Friday, November 22, 2013

"ضربة شمس"...البذور السينمائية لسينما محمد خان


عندما تتأمل الآن فيلم "ضربة شمس" بعد ما يزيد على ربع قرن من عرضه، وحوالى عشرين فيلماً لصانعه محمد خان، فإنه يمكنك أن تجد فيه البذرة الجنينية الأولى لعالم محمد خان، التى سوف ينبت منها ويتفرع عنها العديد من الأفلام. وفيلم "ضربة شمس" على بساطته الظاهرة يحتوى على عشرات التيمات والموتيفات التى سوف يولد منها أفلام مستقلة بذاتها، وإن أردت تلخيص "الحدوتة" ـ التى سوف تتجمع أمامك على الشاشة كأنها قطع اللغز المتناثرة التى لن تفصح عن الصورة الكاملة إلا فى النهاية ـ فهى أن شمس (نور الشريف) كان قد بدأ حياته مصوراً فى القسم الفنى فى صحيفة، وهو الآن يعمل فى قسم الحوادث، لذلك فإنه على علاقة وثيقة بالضابط مراد (حسين الشربينى) الذى "يستخدم" شمس أحياناً (دون علمه) فى بعض القضايا، مثلما يحدث عندما يرسله ـ بطريق غير مباشر ـ لتصوير أحد الأفراح حيث سوف تجتمع عصابة لتهريب الآثار. ولأن شمس يجرى دائماً وراء "الصورة" التى تمسك بلحظات تبدو عابرة، فإنه ينجح فى التقاط صورة لأحد أفراد العصابة جميل (توفيق الدقن) الذى تحول إلى مرشد، وهو يدس ورقة إلى الراقصة نوال (نجوى فؤاد) يخبرها فيها بموعد العملية القادمة للعصابة القاتلة. بعد انتهاء الفرح يلاحظ شمس أن جميل قد ركب سيارة مع سيدة فاتنة غامضة (ليلى فوزى)، وبعد ساعات يعلم مراد أن جميل مات منتحراً، وهو مما يثير اهتمام شمس وفضوله، ليحاول أن ينبه الضابط مراد إلى أن ما جرى لجميل هو عملية قتل، لكن مراد لا يسمع له مما يدفع شمس إلى قبول دخول المخاطرة التى وجد نفسه متورطاً فيها، ومن خلال هذه "المغامرة" التى تمزج بين نمط genre "فيلم الرحلة" ونمط فيلم التشويق البوليسى، يسبق شمس دائما كلاً من العصابة والشرطة بخطوة واحدة، لكنه يدفع ثمناً باهظاً يكاد أن يكلفه حياته وحياة حبيبته سلوى (نورا)، كما يسقط ضحايا خلال هذه الرحلة من بينهم فتحى (فاروق فلوكس) زميل شمس فى الجريدة الذى يقع صريعاً برصاصات كان المقصود بها شمس، تماماً كما حدث لعضو العصابة محسن (مجدى وهبه) الذى حاول أن يسمم شمس الذى أدرك الفخ فى اللحظة المناسبة ليشرب محسن الشراب المسموم. وهكذا تمضى المطاردة التى تكاد أن تدور فى كل أنحاء القاهرة من شمالها إلى جنوبها، حتى تنتهى عند الفجر بخروج شمس وسلوى مثخنين بالجراح، ناهيك عن أسى شمس من إدراكه أن الضابط مراد كان يستخدمه كمجرد أداة، وتكون آخر لقطات الفيلم لهما يسيران فوق جسر المشاة فى ميدان التحرير الذى يكاد أن يخلو من السيارات والمارة، وتنطلق صوت يشبه آلة "الفاجوت" الموسيقية بلحن الآذان، الذى يقطعه على نحو مفاجئ أصوات متداخلة مزعجة لنفير السيارات. كثيراً ما يصرح محمد خان فى حواراته الصحفية بإعجابه الهائل بفيلم "المغامرة" لمايكلانجلو أنطونيونى، لكن خان فى أول أفلامه الروائية "ضربة شمس" يبدو أكثر تأثراً بفيلم آخر لأنطونيونى هو "تكبير" (الذى نعرفه فى مصر أحياناً باسم "انفجار")، خاصة فيما يتعلق بما تستطيع الكاميرا أن تفعله من تسجيل الأحداث بشكل خاطف على نحو يسمح بالتدخل فى مسيرة هذه الأحداث ومصائر الشخصيات الفاعلة فيها. إن شمس يلتقط صورة لورقة المرشد جميل بينما تحرقها الراقصة نوال، وهو ما يصفه شمس مرات عديدة فى انبهار: "كلمة فى ورقة قبل ما تتحرق بجزء من الثانية"، أو أيضاً قدرة الكاميرا على "عشق التفاصيل والحاجات المستخبية ورا عيون الناس"، ولتلاحظ كلمة "التفاصيل"، فتلك التفاصيل سوف تكون أهم ملامح العالم الفنى لمجمل أفلام محمد خان، خاصة تفاصيل الحياة اليومية العادية. وفى الوقت الذى نرى فيه شمس كثيراً ممسكاً بالكاميرا كأنه يمسك ببندقية (بما يذكرك بأحد شعارات المخرج الفرنسى جودار)، فإن كاميرا سعيد شيمى، وخلفه محمد خان، تبدو بدورها مصوبة تجاه الواقع الذى قد يمر علينا دون أن نلحظ تفاصيله، وهى التفاصيل التى سوف تصبح جوهر سينما محمد خان، لتكشف عما تحت السطح الساكن للواقع. لذلك لم يكن غريباً أن تنطلق الكاميرا ـ على نحو غير مسبوق بهذه الكثافة فى السينما المصرية ـ فى الشوارع، حتى أنه يمكنك أن تعتبر فيلم "ضربة شمس"، مثل العديد من أفلام خان الأخرى، "وثيقة" للعصر الذى تم تصويرها فيه (ويمكنك أن تقارن فى هذا السياق أفلاماً مثل "يوم حار جداً")، شوارع "وسط البلد"، وميدانى باب اللوق والتحرير قبل أن تتغير ملامحهما، و"مترو حلوان" القديم (من الطريف أن يكون "الكمسارى" فى المترو كمسارياً حقيقياً، كان يعرفه كاتب هذه السطور لإقامته فى حلوان وركوبه المترو خلال فترة قريبة من صنع الفيلم!)، وركاب ساعات الصباح الأولى المستغرقين فى نومهم، والذين قد تجد فيهم مجازاً بصرياً ودرامياً عن غياب "الناس" عن الجريمة التى تحدث، ومن المفارقات ذات الدلالة أن يكون الراكب المستيقظ الوحيد "أعمى"! إن أردت أن تحصى عدد الأماكن التى يوثق لها فيلم "ضربة شمس" الذى تم تصويره فى نهاية السبعينات فسوف تحتاج لعشرات السطور، غير أن ما يهمنا الآن هو أن الفيلم "يوثق" للعديد من تيمات وموتيفات محمد خان فى الكثير من أفلامه التالية، وأهمها هنا هو البطل، اللامنتمى فى الظاهر، يعشق فتاته سلوى لكنه يتردد فى الارتباط بها لأنه لا يريد أن تسجنه قيود الأسرة، لكن عشقه الأكبر للكاميرا لأنه من خلالها تستطيع "العين تشوف وتلاقى حاجة جديدة"، بل إنه يصرح بأن الكاميرا بالنسبة له أهم من سلوى ذاتها، لكنه مثل معظم أبطال خان "يتورط" بإرادته، يدفعه إلى ذلك مزيج من النزعة الاحترافية وأخلاقيات تعلى من شأن الإنسان، وهذا البطل لا يختلف قيد أنملة عن محمد خان نفسه التى "تبدو" الكاميرا للوهلة الأولى عنده موضوعية محايدة، فإذا بها تريد أن تقترب من البشر بل أن تحتضنهم أيضاً، لأنها تكتشف عن "كل" متكامل، أو كما يقول شمس: "كنت باشوف حتة من الصورة بالكاميرا، أول مرة أشوفها كاملة، كنت باشوف العالم بشكل تانى، يظهر كنت غلطان"، وهو الاكتشاف الذى يقوده إلى "ما كنتش فاكر إن فيه مجرمين بالشكل ده"، فترد عليه سلوى: "لأنك ما كنتش بتشوفهم إلا بعد ما يتقبض عليهم"، أو بالأحرى فإن الكاميرا يجب أن تقوم بالإمساك بالعالم والقبض عليه (capture التى تعنى أيضاً الالتقاط) خلال حركة هذا العالم فى تغيره الدائم الذى لا يتوقف، وهى المهمة الجمالية (والسياسية بالمعنى الأشمل للكلمة) التى لم يتخل عنها خان فى معظم أفلامه. من جانب آخر فإن البطلة سلوى تمثل إلى حد كبير معظم بطلات محمد خان، الذى سوف تكتشف رحلتك مع أفلامه أنه من أكثر مخرجى السينما المصرية وصانعيها حباً وتعاطفاً وفهماً للمرأة، التى تظهر فى الأغلب الأعم من أفلامنا باعتبارها "موضوعاً" وليست "ذاتاً"، لكن معظم بطلات خان تبحثن عن تحقق هذه الذات، كما تقول سلوى: "عايزة أكون جنبك مش وراك"، وهى تصطدم بالقيود والقيم الذكورية (العادية والمعتادة) لكنها لا تتخلى عن رجلها وعن حبها، لتقوم بدور كبير فى رحلة البطل من اللاانتماء إلى الانتماء، لذلك لم يكن غريباً أن ينتهى فيلم "ضربة شمس" بسلوى وهى تسير جنباً إلى جنب شمس، بل أن تسنده أيضاً. وكما يوجد فى عالم محمد خان رجال ينتمون إلى معسكر "الأشرار"، فإنه هناك أيضاً نساء شريرات، تتمثلن هنا فى المرأة الفاتنة الغامضة (ليلى فوزى) التى لم تنطق طوال الفيلم بكلمة واحدة، لكنها تظهر دائماً وكأنها "أيقونة" ساحرة وفتاكة معاً، أو كأنها سليلة المرأة الفاتنة القاتلة femme fatale فى نمط "الفيلم نوار"، وفى اختيار الممثلة ليلى فوزى لهذا الدور إدراك من صانع الفيلم لما يمكن أن يمثله هذا الجمال الخارق، الذى لعب دور القدر الغاشم الملتف حول رقبة البطل كأنه ثعبان ماكر فى فيلم "من أجل امرأة" (1959) من إخراج كمال الشيخ، وهو الفيلم المأخوذ عن الفيلم نوار الأمريكى "تأمين مزدوج". هناك موتيفات عابرة سوف تعاود الظهور فى أفلام خان التالية، لعل أهمها موتيفة تحول الواقع اليومى العادى شيئاً فشيئاً إلى "كابوس"، أو كما تقول سلوى وهى تحذر شمس من المضى فى مخاطرته فى مطاردة العصابة: "أنا خايفة الحكاية تتقلب كابوس"، وهو ما يحدث بالفعل، أو موتيفة الحديث الخاطف عن أخت شمس المغتربة منذ زمن التى ربما سوف تشعر بالصدمة إذا عادت واكتشفت أن شمس باع شقة أبيهما وأمهما ليأخذ شقة أخرى، تلك الموتيفة التى سوف تصبح الموتيفة الرئيسية لفيلم "عودة مواطن"، أو قراءة خاطفة لصفحة الحوادث عن زوجة اعترفت بقتل زوجها بالسم انتقاماً لسبب لا نعلمه، وربما سوف نعلمه بالتفصيل فى فيلم "موعد على العشاء"! عشرات التفاصيل التى أعشقها فى هذا الفيلم وربما سوف تجد لها ذكراً فى فصل آخر من فصول هذا الكتاب الصغير، هى تفاصيل أضفت على الفيلم حيوية ودفئاً مصريين برغم غرابة وتغريب مادة الموضوع، التى استغرقت ـ ربما أكثر مما ينبغى أحياناً ـ فى تشويق المطاردات، بإغراء التصوير فى الأماكن الطبيعية خلال النهار أو الليل، وهو الإغراء الذى سوف يتحول لدى خان إلى عشق حقيقى، ساعده بدوره على أن ينتقل من الإعجاب بأنطونيونى أو جودار (هل أذكر أيضاً فيلم "على آخر نفس"؟) إلى الانتماء القريب من الاكتمال للواقع المصرى، بكل تفاصيله الخارجية وجوهره على السواء.

No comments: