نحن نتصور غالبا أن مشهد ظهور عناوين الفيلم، التي تحمل
أسماء المشاركين فيه، ليست إلا فرصة من الزمن حتى يجلس المتفرجون في مقاعدهم، ويتوقفوا
عن الثرثرة، لكي يبدأ بعدها الفيلم ذاته، ولعل ذلك يرجع في الأغلب إلى ما تعودنا
عليه في أغلب أفلامنا من أن هذا المشهد يمكن عدم الالتفات إليه، لأن
"الفيلم" لن يبدأ إلا بعده، غير أن الحقيقة أن كثيرا من السينمائيين
يتخذونه مفتاحا لمعنى الفيلم كله، وكأنه الوسيلة التي تجعلك قادرا على فك شفرة ما
تراه.
وسوف نضرب هنا أمثلة عديدة، من أفلام أجنبية وعربية،
استخدمت مشهد نزول العناوين بقدر كبير من الذكاء، الذي قد يصل في بعض الأحيان إلى
التلاعب بعلامة الشركة المنتجة، مثلما هو الحال في فيلم "مولان روج"،
فالعلامة تتحول إلى ستار، ينفرج لكي يبدأ "العرض"، لأن الفيلم ذاته يدور
في عالم الاستعراض. وفي فيلم "اثنا عشر رجلا غاضبا"، الذي يحكي عن مداولات
فريق المحلفين في قضية قد تنتهي بالحكم بإعدام شخص لعله يكون بريئا، تأتي اللقطات
الأولى لتصور مبنى المحكمة الذي يبدو عملاقا بفضل زاوية التصوير السفلية، وترى
المتهم في القفص كأنه طائر حببيس، ويدخل المحلفون إلى قاعة المداولة الضيقة
الخانقة، فهنا سوف يتحدد مصير حياة إنسان.
أما في "سائق التاكسي"، الذي يحكي عن سائق في
مدينة نيويورك، مضطرب نفسيا ويرى العالم مشوها بعد عودته من حرب فييتنام، تنزل
العناوين ونحن نرى المدينة من خلال زجاج السيارة الأمامي، الذي ينهمر عليه المطر
فيحول مرأى كل شيء إلى بقع لونية تجريدية متنافرة. وفي "دوار" يبدأ
الفيلم مع صورة مكبرة جدا لحدقة العين، تتحول استدارتها إلى دوامة، تعبيرا عن عالم
الفيلم الذي يدور حول اضطراب الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم، أو بين الرؤية
والخيال. وأخيرا، وفي فيلم أكثر معاصرة، هو "500 يوم مع سمر"، تصحب
العناوين مشهدا يحكي عن فتى رومانسي تربى على الأغنيات العاطفية، عاش أياما مع
فتاة نشأت في أسرة مفككة، وهي بقدر حبها لشعرها الطويل، فهي لا تتردد لحظة واحدة
في أن تقصه إذا حلا لها ذلك، وكأن الفيلم يمهد للعلاقة بين الشاب المتمسك بحبه،
والشابة القادرة على إنهاء علاقتها به في أي لحظة.
ربما لا تعرف السينما العربية في أغلب الأحوال مثل هذا
التقديم لموضوعها من خلال مشهد نزول العناوين، لكن هناك أيضا العديد من الأفلام
التي حاولت – بقدر متفاوت من النجاح – أن تستخدم هذا المشهد. ففي "السوق
السوداء" على سبيل المثال نرى العناوين مع مشهد لأرض طينية سوداء تحولت إلى
وحل، تغوص أو تكاد أن تنزلق عليها الأقدام. وفي "ليلة الحنة" تنزل
العناوين على لقطة واحدة طويلة ملتقطة من سيارة لشوارع القاهرة، بينما نسمع على
شريط الصوت كلمات عن أن الفيلم سوف يأخذنا إلى حدث من واقع الحياة، لتنتهي اللقطة والعناوين
معا باصطدام السيارة وهي وسط حي شعبي، حيث تدور الأحداث حول المصادفة التي أدت إلى
علاقة البطل الشاب الثري (كمال الشناوي) بابنة الحي الفقيرة (شادية).
وكثيرا ما يستخدم يوسف شاهين مشهد نزول العناوين بقدر
كبير من الاختزال والغموض، لكنه يحمل إليك شحنة وجدانية تمهد للدخول إلى عالم
الفيلم. في "الاختيار" مثلا، حيث الفكرة الرئيسية عن ازدواج في شخصية
البطل (عزت العلايلي) يصل إلى درجة التناقض، نرى العناوين على صورة لوجهه ونقيضها
السلبي (النيجاتيف)، بينما تُرسم خيوط تتحول إلى شبكة يختفي وراءها وجهه. وفي
"عودة الابن الضال" مقدمة أكثر غموضا، حين نرى مهرجا (علي الشريف) يضع
الأصباغ على وجهه بينما يتطلع إلى مرآة، لينفجر في البكاء، ولعلك تجد تفسيرا لهذا
المشهد في أن الفيلم تتم روايته على لسان المهرج، الذي يبدو تجسيدا لصانع الفيلم
ذاته، ويُفترض فيه أنه سوف يُسليك بحكايته، لكنها حكاية لا تبعث على البهجة، بل
على الحزن العميق.
وفي فيلم صلاح أبو سيف "الزوجة الثانية"، ترى
تنويعا آخر على فكرة "الفرجة"، هذه المرة ليس من خلال المهرج، وإنما من
خلال "صندوق الدنيا"، الذي يحتوي على رسوم تقدم لك شخصيات الفيلم
وعلاقاتها، فاطمة الفلاحة الفقيرة (سعاد حسني) وزوجها أبو العلا عامل التراحيل
(شكري سرحان)، ثم العمدة (صلاح منصور) الذي يتشوق إلى أن يكون له ولد يرثه. وهذه
الرسوم استخدمت مرة أخرى في "شيء من الخوف"، مع موسيقى مصحوبة بأصوات
الأنين والتوجع، تمهيدا للدخول إلى عالم قرية يعاني أهلها من تسلط عمدتها. وبقدر
كبير من تسليط الضوء على فكرة الفيلم، يصحب نزول عناوين "حياة أو موت"
لقطة لبندول الساعة وهو لا يتوقف عن حركته، تعبيرا عن السباق مع الزمن. أما
"إشاعة حب"، فتنزل عناوينه مع انتقال سريع لهمسات وثرثرة بين عدد من
النساء، ثم لقطة عامة للمدينة، التي سوف تسيطر عليها هذه الشائعة الكاذبة، وتتحول
إلى كابوس حقيقي لا يخلو من فكاهة.
لكن البراعة الأكبر تتجلى في "مشهد ما قبل نزول
العناوين"، الذي يستخدمه بعض المخرجين كنوع من الموضة أحيانا، مثلما هو الحال
في "أرض النفاق"، حيث يمتد المشهد إلى ما يقرب من خمس عشرة دقيقة، تصور
موظفا مقهورا (فؤاد المهندس) في عمله وبيته معا، ليمضي على غير هدى لينتهي به
المطاف إلى كوخ في الصحراء، حيث العطار الذي يبيع نباتات وأعشابا للأخلاق. كما قد
يأتي مثل هذا المشهد بالفكرة الرمزية في الفيلم، على نحو ما نرى في فيلم
"عزيزة"، الفتاة التي تعمل راقصة في حانة بأحد الشوارع الجانبية، وهي
مهددة بـ"البلطجي" (فريد شوقي) الخارج لتوه من السجن، لكن الشاويش حسن
(عماد حمدي)، رمز السلطة، يقف في وجه المجرم، لكي يحمي الفتاة وينقذها من هذا
الهوان.
ولعل من أهم الأمثلة على استخدام مشهد ما قبل نزول
العناوين، هو بداية فيلم "السيد البلطي" لتوفيق صالح: عائلة صيادين يدب
بين أبنائها الخلاف، بينما تُرجع الأم ذلك إلى غياب الأب راعي الأسرة السيد
البلطي، الذي خرج يوما إلى البحر ولم يعد قط، ويبدو أن الجميع في انتظار عودته،
التي لن تحدث أبدا، حتى تُحل مشكلاتهم. أما في "اللص والكلاب"، يعرض لك
كمال الشيخ مشهدا للص (شكري سرحان) الذي يقع فريسة لوشاية صديقه المقرب، وزوجته
الخائنة، اللذين ارتبطا بعلاقة سرية، وكأن الفيلم هنا يشير لك إلى أن الجريمة ليست
فقط فيما ارتكبه اللص، وإنما أيضا في خيانة الكلاب.
لكن أطرف هذه المشاهد في السينما المصرية هو مقدمة فيلم
"بين السماء والأرض"، إننا نرى القاهرة من بعيد ثم من خلال لقطات أقرب،
والناس يعيشون في يوم قائظ حار من أيام الصيف، هناك موظف يرتدي الطربوش ويحمل
بطيخة ويبدو كأنه يعاني للعودة إلى منزله، وأناس يتدافعون ليرووا عطشهم من
"قلل" على الرصيف، وعربة رش المياه في الشوارع سعيا إلى تلطيف الجو،
ورجل يحمل لوحا من الثلج، ويجري خلفه طفل "يصطاد" قطرات المياه
المتساقطة منه، ثم لوح الثلج في قدرة بائع "العرقسوس"، والجو الخانق
الذي يدفع الناس أحيانا إلى الشجار، ربما دون سبب قوي، أو إلى النوم في القيلولة،
لتظهر امرأة فاتنة (هند رستم) يلاحقها رجل متحرش حتى باب مصعد مزدحم، والطريف أن
الرجل لا يستمع لنصيحة التعليق على شريط الصوت، بأن من الأفضل أن يتوقف عن
الملاحقة، ويشيح بيده لنا وهو يمضي، بينما لا يعلم أن هذا المصعد سوف يشهد أحداثا
تكاد أن تلخص كل وقائع الحياة، حين يجتمع فيه بالمصادفة عدد من الناس، ويتوقف بهم
"بين السماء والأرض".
إن مشهد العناوين، أو حتى المشهد الذي يسبق نزولها، ليس
مجرد غلاف لا ينبئ عما بداخل كتاب، بل هو الباب الذي يفضي بك إلى عالم الفيلم،
ويؤسس لأجوائه النفسية، وأفكاره الأساسية، لهذا علينا أن نحرص على مشاهدته بعين
واعية، فالحقيقة أنه من أكثر مشاهد الفيلم أهمية، ولعل صناع الأفلام يدركون ذلك
أيضا.