Monday, December 02, 2013

لماذا يغيب الزعماء عن السينما المصرية؟


في كل صناعات السينما الراسخة، تشكل حياة الزعماء السياسيين مادة خصبة للأفلام، ليس فقط لأن الاهتمام بهم يعكس اهتماما بالتاريخ، وإنما أيضا لأن السينما تستطيع أن تصنع من هذه المادة التي تبدو جافة قصصا "مسلية" وأعمالا ترفيهية، ولأن "الأبطال" – من كل الأنواع – هم مركز التوحد الإيجابي أو السلبي للمتفرج مع الفيلم، وبالطبع سوف يتعمق هذا التوحد مع بطل يستمد وجوده من حقيقة تاريخية. وربما اختلف تناول حياة هؤلاء الزعماء في السينما تبعا للهدف الكامن وراء صنع الفيلم. ولعل المثال الصارخ على ذلك هو أن يعود ميل جيبسون إلى حقبة تاريخية بعيدة، لنضال الاسكتلنديين ضد الانجليز، في الملحمة السينمائية التي نالت نجاحا جماهيريا كبيرا "القلب الشجاع"، وكان هدف جيبسون – أسترالي الأصل – هو تصوير النزعة الاستعمارية الانجليزية، التي خنقت إلى حد كبير وجود هوية أصيلة للبلاد التي استعمروها، بما في ذلك أستراليا. بينما جاء فيلم "لينكولن" من إخراج ستيفن سبيلبيرج، وهو الفيلم الذي حصد جوائز أوسكار عن عام 2012، ليحيي من جديد ذكرى مؤسس الأمة الأمريكية، بتفاصيل عديدة ما تزال أمريكا تحاول الإبقاء عليها حتى اليوم. وقد تكون حياة زعيم سياسي ما مادة لصنع ملحمة مأساوية، على نحو قصة آخر أباطرة الصين في فيلم بيرناردو بيرتولوتشي "الإمبراطور الأخير"، أو لعل هذه الحياة تمثل قصة مفرطة في العاطفة الجياشة مثلما هو الحال في فيلم ألان باركر "إيفيتا"، عن حياة إيفا بيرون، زوجة الزعيم الأرجنتيني خوان بيرون. كما تبرز في هذا السياق أفلام ملحمية أخرى، نالت نجاحا نقديا وجماهيريا كبيرا، مثل فيلم ريتشارد أتينبرو "غاندي"، عن حياة الزعيم الهندي الذي ترك أثرا عميقا في النضال السياسي السلمي، ودفع حياته ثمنا لذلك، بينما دفع جيفارا حياته على النقيض ثمنا للنضال العسكري ضد أمريكا، وجاءت عنه أفلام عديدة كان آخرها فيلم ستيفن سوديربيرج "تشي". من جانب آخر قد تكون سيرة حياة السياسي مثار انتقاد بالغ المرارة، كما في فيلم أوليفر ستون "نيكسون"، عن الرئيس الأمريكي الذي انتهك القانون في فضيحة ووترجيت، وفيلم ستون الآخر "دابليو" عن الرئيس الأمريكي السابق جورج دابليو بوش" ونزواته السياسية والعسكرية، أو كما في "آخر ملوك اسكتلندا" من إخراج كيفين ماكدونالد، عن رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى الأسبق عيدي أمين، المعروف عنه قسوته المفرطة في التعامل مع الخصوم. لكن المخرج الزنجي الأشهر سبايك لي يخلد ذكرى واحد من أهم زعماء حركة تحرير الزنوج في أمريكا، في فيلم "مالكولم إكس"، ليكون هذا الفيلم دراسة عميقة لفترة مهمة من نضال حركات الحصول على الحقوق المدنية والسياسية في أمريكا، وهو نضال لم يخلُ من آثار دامية، في بلد يرفع شعار الديموقراطية، ويزعم الرغبة في بسطها بالقوة العسكرية على العالم كله!! أرجو ألا تشعر بالصدمة عندما نتذكر معا أفلام نادية الجندي، وكيف ظهر فيها الزعماء السياسيون كمجرد "كومبارس"، مثل أنور السادات في فيلمي "الجاسوسة حكمت فهمي" أو "امرأة هزت عرش مصر"، فليس أمثال السادات (من وجهة نظر نادية الجندي) هم من صنعوا جانبا مهما من تاريخ مصر الحديث، وإنما بطلات نادية الجندي ونضالهن بمفاتنهن و"كيد النسا"!! لكن من الغريب أن يكون هذا هو حال بعض أفلام السينما الجادة أيضا، مثل "اسكندرية ليه"، حيث يظهر من يمثلون بعض أعضاء حركة "الضباط الأحرار" – الذين سوف يقومون بثورة 1952 فيما بعد – في خلفية الأحداث، باعتبارهم مجموعة من مراهقي السياسة، التي يمارسونها في نضال هو أقرب إلى "البلطجة"!! وفي زمن السينما المصرية المبكر، لم تطرق الأفلام سيرة حياة الزعماء التاريخيين إلا نادرا، وهي تذهب للماضي البعيد تارة في "شجرة الدر"، ليس لدراسة الفترة التاريخية ذاتها وإنما لتكرار بعض المفاهيم الشعبية الرائجة، عن تلك المرأة التي مارست السياسة بالدهاء وسط العديد من الرجال. لكن السينما المصرية لم تتناول قبل ثورة 1952 حياة زعيم سياسي واحد إلا في فيلم "مصطفى كامل"، الذي ظل حبيس العلب فترة طويلة، لأن سلطات الاحتلال رأت فيه خطرا، وإن جاء الفيلم مبالغا في النزعة الخطابية، التي تجعل البطل التاريخي "أكبر من الواقع" كثيرا، مما قد يبعد المتفرج عن التوحد معه. وربما كان حظ هؤلاء الزعماء في السينما أفضل قليلا بعد الثورة، لكنه أتى خاليا من الصدق إلى حد ما، وإن عمد إلى شكل من أشكال الإبهار الملحمي. وهكذا جاء "رد قلبي" على سبيل المثال، بالشاشة العريضة والألوان في بداية الخمسينيات، في فترة كانت هذه التقنيات جديدة حتى في هوليوود، لكن الفيلم لا يسمي أبطالا بأسمائهم الحقيقية، ويلجأ إلى رواية يوسف السباعي المفرطة في ميلودراميتها العاطفية، عن الحب الذي اشتعل لهيبه بين ابنة الباشا الجميلة، وابن "الجنايني" الذي سوف يكون أحد أعضاء جماعة الضباط الأحرار، ويبدو كأنه قد اشترك في الثورة لكي يفوز بقلب حبيبته سليلة العائلة الأرستقراطية! وفي هذا السياق أيضا يأتي "الناصر صلاح الدين"، بذات الإمكانات الإنتاجية المبهرة، لكنه خلا من الصدق التاريخي، ليبدو كأنه إسقاط فيه بعض الاصطناع على شخصية الزعيم جمال عبد الناصر. وهكذا اختارت السينما المصرية طريقا بدت ملتوية للحديث عن الزعماء السياسيين، وحتى الآن لا يعرف المتفرج ما هي الأسماء الحقيقية لأبطال أفلام مثل "في بيتنا رجل" أو "لا وقت للحب"، وهي أفلام أكثر نضجا بالتأكيد من سابقاتها، لكنك لا تدري أبدا لماذا أخفت أسماء هؤلاء الأبطال. وفي حالات نادرة، كانت السينما المصرية تتناول أبطالا عربا من خارج مصر، ولم يكن ذلك إلا في مرحلة ازدهرت فيها النزعة القومية، ليأتي فيلم "جميلة"، عن تلك البطلة الجزائرية التي أصبحت أيقونة للمقاومة ضد المستعمر، أو فيلم "عمالقة البحار"، عن ضابط البحرية السوري جول جمال، الذي ضحى بحياته من أجل الدفاع عن مصر خلال العدوان الثلاثي. وفي فترة متأخرة جدا عادت السينما المصرية بفيلم عن عبد الناصر وآخر عن أنور السادات، وكان هذا الفيلم الأخير "أيام السادات" أقرب لاستعراض الممثل أحمد زكي لقدراته في "التقليد"، بينما لم يترك الفيلم ذاته أثرا حقيقيا على فهم المتفرج للرجل أو الرئيس، لأنه في مجمله كان من وجهة نظر السادات نفسه عن نفسه، وليس دراسة فنية أو سياسية للفترة ورجالها. ومن الغريب أن أحمد زكي كان قد سبق له تجسيد شخصية عبد الناصر في فيلم "ناصر 56" بقدر كبير من النجاح، وكان السبب في هذا النجاح هو سيناريو محفوظ عبد الرحمن، الذي ابتعد عن تصوير حياة هذا الزعيم "من الجلدة للجلدة"، بل اختار شهورا قليلة من حياته السياسية، منذ تأميم قناة السويس الذي أثار عدوانية القوى المستعمرة. إنك هنا أمام "بطل" بمعنى الكلمة، ليس لأنه أكبر من الواقع، وإنما لأنه جزء من هذا الواقع، يتفاعل معه بكل لحظات الألم والانتصار. ولن يغيب عن ذهن المتفرج مشاهد قلق الزعيم في وحدته، وحيرته بين أن يخوض الحرب أو يتراجع عن قرار التأميم، لتزوره أم ريفية عجوز، هي في الحقيقة من بنات خيال المؤلف، لكنها تجسد الكتلة الرئيسية من الشعب المصري، وتحثه على مواصلة النضال. لم يستمد فيلم "ناصر 56" قيمته من قامة الزعيم وحده، بل من التناول الفني الناضج لهذه الشخصية، ويمكنك أن تقارن هذا الفيلم بآخر تناول حياة الرجل في فيلم "جمال عبد الناصر"، للمخرج والمنتج أنور القوادري، الذي جند إمكانات هائلة لفيلمه، لكنه انتهى إلى شحوب الصورة، لأنه لم يتمتع بالصدق أو النضج. لكن ذلك العدد القليل جدا من الأفلام التي تناولت صورة الزعماء السياسيين على الشاشة المصرية، يشير مرة أخرى إلى أن صناع أفلامنا يرون هذا الفن مادة للتسلية وحدها، ولا يلتفتون إلى أهمية الرسالة التي تحملها هذه الأفلام، حتى أن بعض المؤلفين والمخرجين يسخرون من مجرد تعبير "الرسالة" في أحاديثهم الصحفية، وفي هذه السخرية ذاتها رسالة واضحة تماما بأن السينما المصرية ما تزال تعيش مرحلة الطفولة، ولا يبدو في الأفق أي طريق للنضج!!

1 comment:

ahamadalex said...

جبت من الآخر يا ابا خالد..
السينما المصرية ما تزال تعيش مرحلة الطفولة
ودمتم