لم تتوقف السينما المصرية طويلا أمام الطريقة التي يتم
بها "صناعة المجرم"، بقدر ما توقفت عند "الأكشن" ومعارك إطلاق
الرصاص ومطاردات السيارات، لكنها بدت أقرب للتعاطف الصريح مع شخصية أخرى تبدو
بدورها متعلقة على نحو ما بالعالم الإجرامي، وهي شخصية "الفتوة"، ولعل
ذلك يعود إلى تراث قديم وعريق في أدبنا الشعبي، فعالم الشطار والعيارين يمتد
بجذوره في ذاكرتنا الجماعية، وهؤلاء هم الخارجون على القانون عندما يكون القانون
ظالما، وأفعالهم الإجرامية تبدو كأنها الوسيلة لإعادة الحق إلى نصابه.
من هنا نبدأ
بالتمييز بين المجرم والفتوة، فإذا كان الأول يمثل خروجا على القانون لتحقيق حلم
فردي خاص بالمجرم ذاته، فإن الفتوة يخرج على القانون لأنه يسعى لخير الآخرين
المستضعفين، وبينما يعتمد المجرم في الأساس على قوته البدنية العنيفة، فإن الفتوة
يملك أولا قوة ذهنية ونفسية وأخلاقية تجعله شخصا "أكبر من الواقع"
بالتعبير الدرامي، حتى أنه يكتسب أحيانا ظلالا فلسفية كأنه يمثل "العدل"
المفقود الذي يحلم به الفقراء. وفي الوقت التي تسير فيه رحلة المجرم بشكل نمطي من
الصعود إلى الهبوط، ويسود فيها الشر، فإن رحلة الفتوة قد تبدأ بالفشل بما يستلزمه
الاستعداد لمواجهة الخصوم، ونادرا ما يلجأ فيها الفتوة للشر، وهي تنتهي في الأغلب
نهاية متفائلة تعلن انتصار الخير.
من السهل إذن أن يتوحد المتفرج مع الفتوة بينما يجد
صعوبة في التعاطف مع المجرم. لكن الفتوة لم يظهر في السينما المصرية إلا في منتصف
الخمسسينيات، عندما بدا أن هناك أملا في أن يجد المواطن العربي لنفسه مكانا تحت
شمس الحياة، وانتزاع هذا المكان بالقوة إن لزم الأمر، غير أن أشكال الفتوة في
السينما قبل ذلك كانت تنتمي إلى ملاحم قديمة وظيفتها إثارة الحنين إلى ماضٍ قديم،
مثل سلسلة أفلام "عنتر بن شداد"، ولم يبدُ أن هناك صورة أكثر معاصرة
للفتوة إلا مع سيناريو نجيب محفوظ لفيلم "فتوات الحسينية" (1954)، ومن
الجدير بالذكر هنا أن الفتوة ظهر في أفلام محفوظ قبل أن يظهر في أدبه.
بحث نجيب محفوظ في الأنماط السينمائية عن معادل هوليوودي
للفتوة، ووجده في نمط أفلام "الويسترن" أو ما نطلق عليها أفلام
"الشجيع"، فهي بدورها تتحدث عن بطل فرد، يحمل قيمة أخلاقية متحضرة،
تختفي تحت مظهره الخشن وسرعته في إطلاق الرصاص، وهذا البطل "الكاوبوي"
أقرب إلى أن يكون أسطورة منه إلى كونه حقيقة تاريخية، فإذا كان "الغرب"
الأمريكي قد تم غزوه واستيطانه بإبادة الهنود الحمر، الشعب الأصلي لأمريكا، فقد
تحولت عملية الإبادة إلى "حدوتة" متخيلة، بطلها يذهب إلى أرض برية، ومدن
حدودية، يسود فيها اللا قانون، عناصرها الدرامية صحراء قاحلة، وهنود يختبئون خلف
التلال، ومدينة صغيرة يتجمع فيها شذاذ الآفاق، وحانة تبدو كأنها مكان اجتماع سكان
المدينة من المجرمين، ولا يخلو الأمر من امرأة أرغمتها الظروف على الحياة في هذا
المستنقع، ليأتي البطل لينقذها وينقذ معها الفقراء، ويتخلص من الأشرار البيض
والهنود على السواء، ويسود العدل أخيرا ليرحل البطل فوق حصانه عند الغروب كأنه
ذاهب إلى مدينة أخرى ليكمل مهمته الأخلاقية السامية.
الفتوة هنا فارس جوال يحمل ظلالا من أسلاف قدامى، والفرق
هو أنه يستخدم مسدسا وليس سيفا. وظهرت لهذا الفارس نسخ سينمائية عديدة، بدءا من
جون وين وجاري كوبر اللذين تكاد نجوميتهما تقتصر على أداء شخصية الشجيع الرومانسي،
لكن الصور التالية جاءت أقرب إلى "الواقعية" إن جاز التعبير، خاصة مع
كلينت إيستوود في أفلام الويسترن الإيطالية من إخراج سيرجي ليوني، ففي أفلام مثل
"من أجل حفنة دولارات" أو "الطيب والشرس والقبيح" تزداد
الحبكة تعقيدا، ولا يكاد البطل أن يخلو بدوره من منافع انتهازية، كما ساعدت
السينما ذات الشاشة العريضة آنذاك على الاهتمام باللقطة القريبة (كلوزاب) التي لم
يكن لها وجود من قبل في هذا النمط من الأفلام، بما أتاح اقترابا أكثر من العالم
النفسي للشخصيات.
ومع إيستوود مخرجا هذه المرة أصبح نمط الويسترن أكثر
قتامة في عالمه، كما في فيلم "الذي لا يمكن غفرانه"، حيث تمتزج خيوط
الخير والشر، كما ظهرت أفلام "ويسترن" تعيد إلى الهنود الحمر حقا
مغتصبا، كما في فيلم "الرقص مع الذئاب"، من تمثيل وإخراج كيفن كوستنر.
في أفلام فتوات نجيب محفوظ أصبحت المدينة
الحدودية حارة شعبية تكاد أن تكون عالما مستقلا بذاته، وهناك دائما الحانة أو
"البوظة" حيث تحدث المواجهات بين الفتوة والأشرار، وما تزال هناك امرأة تكون
في الأغلب مغنية الحانة التي تضطر مرغمة على البقاء في هذا العالم، لكن الفتوة سوف
ينقذها في النهاية عندما يتخلص من الأشرار ويعيد العدل إلى الحارة. وهذا عالم ليس
له زمن محدد، خاصة أن الفتوة يحارب فيه مستخدما سلاحا شبه أسطوري هو
"النبوت"، ويقول محفوظ أنه استمد هذه الصورة من أيام طفولته في بداية
القرن العشرين، قبل أن تمد "الدولة" سطوتها على كل البلاد، وعندما كانت
هناك "حارات" منزوية لها قانونها وفتوتها الخاصان بها.
اكتمل هذا العالم الأسطوري عند محفوظ مع ملحمته الروائية
"الحرافيش"، التي تمتعت بخمسة أو ستة معالجات سينمائية، منها
"التوت والنبوت"، و"المطارد"، و"الحرافيش"،
و"أصدقاء الشيطان"، و"الجوع". وكان هذا الفيلم الأخير هو
المعالجة الأرقى سينمائيا، أولا لأنه أعاد صهر العديد من خيوط العمل الأدبي،
وثانيا لأنه تأمل فكرة "الفتوة" ذاتها، وقال إنها لا تكفي ولا ينبغي لها
أن تكفي لإقامة العدل، لأن الفتوة العادل سوف يتحول حتما بسبب سلطته المطلقة إلى
طاغية ظالم، لذلك أعاد الفيلم حق إقامة العدل للجماهير ذاتها.
على هامش فتوات نجيب محفوظ وأشباههم، ظهر فتوات آخرون
كانوا يعتمدون فقط على القوة البدنية، مما أبعدهم عن فكرة القوة النفسية والأخلاقية،
ومن هذه النوعية ظهر عادل إمام في ثوب "شمس الزناتي"، المقتبس عن فيلمين
أمريكي وياباني، ويحكي عن قرية تعيش تحت وطأة عصابة شريرة، فتستعين بمجموعة من
المقاتلين المأجورين!! كما أدى بعض نجوم رياضات القوة الجسمانية رغبة في اصطناع
أفلام على مقاسهم، مثل يوسف منصور في رياضة "الكونج فو"، في أفلام بالغة
التواضع تقلد سينما هونج كونج وتايوان، ومثل الشحات مبروك بطل كمال الأجسام، الذي
لن يبقى له في ذاكرة السينما إلا فيلم "المرشد" عن سيناريو وإخراج
ابراهيم الموجي، الذي حاول أن يُضمّن الفيلم الجماهيري رسالة سياسية عن ضرورة توحد
المقهورين ضد السلطة الطاغية.
فيلم واحد وحيد اهتز فيه الخط الفاصل بين الفتوة
والمجرم، هو "الجزيرة"، يلعب فيه أحمد السقا دور فتوة القرية الذي
تتلاعب به الشرطة، لكنه يقرر الاستقلال عنها، ويعلن جملته الشهيرة: "من
النهارده مفيش حكومة... أنا الحكومة". وبرغم أن الفيلم دار في خطوط درامية
عديدة، بين حواديت الانتقام وقصة الحب على طريقة روميو وجولييت، ناهيك بالطبع عن
"الأكشن" الذي يعشقه أحمد السقا، فقد أشار الفيلم إلى الحقيقة البسيطة
والمريرة في آن واحد، فإذا كان المجرم صنيعة نظام اجتماعي خانق، يعد بحلم الصعود
لكنه لا يتيحه، فيمضي المجرم في طريقه الخاص، فإن الفتوة بديل عن غياب الدولة
ذاتها، ووجوده ليس دليلا على العدل بل على افتقاده. فهل يغيب الفتوة في السينما
يوما لأننا استطعنا الاستغناء عنه في الواقع والحياة؟
No comments:
Post a Comment