فى المشهد الأخير من آخر أفلام محمد خان ـ حتى كتابة هذه السطور ـ تظل البطلة نجوى (غادة عادل) تردد بينها وبين نفسها رقم هاتف الفتى يحيى (خالد أبو النجا) حتى لا تنساه، وأى لقاء قادم محتمل بينهما ـ ولعل فى قصتهما بقية آتية ـ يعتمد على ذاكرتها، تلك "الذاكرة" التى سعى محمد خان فى كل أفلامه إلى أن يحتفظ بها على شرائط سينمائية، ذاكرة للمكان والزمان والمجتمع والاقتصاد والثقافة، والأهم أنها ذاكرة للإنسان فى كل هذه السياقات، كيف يشعر الناس ويفكرون ويحلمون ويتصارعون، بل كيف يتحدثون ويستخدمون تعبيرات الجسد وإيماءاته فى التعبير عن ذلك كله.
وبقدر أهمية الذاكرة فإن من المهم أيضاً أن تبقى هناك مساحة للنسيان، نعم النسيان، فبدونه سوف يتوقف الإنسان عن الحركة مع العالم الذى لا يتوقف عن التغير، وأرجو أن يتحملنى القارئ لو ذهبت للحظة قصيرة بعيداً عن أفلام محمد خان لكى نتمهل ونتأمل هذه الفكرة، التى جسدها على نحو رائع فيلم التحريك "البحث عن نيمو" الذى صنعته مجموعة شركة "بيكسار" الأمريكية، التى تتبنى ـ من وجهة نظرى ـ موقفاً "يسارياً" بالمعنى الواسع للكلمة، واليسارية هنا تعنى المحاولة الدائمة لتجاوز الواقع الراهن نحو مستقبل أكثر جمالاً وعدلاً. ففى فيلم "البحث عن نيمو" تجد السمكة الأب الذى فقد ابنه فى المحيط الواسع، ولأن "ذاكرة" الأب تجعله لا يستطيع أن ينسى أبداً آلامه عندما فقد زوجته وبقية أطفاله فى هجوم سمكة متوحشة، فإن بحثه عن الابن يصطدم دائماً بتلك الذكرى المؤلمة، حتى أنه يميل أحياناً إلى التراجع عن مهمته خوفاً أو يأساً. وهنا يظهر دور سمكة صديقة، يقابلها بالصدفة ليجدها تعانى من حالة فقدان جزئى للذاكرة، فهى سرعان ما تنسى ما حدث لها منذ دقائق معدودة أياً كان حجم الألم الذى عانت منه، لذلك فإنها تبدأ من جديد، بذاكرة بيضاء مستعدة للكتابة عليها مرة أخرى وثالثة وعاشرة، وفى كل مرة تنمحى الذاكرة وتبدو كأنها قد ولدت ثانية فى اللحظة الراهنة. وفى هذا الجمع بين الأب وصديقته، الذاكرة والنسيان، تأكيد شديد الذكاء من صناع الفيلم على أن رحلة "البحث عن نيمو" ما كان لها أن تكتمل لو كان كل منهما بمفرده، فالأب وحده سوف تعجزه الذاكرة المؤلمة الآتية من الماضى عن أن يمضى نحو المستقبل، والصديقة وحدها بنسيانها السريع سوف تسير على غير هدى وبلا هدف، لذلك فإن الذاكرة هى التى تضعنا على خريطة الماضى والحاضر والمستقبل، والنسيان هو الذى يجعلنا نحطم أسوار الماضى لنكمل طريقنا نحو المستقبل، أو فلتقل صنع حاضر جديد.
إن هذا الجمع بين الذاكرة والنسيان، أو بالأحرى التفاعل والصراع بينهما، أراه جوهر رحلة محمد خان السينمائية، متجسداً فى العديد من أبطاله تارة، وفى قدرة خان أيضاً على أن "يولد من جديد" مع كل فيلم، حاملاً معه ذاكرة من أفلامه السابقة، لكنه يحمل أيضاً ذاكرة بيضاء جديدة قادرة على الدهشة واكتشاف التفاصيل ـ كأنه لم يرها من قبل ـ لكى يتمكن من اقتناصها و "طبعها" على شريط الذاكرة الجديدة.
يروِّج بعض النقاد إلى فكرة أن محمد خان وأبناء جيله من المبدعين السينمائيين ينتمون إلى ما يسمى "الواقعية المصرية الجديدة"، وهو ما أراه تبسيطاً يتجاهل من جانب الفوارق الهائلة فى أسلوب كل منهم وطريقته فى استخدام التقنيات والجماليات، كما يتجاهل من جانب آخر دقة مصطلح "الواقعية" التى أصبحت كلمة فضفاضة منذ أن أطلق عليها جارودى "واقعية بلا ضفاف"، وإذا كان جارودى يقصد "الهدف السياسى" فإنه يبتعد عن "الهدف الجمالى"، فالسياسة فى الفن هى فى حقيقتها "سياسة الفن"، أو بكلمات أخرى أكثر وضوحاً "علاقة الفنان بمادة موضوعه" (مرة أخرى فهى ليست علاقة سياسية وإنما علاقة جمالية)، حيث على الفنان أن يحدد ـ عن وعى أحياناً، وأحياناً بشكل حدسى ـ مكانه (ولا أقول موقفه) من العالم الذى يقوم بتصويره. وإذا أخذت مثالاً يمكن أن يوضح هذه "العلاقة" على نحو أكثر اقتراباً من القارئ، فلتتصور روائياً يريد أن يحكى لنا عن شخصيات بعينها، إن "سياسة الفن" هنا هى التى سوف تحدد له إذا ما كان سوف يأخذ مكان الراوى المحايد، أو ما يطلقون عليه كلى الوجود كلى القدرة Omnipresent, Omnipotent ، فهو يعلم كل شئ عن الشخصيات مسبقاً، وكل ما يفعله هو أن يصفها لنا ويحكى لنا عن أفعالها وانفعالاتها وتفاعلها مع العالم من حولها (تأمل فى ذلك على سبيل المثال قصة تشيكوف القصيرة "موت موظف")، أو ربما يضع الكاتب نفسه مكان إحدى شخصيات الرواية ليتحدث بضمير المتكلم، ليجعلنا نرى العالم من خلال هذه الشخصية وحدها ( كما فى "زوربا اليونانى" لكانتزاكس)، أو قد يختار الكاتب أسلوب "تعدد الأصوات" لكى نسمع ونرى الأحداث ذاتها من وجهات نظر متعددة (كما فى رواية نجيب محفوظ "ميرامار")، أو ربما يجمع بين ذلك كله فى مزيج هارمونى متآلف (والنموذج الأشهر على الانتقالات فى أسلوب السرد والقفز بين الضمائر هو ثلاثية نجيب محفوظ) حتى يتشابك ضمير الغائب مع ضمير المتكلم فى سلاسة لا يكاد القارئ أن يشعر بها.
نحن فى "سياسة الفن" لا نتحدث إذن عن "واقعية" فضفاضة (فكل المدارس الفنية واقعية بمعنى ما)، والهدف من هذا الكتاب الصغير هو محاولة تلمس المدرسة الأسلوبية التى يقف على أرضها محمد خان، لكننا بالطبع لا نريد أيضاً "سجن" خان داخل مدرسة أسلوبية بعينها من المدارس الفنية الموجودة فى الكتب، فقد يضع الفنان قدماً على أرض مدرسة فنية وقدماً أخرى على مدرسة ثانية أو ثالثة أو عاشرة، وبالمقارنة مع الرواية فإن تحديد المدرسة الأسلوبية يصبح أكثر صعوبة فى الفن السينمائى (على سبيل المثال، فإن الأفلام التى تتخذ "ضمير المتكلم" فى "كل" لقطاتها تكاد أن تعد فى تاريخ السينما كله على أصابع اليد الواحدة، بينما يحتل هذا الأسلوب مكاناً كبيراً فى فن الرواية)، وفى معظم الأحوال فإن فنان السينما ينتقل من مدرسة فنية إلى أخرى بحرِّية (إن كان ذلك يتم على نحو واعٍ فإنه يصنع أسلوباً متفرداً، أما إذا تم بشكل عشوائى فإنه لا ينتج إلا خليطاً مشوشاً)، بل ربما استعار الفنان السينمائى أساليب من الفن التشكيلى والمسرح والرواية، لذلك تصبح المهمة أكثر صعوبة لكى نحاول "وصف" المدرسة الأسلوبية التى يغلب طابعها على أفلام محمد خان، وإن كان هذا هو المسعى الحقيقى وراء كتابة سطور هذا الكتاب الصغير.
وسوف يجد القارئ أننا اعتمدنا فى خوضنا هذه "الرحلة" مع أفلام خان (وكل فيلم لمحمد خان هو "رحلة" بمعنى من المعانى) على الأفلام الروائية الطويلة، لأنها أولاً أكثر اتساعاً فى أفقها بحيث تشتمل على العناصر التى تشكل عالم محمد خان الفنى، ولأن أفلامه الروائية القصيرة تأتى فى سياق "دعائى" لمؤسسة ما، برغم تأكيدنا على أنها لا تخلو من "لمحات" أصيلة من أسلوب محمد خان. كما لا يفوتنى الاعتذار للقارئ عما قد يجده من تكرار بعض الأفكار فى سياق تناولنا لفيلم بعد آخر، وهو التكرار الذى يعود إلى محاولة التأكيد على فكرة بعينها، بقدر ما يعود أيضاً إلى أن بعض أفلام خان تعتبر "تنويعات على لحن واحد"، وهو ما لا يقلل من شأنها أبداً، ولمن يشاء أن يدرك قدر "التنويعات" فى الفن أرجوه أن يعود إلى كل اللوحات التى اعتمدت عبر العصور على "تيمة" واحدة، مثل "صلب المسيح" أو طقوس العمل أو المشاهد العائلية الحميمة أو صور الزعماء والملوك، أو إن شاء فليستمع إلى مقطوعة يوهانس برامز العظيمة "تنويعات على لحن لهايدن".
لكن الاعتذار الأهم الذى أعرف أهميته (الحقيقية أو المزعومة) عند مثقفينا ونقادنا السينمائيين هو أن من المؤكد أن كثيراً من الأفكار التى سوف ترد فى هذا الكتاب الصغير سوف يختلف معها البعض ، بينما الحقيقة أن هذا الاختلاف أمر شديد الحيوية فى الفن كما هو فى الحياة، وأى ناقد ليس إلا بشراً، له أفكاره ومواقفه ورؤيته للعمل الفنى، والتى لابد أن تختلف عن رؤية ناقد آخر لنفس العمل، بل إننى أضيف "المشاعر" أيضاً لهذه العوامل التى تتحكم فى "استقبال" الناقد للعمل الفنى، حتى أن بعض النقاد الأمريكيين يذكرون فى مراجعاتهم النقدية مكان وظروف مشاهدتهم للفيلم (لذلك فإننى على سبيل المثال لا أرى الأفلام فى العروض الخاصة التى تكون أقرب فى أجوائها لحفلات أعياد الميلاد والأفراح!)، ومشاهدة الفيلم فى سينما "أوديون" تختلف عن مشاهدة نفس الفيلم فى "سيتى ستارز"، بل إن من المؤكد أن مشاهدتى لفيلم بعد عشر سنوات سوف تختلف عن مشاهدتى الأولى له، لذلك كله، وإذا كنت أختلف مع نفسى، أرجو أن يقبل الآخرون احتمال اختلافى معهم.
لقد تعودنا فى مراجعاتنا النقدية على طرق سهلة، إحداها هى أن ننتقد "حدوتة" الفيلم ذاتها، كأن نحكم مثلاً على رجل فى الفيلم تقدم للزواج من عروس ليست مناسبة له، أما الطريقة الثانية فهى الاستلطاف أو عدمه، فذلك فيلم خفيف الظل وآخر "دمه تقيل"، أما الطريقة الثالثة ـ وهى الأخطر من وجهة نظرى ـ فهى تلك التى تدعى "العلم" وتنادى بأن "الناقد قاضٍ" (يا نهار أسود! فكأن الفيلم وصاحبه متهمان ينتظران الحكم بالبراءة أو تحويل الأوراق إلى المفتى!)، وهى تتناول الفيلم بالتشريح بالمعنى الحرفى للكلمة، وتتكرر فيها عبارات بعينها مثل "أما التصوير ﻔ..."، و"أما المونتاج ﻓ..."، وأكاد أجزم بأن ممارسى هذه المدرسة لا يعلمون شيئاً حقيقياً ذا بال عن التصوير أو المونتاج أو قل أنهم أصلاً لا يحبون فن السينما!
الحقيقة ـ أو هكذا أراها كذلك ـ هى أن أى عمل فنى هو "كائن حى"، ولكل كائن خصوصيته، وعلى الناقد ـ أو المتلقى بشكل عام ـ أن يتفاعل ويتحاور بحق مع هذا الكائن حتى "يفهمه" قبل أن يقول لنا "رأيه" فيه (قال لك أنا أعرف فلان، قال لك عاشرته؟ قال لك لأ.. يبقى ما تعرفوش)، وبالطبع فإن هذه "العِشرة" خبرة إنسانية، ويجب علينا فى تعاملنا مع العمل الفنى ألا "نقتله" حتى نضعه على منضدة التشريح النقدى، لذلك فإننى لا أرى هناك أى "وصفة" أو "فورمولا" جاهزة بعينها لكتابة مقالة نقدية، فكل مقالة تأخذ بناءها من العمل الفنى ذاته، و"السَّميع" الجيد من وجهة نظرى هو الذى يقول "الله!" عندما يصل إلى السلطنة، يقولها على نفس النغمة والمقام الموسيقيين اللذين يغنى بهما المطرب.
ربما قد طالت هذه المقدمة أكثر من اللازم، لكننى سعيت فيها إلى أن "أُدَوْزِن" كما يقول "آلاتية" الفرقة الموسيقية، أى أن أعد نفسى للمقام الذى سوف يعزف عليه محمد خان أفلامه، لكننى أعيد القول بأننى أكدت بهذه المقدمة أيضاً حلمى بأن يتسع صدر القارئ للاختلاف، وإذا كان هذا الاختلاف عميقاً بينى وبينه فعليه أن يلجأ إلى "النسيان"، ويبدأ بنفسه من جديد رحلة البحث فى الذاكرة السينمائية عند محمد خان.