا المليون من عدة جهات عالمية من خلال وزارة التعاون الدولى عندهم (أى من خلال الدولة)، وقارن ذلك بالحالة السفيهة التى قامت بها وزارة الثقافة المصرية حين أنفقت عشرات الملايين على فيلم يتيم واحد هو "المسافر"، الذى جاء مخيبا للآمال على كل المستويات.
نحن نحتاج إلى "رؤية"، وإلى "استراتيجية"، وإلى علاقة واضحة وناضجة بين كل أطراف الصناعة السينمائية. وإذا كانت "الدولة" فى المرحلة الحالية فى فترة "نقاهة" أو ولادة من جديد (ونرجو ألا نتأخر طويلا فى هذه الولادة المتعسرة)، فإننا نتمنى أن يبلور أصحاب المصلحة الحقيقة رؤيتهم، وهم ليسوا أصحاب الفلوس وحدهم، فالأهم منهم هم السينمائيون على اختلاف تخصصاتهم. ولا أدرى لماذا تتأخر نقابتهم حتى الآن فى تولى هذا الأمر، بدلا من انخراطهم فى صراعات فردية ضيقة، يستجوب الواحد منهم زميله: "هل أنت مع الثورة؟"، وإن كنت أرجو أن يكون السؤال الأهم الآن: "هل أنت مع السينما؟"!! لقد تأخرنا كثيرا عن مكانة تستحقها مصر فى مجال السينما، والحصول على هذه المكانة لن يتحقق من خلال شعارات براقة، وأكرر مرة أخرى أنه لا يكفى القول بأن "روح" ثورة يناير سوف تنقذ السينما، فلابد أن تسكن هذه الروح "جسدا"، وإلا سوف تبقى هائمة فى حالة هى بين الحياة والموت.
Subscribe to:
Posts (Atom)