Friday, February 18, 2011
تأملات نقدية فى الثورة المصرية
لا شىء يولد من لا شىء، ذلك أحد قوانين الوجود والتاريخ، والواقع الذى يولد الآن هو ابن واقع ولد قبل عقود، وهو الذى سوف يلد بعد عقود أخرى واقعا جديدا. لعلى أجازف الآن بالخروج عن التيار السائد الذى يحتفى بثورة الشعب المصرى، ويردد أقوالا بأن مصر قبل 25 يناير غيرها بعدها، وأن "الشباب" أكثر حكمة من الشيوخ، فبرغم ما فى هذه الأقوال من بريق فإنها تنذر بالابتعاد عن النظرة التاريخية التى تضع الأمور فى سياقها. ولا أدرى إن كان من الأمور الملحة أن يدعى أحد أو جيل أو فصيل أو فئة أنهم وحدهم أصحاب الثورة، وبالتالى فهم الأولى باغتنام مكاسبها. فمن السابق لأوانه بكثير أن نتحدث عن غنائم (وليس هناك أسوأ من الحديث عن الثورة بهذا المفهوم)، ناهيك عن اعتقادى الذى أكرره مرة أخرى: لا شىء يولد من لا شىء.
نعم، لم يستطع أى منا أن يتنبأ بأن تحدث الثورة على هذا النحو الجارف، وأن تنتصر الإرادة الشعبية والسلمية على الأدوات القمعية والفاشية لنظام كان قد قرر أنه لن يسلم الوطن لأصحابه إلا محترقا، لكن هذا "العناد" الغبى والأبله من جانب النظام قابله "إصرار" عاقد العزم من جانب الجماهير. وبرغم عدم قدرتنا على التنبؤ بما حدث وما سوف يحدث، فإننا نستطيع على الأقل تحليله وقراءة ما يمكننا أن نفعل فى المستقبل القريب.
يحلو للبعض منا – خاصة من جيل الكهول والشيوخ - أن يعترف فى نوع من المازوكية بالتقصير، وبالإذعان لسلطة قمعية مارست كل أنواع المهانة والهوان للشعب. لكن هل بمثل هذه البساطة ننسى كيف انتهى بنا الأمر إلى ذلك؟ إننا لو نسينا فسوف نتعرض مرة أخرى لنفس ما تعرضنا له. وإذا كنت لا أدعى أبدا فهم السياسة، كما أننى لم ولن أفكر يوما فى ممارستها والانخراط فيها، فقد كنت على الأقل "شاهدا" على الفترة التى تعرّض فيها الشعب المصرى لمؤامرة بالمعنى الحقيقى للكلمة، برغم أن البعض منا كان يسخر من اللجوء إلى نظرية المؤامرة، وإن كان هذا ذاته جزءا من مؤامرة.
سوف يحكى التاريخ يوما، وبقدر أكبر من الحياد، عن هذه الأجيال السابقة واللاحقة، ويربط الأحداث ببعضها فى سياق متصل، وهذا ما أحاول أن أفعله الآن دون الزعم بأننى أملك فهما جاهزا له، بل إن كتابتى هذه ليست إلا محاولة للفهم، ولعلها تنجح أو تخفق، لكن ذلك لا يثنينى عن المحاولة.
إننى أتذكر الآن كيف تمت سرقة انتصار أكتوبر، على الأقل فى قدرته على إعادة الإيمان لنا بقدرتنا على الفعل، ليسلِّم نظام السادات إلى أمريكا "كل أوراق اللعبة"، ويقنعنا بدور المتفرج على لعبة القمار السياسية بأقدارنا. ولأن السياسة وحدها لا تستطيع تحويل مجرى الصراع بيننا وبين عدونا الأول إسرائيل، على الأقل بين عشية وضحاها، فقد استخدم السادات ووريثه مبارك سلاح الاقتصاد ليجعل الشعب المصرى يركع ويذعن، ويبتلع الهزيمة مرة بعد أخرى.
وإذا كانت الأوهام التى حاول النظام إشاعتها بيننا قد نجحت فى ذلك الحين فى التأثير فى قطاع كبير من أبناء جيلى، فإن هذه الأوهام ما تزال سائدة بين الجيل الشاب الذى يحاولون تحجيمه الآن من خلال تضخيمه بالقول بأنه الذى قام بالثورة وحده. من هذه الأوهام وُضع كل التاريخ المصرى (منذ قيام ثورة يوليو) فى سلة واحدة، لا فرق بين نظام عبد الناصر الوطنى ونظام السادات ومبارك القائم على التبعية والقيام بدور "السمسار" لأمريكا وإسرائيل. أضف إلى ذلك أيضا وهم أن ضعف الاقتصاد المصرى نتج عن حروبنا مع العدو الصهيونى، وإيهام الأجيال الشابة – التى لم تحضر فترة الصراع – بأن مصر كانت خرابا آنذاك.
إننى لا أقول ذلك تمجيدا لفترة عبد الناصر، فالتاريخ لا يعود أبدا إلى الوراء، وسياق الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى يختلف بالتأكيد عن السياق المعاصر، وبعض أحلامنا الماضية تختلف عن أحلام الجيل الشاب، لكن ما أريد أن اقوله هو أننا فرطنا فى "الثوابت" التى بدأت حتى قبل عبد الناصر ففقدنا الاتجاه، وأرجو أن نستعيده مرة أخرى لنصنع المستقبل على أرض راسخة.
فقد جيلى الاتجاه لأنه حورب فى أبسط احتياجاته الأساسية: التعليم والعلاج والعمل والمسكن. قيل لنا وصدقنا – وأخشى أن يستمر هذا المفهوم – أن "الحكومة ليست ماما"، وفى نفس الوقت قيل لنا أن "رئيس الجمهورية هو بابا"، وياله من تناقض!! تهاوت الحواجز بين الدولة والحكومة، وأصبح الوطن أرضا تباع وتُشترى وتُقدر قيمته بثمن المتر!! وكان علينا أن نمضى فى طوفان عارم ومصنوع ببراعة ليس أمامنا فيه إلا أن نبحث عن أن نطفو وينجو كل منا بجلده وبطريقته، نبحث لأبنائنا عن فرصة تعليم فى مدارس خاصة، لأن ما قدمه عبد الناصر لأفقر الفقراء من تعليم مجانى - تطبيقا لمقولة طه حسين الشهيرة - أصبح سياسة شمولية، ولا نجد العلاج إلا عند تجار الطب الذين يرتعون بلا ضابط أو رابط، ونسعى للبحث عن عملين أو ثلاثة لمجرد توفير هذه الحاجات الأساسية، ونتغرب سنوات حتى نجد مسكنا أصبح معرضا فيما بعد لأن تقوم الحكومة بتأجيره لنا تحت اسم الضرائب العقارية، ويهتم كل منا بأن تكون له سيارته الخاصة لأنه لم يعد هناك ما يسمى بوسائل النقل العام الموجود فى كل دول العالم، لكنهم عندنا قد ربطوا بين أى قطاع عام وبين الاشتراكية البغيضة كما صوروها لنا.
من هذا السعى المحموم للآباء والأمهات لتوفير الحاجات الأساسية للأبناء، وتجنيبهم بقدر الإمكان المصاعب التى واجهها جيل الكهول والشيوخ، خرج الجيل الشاب متحررا إلى حد ما من هذه العبودية التى تم فرضها علينا قطعة وراء أخرى، بطريقة أطلقتُ عليها فى مقالات سابقة "عوامل التعرية" النفسية. تأمل مثلا كيف بثوا فينا أخلاقيات القمار بالمعنى الحرفى للكلمة، بدءا من البورصة الوهمية التى جرّت إليها البسطاء الذين لا يفهمون فيها لكنها تعطيهم الحلم بربح ليس من ناتج العمل، تماما ككل مسابقات التليفونات وبرامج التليفزيون التافهة، مع غسيل مخ يومى بأن "مصر فوق الجميع"، و"مالناش دعوة بالعرب"، و"الفلسطينيين يستاهلوا اللى جرى لهم"، سواء فى صحف ومجلات وبرامج تليفزيونية ربما تخجل إسرائيل ذاتها عن أن تكرر ما فيها من غثاء سافل.
وربما لا يعرف الجيل الشاب أسماء مثل عصمت سيف الدولة، أو فؤاد مرسى، وعشرات غيرهم ناضلوا طويلا من أجل فضح سياسات السادات ومبارك، وقد أشرت فى إحدى مقالاتى منذ شهور قليلة إلى كتابات الدكتور فؤاد مرسى فى جريدة الأهالى منذ الثمانينيات عن وهم الإصلاح الاقتصادى، وهى الكتابات التى ما تزال تنطبق على اللحظة الراهنة، وفى المقابل كانت أحزاب المعارضة تتراجع، فى مؤامرة لتسليمها إلى السلطة، مما جعل أسماء أخرى تتراجع (دائما أتذكر فى هذا السياق الدكتور جودة عبد الخالق، فهو من أكثر محللى الاقتصاد وضوحا وبساطة، لكننى لم أعد أجده كثيرا)، كما ذوت مطبوعات هذه الأحزاب واختفى بعضها (حتى الآن لا أدرى سبب اختفاء مجلة "اليسار" مثلا). لقد كانت أجنحة الوطن يُنزع عنها الريش، ولا تبقى إلا محاولات فدائية مستميتة، بعضها من أساتذتى وأصدقائى فى هذه الجريدة، والأخرى متناثرة مثل كتابات الراحل مجدى مهنا.
لماذا أذكر هذا كله الآن؟ مرة أخرى لأن لا شىء يولد من لا شىء، فقد كانت روح المقاومة لا تذوى أبدا تحت الرماد، ومن خلال أحداث مرت بنا كان اللهب يزداد شيئا فشيئا، بدءا من مظاهرات المدارس تأييدا للانتفاضة الفلسطينية فى أواخر التسعينيات، ومرورا بتجرع مرارة العجز مرة أمام الاحتلال الأمريكى للعراق، ومرة أخرى أمام العدوان الإسرائيلى على غزة، مع حركات الرفض مثل كفاية، و6 أبريل، وإضراب موظفى الضرائب العقارية (بقيادة صديقى الذى لا يعرفنى شخصيا كمال أبو عيطة)، وكل حركات الاحتجاج الفئوية على الظلم الاجتماعى، وأكاد أجزم أن حادث كنيسة القديسين – الذى دبرته السلطة فى يقينى للإلهاء عن مهزلة سرقة الانتخابات الأخيرة – أضاف مرارة أخرى إلى مرارة تجرع صلف أحمد عز فى تنظيره الممجوج لسطو عصابته على حق تمثيل الشعب فى الانتخابات الأخيرة.
من كل تلك الحركات والمرارات، بالإضافة إلى الشعور الأكثر مرارة بأنه ليس لدينا وطن ودولة بالمعنى الحقيقى للكلمة، اندلعت شرارة الاحتجاج، الذى تحول إلى ثورة فى مواجهة بلادة نظام قال عنه أستاذنا هيكل منذ أكثر من عشر سنوات أن الشيخوخة قد تملكت من أوصاله. لذلك كله أعتقد أنه من الخطأ ترويج أسطورة ثورة الشباب، وهو الخطأ الذى سوف يتبعه محاولة استقطاب بعض عناصر شابة لتدخل مؤسسة النظام، وتتكرر مآسى سابقة عانينا منها مع جيل الستينيات والسبعينيات الذى دخل بعض أفراده دائرة الفساد الساداتى والمباركى، ليصبحوا أسوأ ما فى النظام.
النمل وأشباهه وحدهم هم الذين يكررون التاريخ ولا يتعلمون منه، لذلك ينبغى ألا يكون الهدف هو الاختيار بين البرادعى وأيمن نور وحمدين صباحى وأحمد زويل وما يستجد من أسماء ليكون رئيسا لجمهورية مصر، فليست القضية هى مساعدة شخص مثل محمد على ليكون واليا علينا كما حدث فى بداية القرن التاسع عشر، لكن الأهم هو أن يكون لنا "وطن"، ومؤسسات، وعقد اجتماعى عادل، وحرية تعبير حقيقية، وحقوق لا خلاف عليها فى التعليم والعلاج والعمل والمسكن، ولن يأتى هذا إلا إذا أطلقت الحريات السياسية الكاملة ليس فى إنشاء الأحزاب فقط وإنما فى ممارسة العمل السياسى فى كل مكان.
الطريق طويل، لكن هناك علامات له، وبرامج وخططا وأهدافا، ولا أدرى لماذا – على سبيل المثال لا الحصر – لا نراجع ورقة الدكتور محمد غنيم بشأن الإصلاح، وإذا كنا قد نسيناها فذلك دليل على الخطأ الذى نكرره بأن نبدأ فى كل مرة من نقطة الصفر من جديد، وسوف تكون حجتنا هذه المرة أنها ثورة الشباب، وعلى الكهول والشيوخ أن يتراجعوا إلى خلفية الصفوف. وبرغم أن التحمس للشباب يبدو ذا بريق خاص فإنه يعنى أننا ما نزال بعيدين عن مفهوم المؤسسات بمعناها الأصيل، فالأسماء والأعمار – أو أى فوارق أخرى – ليست هى المعيار، والمهم هو القدرة على العطاء، ولنتذكر دائما أن من يتولى مهمة ليس إلا موظفا لدى أصغر وأفقر مواطن فى مصر، الذى يملك الحق – إن لم يحصل على حقوقه المشروعة – أن ينحى رئيس الحى أو المدينة، ونائب مجلس الشعب، ورئيس الوزراء، ورئيس الجمهورية، من خلال صندوق الانتخاب الذى تتوفر كل الضمانات لعدم التلاعب به.
بل إن المعركة الأصعب هى أن بقايا النظام ما يزال يتمسك بطريقته السلطوية الأبوية، وهو ما يبدو على سبيل المثال فى خطاب رئيس الوزراء أحمد شفيق، الذى يبدو أن أمامه بعض الوقت لكى يتعود على محاسبتنا له، وليس لكى نتعود نحن على أن نبقى مستمعين متفرجين على بياناته التى لا تخلو لهجته فيها ومضمونها من قدر غير قليل من صلف النظام القديم.
تبقى بعض الأوهام التى يجب علينا أن نتخلص منها سريعا، بعضها يشبه سعادة الوقوع تحت تأثير مخدر، مثل القول بأننا شعب مختلف عن كل شعوب العالم، فوجه الاختلاف الوحيد هو قدرتنا على الضحك فى أكثر اللحظات قتامة (تأمل مثلا الشعارات المرفوعة وسط توتر الثورة)، لكن أسباب نهضة الشعوب واحدة فى كل مكان، وهى تبدأ دائما بتعزيز شعور الانتماء إلى وطن، والوطن ليس كلمة أو مفهوم مجرد، وإنما هو بيت وأسرة وحياة يومية كريمة. أما الوهم الأخطر من وجهة نظرى فسوف يكون الاكتفاء بالوقوف فى ميدان التحرير دليلا على الوطنية والعبقرية، وفى مجالى الوحيد الذى أنتمى إليه (النقد السينمائى) أتوقع أن أجد مخرجين وممثلين وكتاب سيناريو يقدمون أعمالا متواضعة، ويكشرون فى وجهك قائلين أنهم كانوا مع الثورة!! الثورة الحقيقية يا قارئى العزيز هى أن نتعلم منذ الآن كيف يتقن كل منا ما يصنعه، ويعود تفاعلنا مع العالم بعد أن اكتفينا بنفسنا وجهلنا طويلا، وكما ثرنا على نظام قمعى سرق منا أحلى سنوات عمرنا، يجب أن نثور أيضا على الضحالة والتفاهة والانكفاء المقيت على الذات ... لذلك فإن الثورة قد بدأت، لكنها لم تنته بعد.
Subscribe to:
Posts (Atom)