Monday, August 22, 2011
شيوخ وإعلانات
حرام والله ما تفعله فينا محطات التليفزيون، نجلس نحن فى استرخاء أمام الشاشة بينما هى تسرق منا حياتنا عينى عينك، ويمكنك أن تحسب مثلا عدد ساعات الإرسال الحقيقى وتقارنها بتلك المخصصة للإعلانات، فحلقة المسلسل قد تستغرق مثلا ساعة كاملة، لكن أكثر من نصفها مواد إعلانية تعاد وتتكرر المرة بعد الأخرى، كما أنهم اخترعوا لك طريقة جديدة فى تلخيص كل إعلان فى خمس ثوان فى نهاية الفقرة الإعلانية، كأنها المراجعة العامة النهائية التى يتأكدون بها أنك قد حفظت الإعلان عن ظهر قلب.
المصيبة أن إعلانات اليوم لا يمكن حفظها، فهى سقيمة لا تتمتع بأى خفة ظل، بينما كانت هناك فترة ذهبية اعتبرت فيها الإعلانات هى "فولكلور" الأطفال، تلك كانت الثمانينيات من القرن الماضى، حين لم تكن هناك إلا قناة تليفزيونية واحدة أو اثنتان، وكان الآباء والأمهات يضطرون إلى ترك أبنائهم فى المنزل ويذهبون للعمل، وفى تللك الساعات كان التليفزيون يقوم بدور "جليسة الأطفال"، ومن مواده تكون وعى جيل كامل سواء بالمسلسلات أو الأفلام أو الأغنيات الأجنبية، والإعلانات أيضا. كانت تلك هى فترة المشروب الذى يعلن عنه حسن عابدين فى "مسلسل" إعلانى كوميدى، ومعجون الحلاقة صاحب "الثلاثة أسباب" لاستعماله، والمبيد الذى ينتشر ويتوغل، ناهيك عن الأطعمة البسيطة التى تعلن عنها فتيات جميلات تلعبن حواجبهن وتغنين أغنية قصيرة.
استدعت نوعية البضائع المعلن عنها فى ذهنى فكرة أراها دالة، فالإعلانات فى كل فترة تشير إلى دلالات اجتماعية واقتصادية وسياسية طريفة. قارن مثلا تلك البضائع التى تستهلكها الشريحة الأكبر من الطبقة المتوسطة حتى الثمانينيات، بتلك التى انتشرت خلال العقد الماضى. لم يعد البلوبيف أو الجبن هو المطلوب ترويجه، بل السيارات فى بلد يعانى من أزمة مرور حادة، وهكذا لا تقوم الدولة بحل المشكلة حلا حقيقيا مثلما تفعل الدول التى تعرف معنى المسئولية، حين تفكر فى وسائل النقل العامة وتعطيها أولوية، لكن الدولة فى مصر ظلت طوال عقود تدير ظهرها لحل المشكلات، وتروج فى الوقت ذاته للحلول الفردية التى تزيد المشكلة تفاقما، مثلما فعلت فى أزمة الإسكان أيضا، حين تزايدت على نحو فادح وفاضح إعلانات المدن السياحية، بينما كانت وما زالت هناك الملايين التى لا تجد مأوى غير العشوائيات القبور.
إننى أنظر للإعلانات اليوم فأجد مفارقات تثير الضحك أحيانا والأسى فى أكثر الأحيان، فقد توقع الجميع انخفاضا هائلا فى نسبة الإعلان فى رمضان هذا العام، بشكل يترك تأثيرا على إنتاج الدراما التليفزيونية، وربما خفضت الوكالات الإعلانية أسعارها، لكن المحصلة فى هذا كله هو أن الإعلانات احتلت معظم ساعات الإرسال، بمواد باهتة تفتقد أى سحر أو خفة ظل، برغم التكلفة الباهظة فى صنعها، مثل إعلان إحدى شركات المحمول، التى استغلت أزمة ساويرس الذى أوقع نفسه فى مأزق توزيع نكتة سقيمة، فإذا بها تتحول إلى سلاح ضده بإهانة الإسلام (!!! إلى ما لا نهاية من علامات التعجب)، وتنتشر دعوة للناس بترك شركة المحمول التى يشارك فيها، وها هى شركة منافسة تقول لعملائها الجدد "شكرا" على تحولهم إليها، وقد استعارت لحنا من ألحان سيد درويش لتجعله المصاحب للإعلان الذى ظهر فى جزء منه مجموعة كبيرة من لاعبى ومدربى كرة القدم.
وهكذا يختلط الدين بالبيزينيس مثلما يحدث فى عالم السياسة هذه الأيام على نحو ينذر بخطر بالغ، لكننى سوف أرجئ هذا الحديث حتى آخر المقال، لنكمل معا رحلتنا فى عالم الإعلان، وإن لم نبتعد عن "الدين" أيضا، فإذا كان العقدان الماضيان هما حقبة "السيراميك" فى التاريخ المصرى (سماها الروائى صنع الله ابراهيم فى روايته "ذات" عصر "السرمكة")، فما يزال هناك جديد فى عالم السيراميك، فربما جاء الأوان لاختفاء رجال أعمال الحزب الوطنى السابق العاملين فى هذا المجال، ليحل محلهم رجال أعمال من الإخوان المسلمين، فالواضح تماما أن الإخوان ليس لديهم أى برنامج اقتصادى أو اجتماعى مختلف عن أسلافهم من الحزب الوطنى، وخطاب هؤلاء مثل خطاب أولئك، كل الفرق هو بداية الكلام بالبسملة والحوقلة، ووضع كلمة "الإسلام" هنا وهناك، أما الباقى فكله سيراميك!!
تذكرت أيضا حدوتة "عجلة الإنتاج"، التى صدعوا رؤوسنا بها وما يزالون، لقمع بذور الثورة فى وجدان الشعب المصرى، ولست أدرى فى الحقيقة عن أى "إنتاج" يتحدثون، بينما إعلانات البطاطس المقلية تطاردنى بأسماء تجارية مختلفة، وكأنها المشروع الصناعى القومى الذى سوف ينقذ مصر من الأزمة، والله يرحم أيام السد العالى، والحديد والصلب، تلك الأيام المتهمة بالشمولية لأن من كان يريد بطاطس مقلية كان يصنعها فى منزله من زيت التموين، ولا ينفق عليها الملايين كما يحدث اليوم. ولأن الشىء بالشىء يذكر فتلك النزعة الوطنية فى الأيام الخوالى تحولت على أيدى رجال البيزينيس والإعلانات إلى هزل سخيف، مثلما يحدث فى إعلان المشروب إياه الذى ما أن تتجرعه حتى تهتف بالنشيد القومى.
لكن أكثر الإعلانات سلبية بالمعنى الكامل للكلمة هى إعلانات "التسول"، التى تدعوك مثلا إلى التبرع لمستشفى بينما تعرض لك طفلا مريضا (نفس تكنيك المتسولات فى الشارع)، أو تقول لك أنك لو اشتريت السلعة الفلانية فأنت تساهم فى إدخال المياه النقية لبعض البيوت، لأن الشركة صاحبة السلعة تعدك بأنها – شخصيا – سوف تفعل ذلك، كما أن شركة شطائر النفايات الأمريكية الشهيرة سوف تساهم فى التعليم (هكذا!!)، ناهيك عن المشروع الوهمى الذى يزعم أنه يعطى الجوعى ما يسد رمقهم. تلك تجارة بالمشكلات الحقيقية للمجتمع المصرى، وهى ذات المشكلات القديمة الجديدة: الفقر والجهل والمرض، لكن بيزينيس التسول يشوه وعى الناس بها، فهو يحيل الحل إلى تبرعك أو شرائك لسلعة ما، والله وحده يعلم ماذا يفعلون بتبرعك غير إنفاق جزء منه على هذه الإعلانات، لكن الأهم هو ترسيخ مفهوم "الصدقة" فى حل المشكلات القومية، التى يجب أن تقوم بها الدولة وليس غيرها، وإن عجزت عن أن تفعل ذلك فعليها أن تتنحى جانبا وتترك غيرها يقوم بالمهمة.
ولأننا فى عصر الديموقراطية (هكذا يقولون ويريدوننا أن نصدقهم) فقد أقامت إحدى شركات المشروبات حملة للتصويت (يسمونه "الفوتينج" حتى تشعر أنك فى أمريكا!!)، ولا أدرى بالضبط والله فكرة هذا الإعلان، لكننى أراه سقيما تماما، فبالإضافة إلى أنه يدعوك لشراء المشروب، فهو يطلب منك أن ترسل رسالة بالهاتف المحمول، وهكذا تستفيد شركتان فى وقت واحد من غفلتنا، وتعمق فينا فكرة أن النهوض بالتعليم أو الرياضة أو مساعدة الفقراء سوف تأتى بأن نتجرع هذا المشروب!!
كانت الإعلانات تطاردنى على شاشات التليفزيون طوال شهر رمضان، لكن كلما حاولت أن أهرب منها كنت أجد نفسى محاصرا بهجوم آخر، هذه المرة من أصحاب اللحى الطويلة (وأحيانا القصيرة)، وليس هذا ذما فى تربية اللحية التى يربيها اليوم كل من هب ودب، لكنه نقد لمن يصور لنا أنها دليل على ورعه وتدينه، ذلك أن الله لا ينظر إلى صورنا بل إلى قلوبنا، كما أن تبجح البعض بأنه يملك "الحقيقة" حول "شرع الله" (تلك العبارة التى يستخدمونها بنزق بالغ لكنه محسوب تماما) ليس إلا تبجحا يعكس عدم فهم الآية القرانية الكريمة: "فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن اتقى" (صدق الله العظيم)، بكلمات أبسط إن علينا ألا نتصور أو نصور للآخرين أننا "أفضل" وأكثر فهما للدين، فربما كان رجل بسيط يعمل فلاحا باليومية أو كناسا أكثر تقوى من "الشيخ" الذى يظهر فى الفضائيات وقد "رسم" التقوى على وجهه، علاماتها تلك اللحية الطويلة، وزبيبة الصلاة على جبهته.
أزعجتنى تماما تلك الهجمة الشرسة من الشيوخ المزعومين على شاشاتنا، والإسلام لم يعرف فى جوهره شيوخا يزعمون أن لهم وحدهم حق الإفتاء فى كل أمور حياتنا، وقد قال الرسول الكريم: "أنتم أعلم بشئون دنياكم"، فهل ترى شيوخ الفضائيات أدرى فى هذه الشئون من الرسول عليه الصلام والسلام؟ مصدر الخطر بحق هو أن ذلك ليس فتوى فى مسائل دينية قد تقتنع بها أو تصرف النظر عنها، لكنها تدخل سافر فى أمورنا السياسية، و"غسيل مخ" للبسطاء من الناس بالمعنى الحرفى للكلمة. تأمل مثلا سحر عبارة "تطبيق الشريعة" أو "العودة إلى شرع الله"، ما يكاد الإنسان البسيط يسمعها حتى تولد فى ذهنه صورة لمجتمع يشبه "ألف ليلة وليلة"، حيث الجميع فى مرح وحبور، والسلطان (الخليفة) يتنكر فى الليل ليطوف بالأسواق ليتعرف على مشكلات الناس!! لكن هل هناك حقا شىء اسمه "الشريعة" بلا خلاف أو وجهات نظر؟ وإذا كان الأمر كذلك لماذا إذن قتل بعض الصحابة بعضهم البعض؟ لكن الحقيقة أنه لا يوجد مثل هذه "الشريعة" النقية فى كل الأمور الحياتية.
يحدثونك فى الفضائيات عن بعض تصوراتهم عن تلك الشريعة، فيقولون أنها تطبيق الحدود، وعلى الفور ينبثق إلى الذهن صورة دموية لقطع يد السارق. وهنا نتساءل: هل الحدود (أو العقوبات)هى البداية لتكوين مجتمع عادل؟ أليست ذلك هو الوجه الآخر لنفس سياسات المرحلة الفاسدة الماضية التى كانت تتصور أن حل كل شىء يبدأ وينتهى بسن القوانين، أى أن كل ما يفعله الإسلاميون هو استبدال عقوبة بأخرى؟ وإذا كان "القطع" بصورته الدموية تلك هو الضامن لتحقيق مجتمع أفضل لماذا تستمر السرقة فى مجتمعات تقوم بتطبيقه؟ وهل تنطبق هذه العقوبة على من يسرق رغيفا فقط، أم تمتد إلى من يختلس الملايين، وهو فى حكم "الشريعة" التى يتحدثون عنها ليس سارقا، لأنه أخذ من "بيت المال" الذى له فيه نصيب؟
وإذا كان هؤلاء الشيوخ يتحدثون عن ضرورة تطبيق "الحجاب" مثلا بالقوة، فذلك نموذج على الخلط الفادح الفاضح، فكلمة "الحجاب" لا تعنى فى القرآن نوعا من الملابس، وليس هناك ما يسمى رداء إسلاميا، فملابس الكفار (وأسماؤهم بالمناسبة أيضا) هى ملابس المسلمين فى بداية الدعوة، ومن المؤكد أن الرسول (ص) كان سيرتدى ملابس عصرية لو عاش بيننا، وكانت أمهات المؤمنين سوف ترتدين ملابس متزنة لا علاقة لها بما يدعو إليه الإسلاميون. كان الرسول سوف يتستخدم التليفزيون والسيارة والكومبيوتر، مثلما استخدم أدوات عصره، وإذا كان القرآن يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من رباط الخيل" فإنه لا يقصد الخيل تحديدا بالطبع. وإذا كان – مرة أخرى - الشىء بالشىء يذكر، لماذا يتجاهل الإسلاميون حديث الرسول الكريم: "أنتم شركاء فى ثلاثة: الماء والنار والكلأ"، أى فى كل مصادر الإنتاج الرئيسية؟ لكن الإسلاميين ينتقون ما يعزز سلطتهم الفاشية فقط.
كان هذا هو طابع رمضان على شاشات التليفزيون هذا العام، أراه حتى الآن منذرا بالخطر، فما نزال نعيش حالة من تغييب الوعى أو تشويهه، بين برامج استضافة أسامة سرايا ومصطفى الفقى، وإعلانات التسول، وفتاوى شيوخ العودة إلى عصر الخلاء. لا أملك إلا أن أحلم برمضان قادم أفضل وأجمل، فهل سوف يتحقق الحلم أم أنه سوف يتحول إلى كابوس؟
Subscribe to:
Posts (Atom)