Friday, July 01, 2011
من قتل سعاد حسني؟
أرجو ألا يتصور القارئ أن ما سوف يقرأه الآن هو تحقيق صحفي عن "مصرع" سعاد حسني، مثل تلك التحقيقات التي يقرأها في الصحافة الفنية من هذا الموسم كل عام، وكانت لها هذا العام مناسبة خاصة هي رحيل نجمة السينما المصرية منذ عشر سنوات تماما. الحقيقة أن سعاد حسني كان مقررا لها أن ترحل معنويا قبل رحيلها الجسماني، وهي التي اختفت عن الأنظار أو كادت في السنوات العشر الأخيرة من حياتها، لذلك من الأجدى أن يتحول سؤال "من قتل سعاد حسني؟" إلى "من قتلوا سعاد حسني؟"، و"ماذا قتل سعاد حسني؟".
مثل كل فنانات الأداء في العالم بدأت سعاد حسني مشوار الفن وهي طفلة صغيرة، وربما لم يتح للبعض فرصة للظهور إلا متأخرا، لكن سعاد جاءتها الفرصة مبكرا، ولعلها لم تكن تعي بعد ما هو الفن عندما ظهرت في البرنامج الإذاعي للأطفال "بابا شارو"، لتغني "أنا سعاد أخت القمر"، كما كان من المحتمل أن تختفي بعد أن تكبر مثلما يحدث لمعظم النجوم والنجمات من الأطفال، لكنها عادت للظهور مع أول أفلامها على الشاشة الفضية "حسن ونعيمة" (1959) من إخراج بركات.
وجه بالغ البراءة يعبر عن الفلاحة الشابة نعيمة، التي عشقت المغني القروي حسن، وبرغم حب الفلاحين للغناء فإنهم ينظرون إلى من يمارسه كمهنة باعتباره شاردا "بلا وطن"، وفي الفيلم يرد حسن على هذه التهمة: "أنا فنان، كل البلاد أوطاني". كانت تلك هي الفترة من حياة مصر والوطن العربي التي يعاد فيها النظر في العديد من التقاليد القديمة، وكأنها رحلة الخروج من الشرنقة لتطير الفراشة في أجواء العالم الحر. وكانت صورة سعاد، وأداؤها الساذج الذي لم يكن يعرف آنذاك أسرار حرفة التمثيل، تأكيدا على أنها سوف تمثل بحق روحا جديدة في السينما المصرية والعربية، وهو ما تأكد مع فيلمها الثاني، في فقرة من "البنات والصيف" (1960) في القصة الثالثة التي أخرجها عز الدين ذو الفقار، وفيها قامت بدور شقيقة عبد الحليم حافظ، التي تشجعه على أن يصرح بحبه لابنة الجيران زيزي البدراوي.
يقول البعض من النقاد اليوم أن هذا الدور لسعاد قد نجح لأنها كانت تقف في صف عبد الحليم، بينما لم يكتب لزيزي البدراوي نفس القدر من النجاح لأنها كانت ترفض حبه (!!)، وفي الحقيقة أن ذلك اختزال مخل للواقع. لقد ظهر في تلك الفترة ذاتها العديد من الوجوه الجديدة من الفتيات، وسوف نضرب فقط بعض الأمثلة هنا: زبيدة ثروت، ومديحة سالم، وإيمان، وكريمان، وليلى طاهر، وماجدة الخطيب، وآمال فريد، فلماذا حققت سعاد حسني كل هذا النجاح وفشلت فيه أخريات (نستثني نادية لطفي لموهبتها الحقيقية)؟
كان دور سعاد في "البنات والصيف" هو ابنة الطبقة المتوسطة، وكانت تلك الفترة بدورها تعطي دورا كبيرا في التطور الاجتماعي لتلك الطبقة، لتتزامن رحلة الممثلة والطبقة الصاعدتين. الآن، وعندما ترجع بذاكرتك إلى ذلك التاريخ، سوف تتأكد من أن سعاد عندما تظهر على الشاشة كانت تبعث قدرا كبيرا من الألفة والحميمية، والشعور بأنك تعرفها على نحو ما، لعلها الأخت أو ابنة الجيران أو الزميلة أو الصديقة، التي تجمع على نحو مصري وعربي خالص، بين "الشقاوة" المحببة إلى النفس، والمشبعة بالحيوية والتلقائية، وبين الخجل والحياء الرقيق.
ظلت سعاد حسني طوال الستينيات نموذجا تقلده بنات الطبقة المتوسطة، في ملابسها وزينتها وطريقة كلامها، وفي عشرات الأفلام تبلورت شخصية الفتاة خفيفة الظل، التي تتعامل مع الحياة بإيجابية دون ابتذال، وربما تكررت الشخصية معها حتى أصبحت نمطا جاهزا، بين "السبع بنات" و"شقاوة بنات"، و"الساحرة الصغيرة"، و"الثلاثة يحبونها"، و"صغيرة على الحب"، و"حلوة وشقية"، وفي عنوان هذا الفيلم الأخير تدرك ملامح الشخصية على الفور. لكن لسعاد وجها آخر، هو الذي أعطاها قدرة أكبر على الاستمرار، وهو امتلاكها موهبة "التمثيل" بكل ما في الكلمة من معنى، والأهم هو إرادتها الحديدية سعيا للإجادة الفنية.
عندما عادت سعاد لعالم القرية مرة أخرى في فيلم صلاح أبو سيف "الزوجة الثانية" (1967)، تؤكد لنا هذه الحقيقة، فما أبعد الفرق بين "نعيمة" العاشقة الساذجة، وهذه "الزوجة الثانية"، فهي هذه المرأة الناضجة التي تعمل في "التراحيل" مع زوجها الفقير، وعندما يطمع فيها العمدة الفظ ويشتهيها يجبر الزوج على تطليقها لكي يتزوج هو منها، وهنا يتجلى للزوجة الثانية وجه آخر ينضح بالمرارة والهوان بسبب مواجهة لم تخترها، فتلجأ إلى قدرتها الفطرية على استخدام دلالها الأنثوي، لتنتصر أخيرا على العمدة الطاغية.
ورويدا رويدا تتسلل ظلال قاتمة على الحياة الفنية لسعاد حسني، وربما كان هذا انعكاسا لحالة الانكسار التي أصابت الحلم المصري والعربي بعد 1967، وتجلت في عودة السينما المصرية إلى الرومانسيات المتشائمة. في فيلم "نادية" (1969)، حيث تقوم سعاد بدورين لشقيقتين متشابهتي الملامح: الأول لفتاة عابثة مقبلة على الحياة، بينما الدور الآخر للشقيقة الرصينة التي تفضل الوحدة والانزواء. ينتهي الفيلم بموت الفتاة "الشقية"، ليبدو أن سعاد، والمجتمع كله، يدخلان إلى مرحلة جديدة.
فهي تنال عقابا صارما على شخصيتها العابثة في "غروب وشروق" (1970)، حيث تحاول أن تُبقي على بعض من جاذبيتها وقدرتها على التلاعب بقلوب الرجال، إلا أن ذلك يؤدي إلى مصرع زوجها، لتضطر إلى قبول الزواج من كهل تجاوز مرحلة الشباب، لكن الزواج هذه المرة لا يمثل مشهد النهاية التقليدية السعيدة في الأفلام المصرية، بل البداية لعلاقة متوترة يخيم عليها الألم والقلق. كانت سعاد في مرحلتها الأولى هي مركز "الفعل" الإيجابي للدراما، ففتاة الشاشة الشابة مثل فتاة الواقع آنذاك كانت تبحث لنفسها عن مكان تحت الشمس، لكن مع تواري الحلم لم يعد لها سوى أن تمثل "رد الفعل"، وهو ما تجسد في سلسلة أفلام "زوجتي والكلب"، و"الاختيار"، و"الحب الذي كان"، و"غرباء"، و"أين عقلي".
ونؤكد أن "الموهبة" الحقيقية هي التي أمدت سعاد حسني بالقدرة على الاستمرار في فترة تراجع خلالها دور "فتاة الشاشة"، وأصبح مجرد فتاة جميلة تشبه نجلاء فتحي أو آثار الحكيم أو ميرفت أمين، إنها "موضوع" لمشاعر البطل، وعندما تصبح "ذاتا" فإنها تتحول إلى امرأة غاوية على طريقة ناهد شريف، التي "تطورت" فيما بعد إلى نبيلة عبيد ونادية الجندي!! ربما ظلت سعاد (ومعها نادية لطفي) قادرة على التجدد... إلى حين. حتى في فيلم "خللي بالك من زوزو" الذي بدا أنه محاولة الفتاة التي كانت تمثلها طوال العقد الماضي للبقاء على قيد الحياة، فإنه في الحقيقة كان يخفي الوجه الآخر من الصورة: من السطح ترى الفيلم تنويعا على شخصية البنت الشقية، مع مسحة أكثر إيجابية ونضجا في التعامل مع الحياة، لكن حلمها بدا في التحليل الأخير (وفي الجانب اللاواعي من الفيلم) مختزلا في الاقتران بفتى الأحلام الثري الذي يمكن أن ينقذها من الوضع الاجتماعي المتدني الذي تعيش فيه.
حتى ذلك الدور التابع للرجل، في عالم ميلودرامي تشحب فيه ملامح الواقع الحي، أصبح أكثر ذبولا مع تحول المجتمع المصري خلال السبعينيات إلى "الانفتاح" وأحلامه الفردية الزائفة، وهو ما تبدى في ""أميرة حبي أنا" و"المتوحشة". بدءا من تلك المرحلة لم يكن أمام سعاد سوى اختيار التخلي بإرادتها عن هذا العالم المصطنع، والدخول في مغامرات فنية محدودة تكون أكثر تعبيرا عن الواقع وآلياته، مثل "شفيقة ومتولي" و"أهل القمة" و"الجوع" لعلي بدرخان، و"حب في الزنزانة" لمحمد فاضل، و"موعد على العشاء" لمحمد خان.
يقول البعض أن فشل "الدرجة الثالثة" كان من بين أسباب انعزال سعاد، وربما كان في ذلك بعض الحقيقة، لكن النجاح والفشل واردان في عالم السينما، خاصة في صناعة سينمائية راسخة. إن موهبة مثلها لم تكن تتوارى أبدا لمجرد فشل أحد أفلامها، أو لأنها أصبحت أكبر سنا، وتأمل كيف أن لورين باكول مثلا ما تزال تظهر في الأفلام الأمريكية، أو أن ميريل ستريب تحصد الجوائز وتنتزعها من الممثلات الشابات. لكن هناك في مسيرة سعاد حسني عامل تدهور السينما المصرية، المرتبط بدوره بانحدار شامل في المجتمع، لذلك لم يكن لها دور بعد "الراعي والنساء"، قبل عشر سنوات تماما على رحيلها. تأمل دورها هنا، للأرملة المحرومة في صحراء الحياة القاحلة، وعبر الأحداث تراها تضحك أو تبكي، وفي الحالتين تلتمع عيناها ببريق ساحر، وتتورد وجنتاها بدماء السعادة أو تحتقنان من الألم، لكنك تشعر دائما أن هناك حزنا خفيا يسكن في أعماقها، قد يكون سببه الأسى على الماضي الجميل والخوف من المستقبل المجهول.
إنه حزن وأسى وقلق سعاد حسني وليس حزن سيندريلا كما أطلقت عليها الصحافة الفنية، لكنها مثل سيندريلا عاشت قلق الانسحاب من الأضواء والعودة إلى الظل، عندما تسمع على حين غرة دقات الساعة الثانية عشرة، التي تؤذن بأن الفرصة السحرية قد أوشكت على الانتهاء.
وكانت الساعة قد دقت قبل عشر سنوات من الرحيل عن الحياة. ربما دعانا هذا إلى التساؤل: ماذا يمكن أن تسمي السياق الثقافي والسياسي الذي يجعل موهبة مثل سعاد تنزوي عن العالم طوال تلك السنوات؟ وإذا كانت هناك شكوك حول جريمة وراء مصرعها، فالجريمة الأكبر هي غياب الوطن الذي يرعاها، والسينما التي تضعها في دائرة الأضواء، ووجودهما ليس مرتبطا بظهور "فارس الأحلام" الذي ينقذ سيندريلا وحدها، بل يعطي الفرصة لكل سيندريلا تستحق مكانا تحت شمس الحياة.
Subscribe to:
Posts (Atom)