Friday, December 10, 2010
فيلم "الشبكة الاجتماعية"
كثير من التواصل الإلكترونى، قليل من التواصل الإنسانى
للمخرج الأمريكى ديفيد فينشر بصمة خاصة على معظم أفلامه، تنبع من رؤية يندر أن تجدها بين المخرجين الأمريكيين، فهو ينظر إلى الثقافة الأمريكية (بالمعنى الشامل لكلمة "ثقافة") نظرة التشكك والنقد وربما المرارة أيضا. إنك تلحظ هذا بقوة فى فيلمه "نادى القتال" (1999)، حيث البطل الذى يعيش حياة أمريكية نموذجية، فمنزله يخرج على الشاشة أمام أعيننا من صفحات مجلات الديكور، مزودا حتى بالمقاييس والأرقام، لكنه يشعر بحالة من الخواء الروحى والعاطفى، ربما لأنه يعيش دائما فى خطر أن يفقد كل تلك الرفاهية فى لحظة واحدة، فتلك هى إحدى "مزايا" ومخاطر الاقتصاد "الحر". يندفع هذا البطل شيئا فشيئا إلى خلق "قرين" له، فى حالة من ازدواجية الشخصية (بالمعنى الفنى وبعيدا عن المصطلح العلمى)، وهذا القرين يعوض إحساسه بعدم الأمان وكون إنسانا "عاديا" فى مجتمع غير عادى، أو قل كونه سويا فى مجتمع غير سوى، لذلك ينشئ القرين ناديا يتصارع فيه الأعضاء كأنهم وحوش، تعبيرا مجسدا عن الصراع الاجتماعى الذى يتخفى خلف بريق كلمات مثل الديموقراطية والليبرالية، بل يذهب الأمر بقرين البطل إلى أن يسرق "الدهن" الذى يتخلص منه الأثرياء فى عمليات التجميل، ليصنع منه متفجرات يدمر بها ناطحات سحابهم!!
كانت هذه الفكرة التى تقول أن المجتمع الأمريكى يدمر نفسه من داخله سببا فى حدث غامض، اختفى أثره من على الإنترنيت لاحقا، إذ استدعت المخابرات المركزية الأمريكية ديفيد فينشر بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر، لتسأله عن رأيه فيما إذا كانت الأحداث ناتجة عن "إرهاب داخلى" يشبه ما حدث فى ولاية أوكلاهوما منذ سنوات! وفى الجانب الفنى، فإن أفلام فينشر تؤسس – من وجهة نظر كاتب هذه السطور – نوعا جديدا من النمط الفيلمى المعروف باسم "فيلم نوار"، حيث يقيم بطل يعمل فى الغالب مخبرا خاصا، لكنه كلما مضى فى التحقيق فى إحدى الجرائم تتكشف له الحقيقة المفزعة: إن العالم والمجتمع من حوله أقسى مما كان يتصور، لذلك تغرق هذه الأفلام فى الظلال تجسيدا لهذه الظلمة الروحية. وإنك إن تأملت أفلام فينشر لوجدتها بدورها تغرق فى الظلام أيضا، لكن دون ذلك العالم الروائى المصطنع (تأمل على سبيل المثال فيلمه "زودياك"- 2007)، فالظلام يخيم على الواقع الذى يعيش فيه المجتمع الأمريكى، تماما كما أن معظم مشاهد فيلمه الأخير "الشبكة الاجتماعية" هى مشاهد داخلية فى الليل الأمريكى، الذى يحتشد بصراع تهون إلى جانبه صراعات الوحوش فى الغابة.
على السطح من فيلم "الشبكة الاجتماعية" حكاية عن إنشاء موقع الإنترنيت الشهير "فيس بوك"، الذى يتيح لـ"أعضائه" التواصل، وإن شئت الدقة قل الاتصال وليس التواصل، كما أن كلمة الأعضاء تشير الآن إلى ما يزيد عن نصف مليار من البشر، لكننا سوف نتوقف عند ذلك الأمر لاحقا. الحكاية فى سطور تدور عن مارك زوكيربيرج (جيسى آيزينبيرج)، الشاب فى جامعة هارفارد، احتل العالم الافتراضى للكومبيوتر كل ذهنه، حتى أنه يخفق فى العالم الحقيقى فى أن يقيم علاقة ناضجة. إنه ينفصل فى افتتاحية الفيلم عن صديقته إيريكا (رونى مارا) فى مشهد يحمل سخرية مريرة، فهو يبدو عاجزا تماما عن أن يجد موضوعا مشتركا للحديث بينهما، بل إنه لا يعبأ بأن يهينها بشكل غير واعٍ أو مكترث بالنتائج. وحين تتركه وحيدا يعود إلى مدونته الإلكترونية وقد قرر أن يشهر بها، وفى الوقت ذاته تواتيه فكرة إنشاء موقع خاص بطلبة هارفارد، يتيح فيه للطلبة التصويت على الطالبة الأكثر إثارة، ولأنه يحتاج إلى الصور ليضعها على الموقع بسرقتها من موقع الجامعة، فإنه يستعين بصديقه وزميل غرفته إدواردو سافيرين (أندرو جارفيلد) بخبرته فى عالم لوجاريتمات الكومبيوتر.
من هذه النقطة سوف تبدأ رحلة الفتيين إلى الهوس بإنشاء موقع يظل يتسع شيئا فشيئا، يمتد من النوادى ذات العلاقة بالجامعة، حتى يصل إلى أن يكون موقعا مفتوحا للعالم كله، ويدر ربحا هائلا من خلال الإعلانات التى تعتمد على تزايد عدد زواره. سوف تتقاطع هذه الرحلة مع محاولات شبان آخرين الدخول فى "اللعبة"، التى تجمع بين المقامرة و"البيزينس" معا، بما يذكرك على الفور بفيلم تليفزيونى يحمل عنوان "فى وادى السليكون"، ويحكى عن قصة صعود بيل جيتس، لتدرك أنها فى الحقيقة (مثل أى "بيزينيس" أمريكى) ليست أبدا ناتجة عن عبقرية مزعومة، بل هى سلسلة متصلة من الخداع والسرقة والدعاوى القانونية بين مجموعة من اللصوص!!
هذا هو الأمر مع "فيس بوك"، حيث نرى التوأمين كاميرون وتايلر فينكلفوس (قام بدورهما الممثل آرمى هامر فى لقطات كومبيوترية لا تشعر لحظة واحدة باصطناعها فى الصورة أو الصوت)، اللذين يعرضان على مارك توسيع المشروع وتمويله، وهما بدورهما من طلبة هارفارد القدامى ومن عائلة صاحبة مال ونفوذ، ثم نرى شون باركر (جوستين تيمبرليك) صاحب "نابستر"، أشهر موقع فى تحميل المواد البصرية والسمعية المقرصنة من على الإنترنيت، وهو يسحب مارك إلى أرضه، بينما يبعده عن صديقه القديم إدواردو. وهنا يدخل الفيلم إلى "شبكة" بالمعنى الحرفى للكلمة، وكأن شكله يعبر عن مضمونه، ففى الشبكة الإلكترونية (الإنترنيت) تجد روابط (لينكات) ترسل بك إحداهما إلى الأخرى فى متاهة قد لا تنتهى، أو تعيدك من حيث لا تدرى إلى نقطة البداية، وذلك هو البناء الدرامى نفسه الذى يمضى فيه الفيلم: فهناك تحقيقان مع مارك، الأول بسبب دعوى مرفوعة من الأخوين وينكلفوس، والآخر من إدواردو، وإذا كان الأول يدور حول صراع مالى، فإن الآخر لا يخلو من مرارة فقدان الصداقة بسبب السعى إلى "النجاح"، وكلا التحقيقين يمضيان فى تقاطع طوال الفيلم، كل نقطة تؤدى إلى الأخرى فى شبكة متداخلة، تجعلك تسأل أحيانا: من على حق ومن على صواب؟ وإن كان الأرجح أن كل ذلك الصراع يدور حول "نجاح" عبثى لأنه يعتمد على التقاليد الأمريكية، التى تجسد بأقوى تعبير المثل المصرى: "اللى تكسبه إلعب به"!! وبعد تحقيق ذلك النجاح خواء كامل، استغراق فى الجنس والمخدرات ومراقبة الحسابات فى البنوك، أما السعادة بمعناها الأكثر بساطة فلتذهب إلى الجحيم!!
ذلك هو الجزء المظلم من اللاوعى الجمعى الأمريكى، يقبع فى الظلال الثقافية التى تنسى أو تتناسى الفرق بين الأبيض والأسود، والخير والشر، تماما كما تتجسد على الشاشة فى تلك الظلمة، لا فرق فى ذلك بين غرف الطلبة فى الجامعة أو النوادى الليلية أو الشوارع الممطرة أو البيوت المغلقة على أصحابها. وتلك هى رؤية ديفيد فينشر للمجتمع الأمريكى، التى تطرح سؤالا صارخا حول معنى النجاح ومعاييره وشروط تحقيقه، إنه مجتمع يزعم أنه يحقق "الحرية" لأفراده، بينما هو فى الحقيقة يربطهم بأغلال قوية تجعلهم يدورون بلا نهاية فى الساقية، اكسب مالا واشتر منه سلعا كمالية أو حتى ترفيهية قصيرة العمر، وإن لم تملك الآن المال فالمصارف مفتوحة لكى تقترض، وفى الحالتين (وللأسف انتقلت هذه العدوى للكثير من بلادنا) فأنت عبد لاقتصاد يعتمد على دورة رأس المال التى لا تنتهى. ومن بين هؤلاء "العبيد" قد تواتى أحدهم الرغبة فى المقامرة، بكل ما فى المقامرة من معنى، لعله يصبح "غير عادى"، ثريا، مشهورا، وليس مهما الطريق لكى يصبح ذلك كله، فذلك ضمان آخر لأن تمضى دورة رأس المال دورتها العبثية، التى يريدون لنا أن نكون جزءا منها باسم الاقتصاد الحر تارة، أو النظام العالمى الجديد تارة أخرى، لكنها فى الحقيقة تقسم البشر إلى من يملكون ومن لا يملكون، وإن كنت فى شك من ذلك تأمل ما حدث فى المجتمع المصرى خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، تحت عنوان "الإصلاح الاقتصادى، وأرجو أن يعود من يهمه الأمر إلى مقالات الدكتور فؤاد مرسى فى هذا الشأن منذ بداية الثمانينيات.
يدرك المخرج "الأمريكى" ديفيد فينشر هذه الرؤية عن مجتمعه ونحن الأكثر حاجة إلى إدراكها، إذ يترقى وزراؤنا فى مناصب فى صندوق النقد الدولى أو ما شئت من مؤسسات مالية "عالمية" لأنهم ينفذون هذه السياسة الأمريكية فى إفقار العالم ماديا وروحيا، بينما تثرى مجموعة من "المغامرين" (ولهم صفة أخرى من المؤكد أن القارئ يعرفها) على حساب الأغلبية من البشر، وسلِّم لى على الليبرالية وحرية الاقتصاد والسوق الحر!! إن تلك العبثية يبرزها فينشر فى أن الشخص الذى ينشئ "الشبكة الاجتماعية" فاشل تماما فى أن يخلق علاقة إنسانية واحدة سوية، إنه يحقق "النجاح" لأنه خلق عالما افتراضيا يشبه تماما الاقتصاد الافتراضى الذى تمثله البورصة وأشباهها (وأرجو بصدق أن يشرح لى أى متخصص ما هى تلك "البورصة" التى يراها شخصى المتواضع طاولة قمار كبرى لا تعكس أى اقتصاد أم إنتاج حقيقى، ومع ذلك تصبح جزءا من اقتصادنا وحياتنا). إنها العبثية التى دفعت بكلمات مخترعة إلى اللغة، إن أندرو يبتهج عندما تقول له صديقته: "فيس بوك مى" (أى راسلنى على الفيس بوك، فقد أصبح المصطلح من أفعال اللغة)، تماما كما تهجره صديقة أخرى لأنه لم يضفها بعد إلى قائمة أصدقائه على صفحته فى الفيس بوك!
قد تبدو هذه السطور معادية للتقدم التكنولوجى، بينما أنا أكتب مقالتى الآن على الكومبيوتر، لكنها فى الحقيقة محاولة للبحث عن المعنى فى أى تقدم تقنى، إنه وسيلة، وليس غاية، وهو أداة تساعدك على أن تعيش حياتك الحقيقة، لا أن تستغنى عنها لتعيش حياة افتراضية. وبقدر ما أن هذا التقدم يسمح بالإبداع، فإنه يتيح الابتذال، والنسخ، والمسخ، والتنفيس المرضى، وانقطاع الصلة الحميمة بين البشر. وإن كان هناك متسع وسط هذه القتامة لنكتة طريفة، فقد تذكرت الآن الرجل الأمريكى الذى وجد شابا فى جزر هاواى، مسترخيا على البحر، فوجه الرجل إليه اللوم لأنه لا يعمل، سأله الشاب: لماذا؟ قال الأمريكى: لتكسب المال، ويتسع ثراؤك، وتكون لديك شركات ضخمة، فيها مئات من الموظفين يعملون بدلا منك، لكى تستريح من بعد ذلك كله، فقال الشاب: ولكنى مستريح فعلا الآن!!
مرة أخرى إذا كان هناك فى أفلام فينشر من تشاؤم حول ذلك الصراع الاقتصادى والاجتماعى على الطريقة الأمريكية، فالهدف هو إعادة النظر فى المسلمات، والبحث عن المعنى من جديد، والعثور على الحياة الحقيقية. فى المشهد الأخير من الفيلم، يجلس صانع الفيس بوك أمام الكومبيوتر فى الظلام، طالبا بضغطة زر من فتاته القديمة أن تقبله صديقا على صفحتها، ويظل يضغط على الزر بين لحظة وأخرى لكى يجدد الصفحة، دون جدوى ... وربما سوف يظل ينتظر إلى أن تنهى حياته الافتراضية والحقيقية معا!!
Subscribe to:
Posts (Atom)