Saturday, October 01, 2011
فيلم "أجورا" ياإخوتنا في الإنسانية، هناك ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا!!
من أين تأتي كراهية الإنسان لأخيه الإنسان؟ هل هناك مصدر أزلي أبدي تنبع منه هذه الكراهية، حتى يبدو أنه ليس ثمة أمل في أن تحيا البشرية كلها في سلام؟ ذلك هو السؤال الذي يطرحه فيلم "أجورا" وإن لم يكن بشكل مباشر، وبرغم أن الفيلم يعود عرضه إلى عام 2009، فإنه يبدو كأنه يتحدث عن هنا والآن، في مناخ ينذر باندلاع الحرب الطاحنة في أية لحظة، بسبب حالة من "الغباء المتعمد" تسيطر على قطاعات هائلة من الناس والبلدان. فهل تصدق مثلا أن الإسرائيليين يرددون أن السبب في أزمة التفاوض هو "تعنت" الفلسطينيين؟!! وأنه قد ظهرت فجأة في مصر نزعات تناقش مسألة "الهوية"، وتريد في الحقيقة أن تنزع عن الوطن هويته المصرية، تحت ستار الدين والتدين؟!!
ما هذا الجنون؟ هذا هو ما تجد نفسك تردده وأنت تشاهد فيلم "أجورا"، بشرط أن تتحلى أنت أيضا بالتسامح بلا حدود، وتتخلى عن أي تعصب للأفكار الجاهزة المسبقة، ويستقر بداخلك الإيمان بأننا جميعا سواء، وأن ما يفرقنا هو من صنعنا، من اختراعنا، وليس قدرا مفروضا علينا. ليس هذا التسامح أو التخلي عن التعصب سهلا، فهو يمس أحيانا مناطق "الإيمان" في النفس البشرية، والتي تترك العقل وراء ظهرها، فالمؤمن في أي دين يعتنق مفهوم أن "التسليم" بالمعتقدات هو البداية والنهاية، ولا دخل للعقل أو المنطق في ذلك، وأنا لا أستطيع أن أجعلك تهجر هذا المفهوم، لكني أسألك فقط: لماذا تحتفظ لنفسك وحدك بالحق فيه وتنكره على غيرك؟ فالمؤمن بدين آخر هو أيضا يسلم بمعتقداته، ويراها غير خاضعة للمنطق، فلا مناص إذن من الاختيار بين أن يتعايش الجميع في سلام، أو أن تستمر الحرب الدامية بين البشر بلا نهاية إلا الفناء.
ولكي يناقش هذه الفكرة، اختار المخرج الإسباني أليخاندرو أمينابَرْ الفترة التاريخية التي تقع بين نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس الميلاديين، والمكان هو مدينة الإسكندرية المصرية، الواقعة آنذاك تحت الحكم الروماني، و"أجورا" هي الساحة الرئيسية في أي مدينة، الساحة التي تشهد الوقائع اليومية من بيع وشراء ومجادلات ونزاعات وتحالفات، ومن هذه الوقائع تتألف شيئا فشيئا – وبقدر غير قليل من الغوغائية - الأحداث الكبرى التي قد تغير مجرى التاريخ. لقد كانت الإسكندرية – مثلها مثل مصر الآن – ساحة كبرى تصطرع بالأفكار المتناقضة، خاصة على مستوى الدين، بين ديانة يسمونها "وثنية" تجمع بين آلهة المصريين والرومان القدماء، وديانة تحمل صفة "السماوية" هي المسيحية، لا تكاد إحداهما تترك الأخرى تعيش وتتعايش في سلام، ولا مهرب إلا أن يقضي أتباع هذه أو تلك على أتباع الأخرى، وفي قلب هذا الصراع يضيع من يمثل التسامح الإنساني الرحب، القائل بأن البشر جميعا سواء.
يتجسد هذا التسامح في هيباتيا (ريتشيل وايز)، الفيلسوفة التي تؤمن بالحرية بلا قيود، وهي شخصية تاريخية حقيقية، كانت مهمومة بالبحث عن إجابات لأسئلة العلم والفلسفة، وبرغم جمالها وشبابها فقد وهبت حياتها لأفكارها وأبحاثها، وقد جمعت من حولها شبابا من مختلف العقائد، كمثال على التعايش بين الجميع. وفي جمال بالغ البساطة تؤدي وايز الدور على نحو يقنعك أنها هيباتيا الحقيقية، التي يبدأ الفيلم بها وهي تلقي محاضرة بين طلابها، الذين يشعر بعضهم بالميل نحوها، لكنها تطرح جانبا على الدوام أي علاقات جسدية، ليس لأنها راهبة، ولكن لأنها تعرف مكانها في العالم في تلك اللحظة من التاريخ الإنساني، فهي إن رضيت بأن تكون زوجة في هذا المجتمع الأبوي فسوف تتخلى عن حريتها في البحث والاستقلالية اللذين لا تقبل بغيرهما بديلا، وهي تدرك أيضا أن البعض ينظر لها نظرة مثالية، لكنها امرأة من لحم ودم، حتى أنها تصدم البعض من محبيها بحقائق الجسد التي قد تبعث على النفور.
هيباتيا إذن كامرأة حقيقية رمز للعقل المنفتح لأي حقائق علمية أو فكرية جديدة، فلا تقبل بالمسلمات إن تناقضت مع ما يكتشفه الإنسان كل يوم من جديد. إنها الحركة في مقابل السكون الذي تسعى إليه العقائد، وهي تجد معنى الوجود في البحث الدائم للإجابات عن الأسئلة، بينما الآخرون يركنون لأكثر الإجابات بساطة عن أكثر الأسئلة صعوبة. ويختار السيناريو – الذي شارك مع أمينابر في كتابته ماتيو جيل - لتجسيد هذا الصراع بعض الشخصيات الرئيسية، فمن بين طلاب هيباتيا هناك أوريستيس (أوسكار إيزاك)، الذي يحبها ويعلن عن حبه أمام حشد هائل، لكنه يرضى باختيارها أن تبقى "حرة" وإن لم يتوقف عن حبها، وهو الذي سوف يتحول فيما بعد إلى المسيحية ويصبح واليا على الإسكندرية، ليقف موقف الاختيار بين الإذعان لتعاليم "رجل الدين" (وليس الدين نفسه) بأن يضع هيباتيا في مكانها في المجتمع كامرأة محكوم عليها بأن تبقى في موضع التابع، أو أن يدافع عن حريتها إلى النهاية.
هناك الشخصية الأخرى ديفوس (ماكس مينجيلا)، وهو شخصية متخيلة من خلق صناع الفيلم، وأراه بالفعل شخصية مهمة كأنها الضوء الكاشف على جوهر هذا العمل الفني. إنه عبد شاب، يتبع هيباتيا في كل مكان، يستمع إلى محاضراتها العلمية في شغف، يفهمها ويعلق عليها بذكاء حقيقي، كما أنه خادمها حتى في حمامها، تعتمل في أعماقه الرغبة فيها لكنه لا يستطيع حراكا، وهي لاهية تماما عن وجوده كأنه قطعة جماد. ديفوس هنا هو الوجه الآخر من أزمة هيباتيا، إنها الحرة التي تعاني من نقص حريتها لأنها "امرأة"، بينما هو عبد سُلبت منه حريته كإنسان. ولعل الخطأ من جانب هيباتيا هو أنها لم تدرك أن معركة الحرية التي تناضل من أجلها لا تتجزأ، فلا يمكنها أن تحصل عليها ما دام المجتمع (أو الثقافة، أو الفكر، أو الديانة) يعطي الحرية للبعض وينكرها على آخرين.
سوف يجد ديفوس خلاصه في الساحة، التي تشهد صراعا محتدما بين أصحاب الديانة القديمة والديانة الجديدة، فكل منهما يوجه سهام نقده (أو الحقيقة سبابه) إلى آلهة الطرف الآخر، وفي هذا السياق الهيستيري سوف يرى البعض في المصادفات نوعا من المعجزات، كأن يسير شخص على النار بسرعة فلا يصيب منه اللهب إلا قليلا، بينما يحرق شخص من أتباع الديانة الأخرى. لكن هنا أيضا يبدو معنى ومغزى ولادة ديانة جديدة: إنك عندما ترى على الشاشة الأتباع الجدد وقد ضموا إلى صفوفهم كل المحرومين والمضطهدين، الجوعى والفقراء والمساكين والمرضى، تدرك أن الديانات تولد من أجل هؤلاء، وتبشرهم بأن يرثوا الأرض وبالملكوت، وفي أحد المشاهد المهمة يذهب ديفوس بصحبة المسيحي الغيور أمونيوس (أشرف برهوم) إلى كنيسة، حيث يرى الفقراء يمدون أيديهم نحوه في استعطاف، ليعطيهم الخبز الذي اشتراه لأسياده، فقد علم أن هناك لهؤلاء المحرومين سيدا أعلى، إنه يعطيهم كسرات الخبز وفي الوقت ذاته يعرف معنى أن يكون حرا. لكن سوف يطرح عليك الفيلم سؤالا كلما تقدمت حبكته: إذا كانت الديانة الجديدة تحرر المضهدين، لماذا يحدث دائما أن تخلق لنفسها مضطهدين جددا؟ لماذا تنادى بالحرية في بدايتها، ثم تعمد إلى تقسيم العالم مرة أخرى إلى أحرار وعبيد؟
من المؤكد أن الديانات ذاتها ليست السبب في هذا التناقض الجوهري، وإنما في تحول الدين إلى "مؤسسة" يدافع عنها (وليس عن الدين) المنتفعون منها، ليجعلوا من أنفسهم سادة ومن الآخرين عبيدا!! وهكذا تولد العقائد الجديدة ضد السابقة عليها، ولكن بدلا من أن تدور المعركة بينهما على أرض تحقيق المساواة بين الجميع، فإنها تدور حول "الآلهة"، لتشهد الساحة (أجورا) الصراع بين الوثنيين من جانب، والمسيحيين واليهود من حانب آخر، لتقع مذبحة حقيقة ينتصر فيها الطرف الأخير، ويلجأ الوثنيون – ومعهم هيباتيا – إلى المكتبة، ليعيشوا في حالة حصار قاسية، وتحاول هيباتيا أن تجد العزاء في الانشغال في أبحاثها، لكنها لا تستطيع أن تتجاهل أن أباها الفيلسوف ثيون (مايكل لونسديل) قد جرح في الساحة جرحا بليغا على أيدي الدهماء، بما سوف يؤدي إلى احتضاره وموته.
من أكثر المشاهد التي أثارت الاعتراضات من جانب الكثير من متفرجي الفيلم ذلك المشهد الذي يجتاح فيه المسيحيون المكتبة، فيلحقون بها دمارا كاملا، وتحاول هيباتيا أن تنقذ ما تستطيع دون جدوى. بالطبع سوف يقول البعض أن هذا لم يحدث على هذا النحو من البشاعة، وهم يتصورون أنهم بذلك يدافعون عن الديانة المسيحية، لأنها لا تنادي بالعنف على الإطلاق، لكن التاريخ يؤكد أن هذا قد حدث، ليس لأن المسيحية تنادي بذلك، وإنما لأن الغوغائية تسود في هذا المناخ التاريخي المضطرب، الغوغائية التي يصورها الفيلم من خلال لقطة من أعلى، للدهماء كنقاط سوداء صغيرة تتحرك في عشوائية هنا وهناك، إنهم ليسوا "مسيحيين" بشكل محدد، وإنما جموع تحركها شهوة الانتقام، متسلحة بما تتصور أنه ديانة جديدة، وما يؤكد هذه النزعة التي قطعت العلاقة الوثيقة مع عالمية الدين هو أن أتباع المسيحية سوف يطردون من الإسكندرية حلفاء الأمس، أتباع اليهودية.
وسط المذبحة يقدم الفيلم مشهدا دالا، هيباتيا محاصرة في المكتبة، ويعثر عليها العبد ديفوس المؤمن بالمسيحية سرا، لقد جاءته الآن فرصة أن ينتقم لكل رغباته المكبوتة، إنه يسعى لاغتصاب هيباتيا، لكن سرعان ما ينهار ويبكي على صدرها، ويعطيها سيفا لكي تقتله، لكنها بدلا من ذلك تخلع عن رقبته طوق العبودية، وتمنحه حريته. وفي سلسلة متلاحقة من المذابح المتبادلة بين أتباع الديانات، سوف تمضي هيباتيا مذهولة وسط الدمار، كأنها الصوت الوحيد الصارخ في البرية، لذلك فإن الطرف المنتصر في هذه المعركة سوف يطلب دمها، لكي تسكت إلى الأبد. في مشهد دال آخر، يقف رجل الدين ليلقي بعض الكلمات التي يخلع عليها صفة القداسة، ويطلب من الجميع الانحناء، أي الخضوع والتسليم المطلق له (وليس لأي إله في الحقيقة)، ويركع الجميع ما عدا هيباتيا، لأن الله الذي يتحدث عنه رجل الدين "ليس أكثر عدلا من أي إله سابق".
عندما يتحدث إنسان عن أنه ينطق بـ"كلمة الله"، تيقن من أنه يكذب، إنه يريد – أستغفر الله العظيم – أن يجعل من نفسه إلها، يقتل بدم بارد، متذرعا بأن ذلك هو "الشريعة"، التي قالوا أن هيباتيا قد انتهكتها لأن امرأة، مفروض عليها الصمت الكامل، وأن تختفي عن الأنظار!! يحاول أوريستيس الدفاع عن هيباتيا لكنه يتلقى حجرا يشج رأسه، وتتوالى الأحجار من الدهماء الذين يغذيهم من يلبسون مسوح رجال الدين. لقد أصبحت هيباتيا وحيدة إذن، لينتهي الفيلم بمشهد لا يعمد إلى أحداث عنيفة مباشرة على الشاشة، وإن كانت تقشعر له الأبدان، وهو يقتفي الوقائع التاريخية الحقيقية، لقد قرر المتطرفون "سلخ" هيباتيا حية، ثم تقطيع أوصالها، وحرقها، والتهمة: ساحرة، ولا تؤمن بإله!!
يحاول "أجورا" أن يغلق الصراع الدرامي على نحو لا يخلو من مغزى، إن ديفوس يقرر أن يخنق هيباتيا حتى ينقذها من عذاب هذا الموت البشع، وهي توافقه على ذلك، فتستسلم له، ويتصاعد على شريط الصوت لحن من صوت بشري غارق في الأسى. إنني أعلم تماما أن هناك من سوف يسرع بالاعتراض على الفيلم، وعلى هذا المقال، لأنهما يتماسان مع التصورات الدينية للبعض. وتلك في الحقيقة هي أزمة مصر الآن، فبدلا من البحث الجاد عن مشكلاتنا التي نعيشها في كل يوم، في كل لحظة، ينحرف بنا الخلاف إلى مسائل العقائد الدينية. وإذا كان هناك من يقول لآخر: "إلهي افضل من إلهك"، فهل يتصور نفسه مؤمنا موحدا حقا، أم أن هذا التجديف بعينه؟!!
يقدم "أجورا" قضيته على نحو بالغ العمق، فهذا الفيلم من النمط التاريخي لم يقلد أفلاما أخرى على طريقة "المصارع" على سبيل المثال، فالأداء التمثيلي والسينمائي ينحو إلى قدر كبير من الإحساس الواقعي، كما أنه لم يجعل هيباتيا شخصية مثالية، إنها الوجه الآخر لشخصية العبد ديفوس، وهي غير واعية بأن قضيتهما واحدة، وأي فكرة تريد إصلاح حال البشر لابد أن تضعهما معا في حساباتها، وليس هناك بديل عن أن تطلب الحرية لهيباتيا وديفوس معا، ولا معنى للحرية ما لم تتحقق على المستوى المادي والروحي معا. وأي فكر، وأي دين، لا يضع في حسابه تحرير العبيد، والأهم هو عدم صنع عبيد من نوع جديد، سوف يكون فكرا ودينا محكوما عليه بأن يعيد إنتاج القهر التاريخي، ليظل مصير الحرية في قبضة الغوغائية في الساحة، في "أجورا".
Monday, September 26, 2011
فيلم "شجرة الحياة" عندما يتلاقى الشعر والفلسفة في الصورة السينمائية
تيرانس ماليك، طالب الفلسفة ومدرسها في مقتبل شبابه، ومترجم بعض أعمال الفيلسوف الألماني هايدجر، والمنحدر عن أصل إيراني أو ربما لبناني من المهاجرين إلى الولايات المتحدة، عشق السينما وتحول إليها، لكنه عبر حوالي أربعين عاما لم يقدم إلا خمسة أفلام، وبينما كان يتكسب عيشه من إصلاح سيناريوهات أفلام متواضعة يرفض أن يذكر عليها اسمه، فقد حققت أفلامه القليلة شهرة واسعة، لكنه أبى أن يكون له في هذه الشهرة نصيب، فهو يفضل أن بنزوي ويختفي عن أنظار الصحافة الفنية، وهو لا يحضر أبدا استلام أية جائزة تحصل عليها أفلامه بوفرة، كما حدث في مهرجان "كان" الأخير، الذي فاز فيه فيلمه "شجرة الحياة".
وإن كان هذا يمثل بالنسبة لك لغزا، فاللغز الأكبر هو أفلامه ذاتها، التي تبدأ بفيلم "الأراضي البور" (1973) الذي كان في جوهرة أنشودة رثاء للطفولة، مثلما كان "أيام الجنة" (1978) رثاء للبراءة، وأتى "الخط الأحمر الرفيع" (1998) ليتخذ من الفيلم الحربي مبررا لطرح أسئلة الوجود الكبرى، وأخيرا "العالم الجديد" (2005) عن لقاء الحضارات الأصلية بالحضارات المعاصرة. إنها أفلام لا تشبه أفلاما أخرى، وإن أردت مني أن اذكر لك ما هو وجه اختلافها فيكفي أن أقول لك أن كلا منها يمثل سؤالا حائرا في أعماق صانعها، وهي جميعا تكرر نفس السؤال المرة بعد الأخرى، لأنه لا يجد إجابة شافية، ولعله في ذلك يتلاقى – ولا نقول يتشابه – مع مخرجين قلائل في تاريخ السينما، مثل البولندي أندريه فايدا والألماني فيم فيندرز، فالسينما عندهم هي أداة للبحث في أي شيء وكل شيء، بحيث لا تجد خطا فاصلا بين ما هو روائي وما هو تسجيلي، وما هو تأثيري أو سيريالي، وما هو تجريبي أو تجريدي. وفي كل أفلام تيرانس ماليك سوف تجد هذا البحث متجسدا في "مونولوج" داخلي، يتوزع على الشخصيات جميعا، ولأن هذا المونولوج في حقيقته ليس إلا ما يهمسه ماليك لنفسه، فسوف تعجز أحيانا عن أن تحدد من بين شخصيات الفيلم من هو صاحب التعليق الآتي من خارج "الكادر".
إنه مونولوج متصل وإن سمعته متقطعا، يبدو كأنه حديث الإنسان، الهامس أحيانا، الصارخ أحيانا إخرى، لقوة أو قوى مجهولة لا يعرفها بشكل يقيني، إنه يتحدث إليها وإن كان ينتابه الشك أحيانا في أن أحدا يسمعه وينصت إليه، وذلك تجسيد للمشاعر الوجودية التي تجعل المرء ضعيفا ووحيدا ومهجورا في هذا الكون. لكن هذه "الفلسفة" لا تأتي أبدا عند ماليك في شكل أفكار مجردة، بل في شكل "صورة" محسوسة وملموسة على نحو يلمس أعماقك، إنها صورة تحقق الشعر في السينما، من خلال القدرة على التجسيد والتجريد والتكثيف معا، وتتركك لكنها ترفض أن تغادرك، فسوف تبقى معك أياما بعد مشاهدة الفيلم، تؤرقك وتبعث بداخلك نفس الأسئلة التي أرقت ماليك وقضت مضجعه.
ولأن الصورة تأخذ المركز الأهم عنده، فإن الحبكة القصصية تتراجع لتصبح مجرد نقطة الانطلاق لتأملات لا تنتهي، وفيلم "شجرة الحياة" يبدأ بالفعل وينتهي بصورة واحدة غامضة: الظلمة يشقها الضوء المائل للاحمرار والذي يتراقص ويتخذ أشكالا تجريدية، وتتداخل أصوات الطيور مع لحن كورالي، وصوت تعليق من خارج الكادر: "أمي، أبي، شيء ما قادني إلى بابكما". ليس لهذه الصورة تفسير محدد، لكنها توحي ببداية التكوين كما جاءت في الديانات الكتابية، خاصة أنها تأتي مباشرة بعد آيات من سفر النبي أيوب، على لسان الله وهو يحدث أيوب فيما يشبه اللوم على جهله أو تجاهله: "أين كنت حين أسستُ الأرض ... على أي شيء قرّتْ قواعدُها ... عندما ترنمت كواكب الصبح معا وهتف جميع بني الله" (أيوب 38).
حقا، أين كان الإنسان؟ وهل لأنه لم يكن موجودا فإنه يحق له أن يتجاهل المعجزة أو يقلل من شأنها؟ يبحث العلم كثيرا في بداية خلق الكون، وتتعرض الآن آخر نظرياته عن "الانفجار الكبير" للتشكيك، وهذا الشك هو ما يبرر وجود الفلسفة، التي ينقلها ماليك هنا للفن. وقد يفكر أغلب الناس في أن تلك قضايا ثانوية، أو هي من شأن الغيب، لكن هناك من يهتز فَرَقَا ورعبا عندما يداهمهم هذا الغيب بإحدى المعجزات الصغيرة الكبيرة مثل الميلاد والموت، اللذين يمران أيضا بدورهما مرور الكرام عند العامة كأنها قضايا مسلمة بها، لكن ماليك يجعلها محور حبكة الحدوتة، إن كان في الفيلم أية حدوتة على الإطلاق.
لم أرَ عملا فنيا يملك كل هذا القدر من الطموح على طرح القضايا الكونية إلا عند نجيب محفوظ، الذي مايزال ينتظر الكثير من الكشف والاكتشاف، ولكاتب هذه السطور منذ ربع قرن دراسة نقدية عن رواية "قلب الليل" التي قد لا ترقى فنيا لمصاف روايات أخرى له، لكنها تحمل بذور الأسئلة الأكبر في تاريخ الإنسانية، حيث يتلاقى ما هو كوني مع ما هو تاريخي، ويمكنك أن تجد أحد هذه الأسئلة في بداية فيلم "شجرة الحياة" من خلال تعليق من خارج الكادر: أي طريق نختار؟ طريق الطبيعة أم طريق النعمة (أو طريق الله)؟ طريق الاستسلام لقوانين الطبيعة أم لتعاليم الأديان (إن كان هناك تناقض بينها حقا)؟ طريق إشباع غرائزنا الأساسية أم كبح هذه الغرائز والسيطرة عليها؟
"النواة" القصصية في الفيلم ليست إلا حكاية ولادة صبي، ونموه وسط أسرة أمريكية من الطبقة المتوسطة، التي تعيش في مناطق الضواحي عند منتصف القرن الماضي، ولعلها مقتبسة عن بعض ذكريات ذاتية لتيرانس ماليك نفسه. إننا في بداية الفيلم نشاهد حالة هي أشبه بالحياة في الفردوس، جنة عدن، أو ما قبل السقوط إلى الأرض. الكاميرا تطير وتطفو على نحو ناعم غريب، كأنها عين راعية تعرف كل شيء وتسهر عليه وتوجد في كل مكان، وهناك أب (براد بيت) وأم ( جيسيكا شاستين) وأطفالهما الذكور الثلاثة، يتأرجحون ويلعبون في استرخاء واستمتاع كاملين. وكما حدث في الجنة، ينتهي كل ذلك على نحو غامض، عندما يصل للأسرة خبر عن موت أحد أبنائها.
صدقني إن قلت لك أنني لا أعرف – برغم أنني شاهدت الفيلم مرات عديدة – أين يقع هذا الحدث وسط مسار الأحداث، لكنه هنا يقع في البداية، ليمثل "السقوط" من الفردوس إلى الأرض، ويجسد المفارقة الإنسانية الأكبر، إن هذا الفقدان مؤلم لكن الحياة تمضي ... هل هذا شيء طيب أم سيء؟ إن الله (أو الطبيعة عند البعض) تعطي ثم تأخذ، إنه – كما جاء على لسان الجدة – ولسبب ما يرسل الذباب لجروح كانت تنتظر شفاؤها، فما هو السبب؟ ما هو السر؟ هذا ما يعيشه الابن الأكبر (شون بين) الذي نراه الآن وسط مبانٍ عصرية تتناقض تماما في خطوطها وألوانها عما عاشه في طفولته، وإن كانت قراءتنا صحيحة فإنه الآن على"الأرض" بعد سقوطه من الجنة الأولى.
ربما كان الفيلم كله بعد هذه النقطة هو تداعيات من ذكريات هذا الابن، أو لعلها تأملاته وتأملات ماليك نفسه، وهي التأملات التي تبدأ بسرب هائل من الطيور التي تحوم في السماء، ويأخذ السرب أشكالا منسابة متعددة تشبه إلى حد كبير فنون التلاعب البصري (أوب آرت)، فتسأل نفسك: هل ذلك يحدث وفق قانون أم أنها المصادفة؟! إنه السؤال الذي ينطبق على سر الخلق ذاته، الذي سوف يبدؤه ماليك معك في سلسلة مبهرة بحق من الصور التي قد لا تجدها إلا في أرقى الأفلام التجريبية: الضوء يشق الظلام، ويتخلق الدخان والموج والأضواء والظلال، وقطرة ملونة تنتشر في الماء فتصنع أشكالا كأنها السديم الذي يأخذ أشكالا معجزة، وحمم بركانية تتدفق، والنيران وألسنة اللهيب، ومن كل ذلك تنمو ما يشبه الكائنات الأولى التي تزداد تعقيدا وهي تسبح في البحار، فلا تملك إلا أن تقول: يالروعة معجزة الحياة!!
من قلب هذه المعجزة يولد سؤال: هناك في المروج ديناصوران بداائيان، من الواضح أن أحدهما يحتضر، يشمه الآخر ويمضي إلى حال سبيله، فهل الحياة الرائعة في إعجازها هي أيضا بهذه القسوة؟ هل الحياة قوة دافعة لا تعرف ولا تعترف إلا بقوتها واستمرارها حتى أنها لا تعبأ بالموت أو الموتى؟ كان هذا هو السؤال الدائم في أعماق تيرانس ماليك حول التناقض بين الروعة والقسوة، وهذا ما سوف يعرضه لك فيما يشبه سردا تسجيليا لحياة الصبي الأكبر للعائلة، وهي الحياة التي تتلاقى في الكثير من خطوطها وخيوطها مع حياة أغلب البشر، إن لم يكن البشر جميعا.
دعني أعرض لك طرفا من هذه الوقائع العادية وغير العادية في آن واحد: الأب والأم شابان متحابان في مقتبل العمر، وصورة أيقونية تتردد في معظم أفلام ماليك لستائر النافذة تؤرجحها الريح، والأب يلمس بطن الأم الحامل في حنان، وخروج الابن إلى الدنيا في استعارة سيريالية كأنه يخرج من قلب الماء، ويد الأب أو الأم تحتضن قدم الوليد فلا تكاد أن تبلغ في طولها إصبعا، ومرة أخرى تهمس بينك وبين نفسك: يالروعة الحياة!! في حضن الأم يبدو العالم كأنه النعيم، ويرعاه الأب في مشيه، وتعلمه الأم الكلمات الأولى، وفراشة تحط على يد الأم، وتقترب قطة في توجس.
وعند قدوم طفل آخر يبدأ هذا الفردوس في التلاشي، وتظهر الغيرة في عيني الطفل الأكبر، ويحوم القلق فوق هذه الجنة الأرضية الصغيرة، وإذا كانت الأم تمثل الحنان الهادئ، فالأب هو الأوامر الصارمة. وعندما يصبح الأطفال ثلاثة، ويكبرون قليلا، تشعر كأنك تشاهد عائلة من الأسود مثلا، حيث الأشبال تلهو في مرح ممزوج بالعنف، كأن الطبيعة تدربهم على قسوتها، ويشارك الأب في هذا التدريب كأنه يشحذ مخالب صغاره، وتراه أحيانا وحيدا يرقب الفضاء من حوله لأنه يريد أن يحمي العائلة من الأخطار المحتملة (إنني أطلق على ذلك "الإحساس الديكي"، لأنني في طفولتي كنت أرى الديك لا يتمتع بالأكل أبدا، إنه يقف منتبها دائما، يلقط بين الحين والآخر حبة ذرة، بينما الدجاجات من حوله منهمكات في التهام الغذاء!!)، كما ترى الأم تستمع باللهو مع أطفالها كأنها عادت هي الأخرى إلى طفولتها.
وفي مسحة من علم النفس، الذي تتردد أصداؤه أيضا في بعض نظريات علم الاجتماع عند القبائل البدائية، تلمح الصراع الخفي بين الابن والأب، إن الابن يفكر في لحظة عابرة في "قتل الأب"، كأن العالم مع الأم وحدها سوف يصبح أفضل بدونه، كما يعرف الابن أحاسيسه الغريزية الأولى باستراق النظر إلى الأم، وتزداد خشونة الابن في ألعابه. هل هذا "الأب" – وضف إلى ذلك رمز الأبوة في الأفكار الميتافيزيقية – قاسٍ أكثر من اللازم، أم أن هذه القسوة تعبير عن الحنان العميق؟ هل يريدنا "الأب" أن نكون نسخة منه برغم أن ذلك مستحيل وغير إنساني؟ وهل في تلك الرغبة ما يشير إلى أنه لم يستطع أن يحقق ذاته فأراد تحقيقها من خلالنا؟
قد تبدو لك تلك الرحلة على الورق مجردة، لكنها في الحقيقة مجسدة في صور لن تنساها أبدا، وفيها خلاصة القلق الوجودي عند ماليك وعند الكثيرين منا حتى لو لم نعترف بذلك. إن هذا القلق يجد حلا من خلال فكرة الحياة من جديد، عندما يتلاقى السابقون واللاحقون عند البعث، الذي يصوره الفيلم في مشهده الأخير والابن الأكبر في كهولته يمضي في طريق من صحراء جبلية قاحلة، ويدخل من باب خشبي بلا بناء، فإذا به يسير على لسان من الأرض وسط البحر يقوده الصبي الذي كانه في طفولته، وأسراب من البشر تتلاقى، هنا يلتقي بأمه وأبيه شابين في مقتبل عمرهما، وبأخويه اللذين رحلا (حتى الآن لا أعرف إن كان الاثنان الآخران قد ماتا أم واحد فقط!!)، ويشمل الجميع فرح عذب لا ينتهي.
وكما بدأ الفيلم بالضوء الذي يشق الظلام فإنه ينتهي به، عودا على بدء، فلا تدري إن كنت قد شاهدت فلسفة أم شعرا أم مزيجا رائقا راقيا منهما. وفي إشارة بالغة الذكاء والخفاء نرى الأم في لقطة تذكرك كثيرا ببطلة فيلم إنجمار بيرجمان "بيرسونا"، وكأنها إشارة ولاء من ماليك للسينمائي الفيلسوف بيرجمان، الذي يشترك معه في همومه الوجودية، بما يبعده أيضا عن مقارنته مع ستانلي كوبريك، الذي سوف يحلو للكثير من النقاد تشبيه فيلم "شجرة الحياة" مع "أوديسا الفضاء 2001"، لكن الحقيقة أن كوبريك يبدأ فلسفته بالتشاؤم من مصير الحضارة الغربية، أما تشاؤم تيرانس ماليك فهو ليس تشاؤما حقيقيا، أنه رغبة في الكشف عن قانون الوجود والحياة، فربما بعد أن نعرفه سوف نرتاح بالاستسلام له، الاستسلام للصراع بين ما نسميه الخير والشر، واللذين قد يكونان وجهين لجوهر واحد.
ألم أقل لك أنه فيلم ليس هناك الكثير من الأفلام التي تشبهه؟!
Subscribe to:
Posts (Atom)