منذ سنوات، قمت بترجمة كتاب عنوانه "تاريخ للسينما
الروائية"، لكن المشرف على السلسلة لم يعجبه هذا العنوان، وقام بتغييره إلى
"تاريخ السينما الروائية". وربما لا يبدو للوهلة الأولى أن هناك فرقا
بين العنوانين، لكن الحقيقة أنه يفصل بينهما ما يكشف ليس فقط عن عقلية الناقد
السينمائى فى مصر، وإنما عن عقلية ثقافية كاملة يدور محورها حول "الألف واللام".
قصد مؤلف الكتاب الأصلى ديفيد كوك – وهو ليس وحده فى ذلك
كما سوف نشرح لاحقا – أن ما يكتبه ليس إلا "واحدا" فقط من بين كتابات
عديدة تناولت تاريخ السينما، بينما رأى المشرف على النشر أن هذا يقلل من قيمة
الكتاب، لذلك فهذا هو "التاريخ"، ولا تاريخ غيره. ونحن عادة فى حياتنا الثقافة
والسياسية نتحدث بقدر هائل من اليقين، ليس له ما يبرره فى الواقع غالبا، عن أن
رأينا هو الرأى الصحيح، وهو النظرة الوحيدة الممكنة تجاه أمر ما، ترى ذلك مثلا
فيما تشاهده على شاشات التليفزيون من ضيوف يرتدون غالبا ثيابا لامعة (ولا أدرى إن
كانت هى ثيابهم التى يخصصونها للتصوير التليفزيونى، أو أن مسئولى القناة يوزعونها
عليهم!)، لكنهم يتحدثون دائما بلهجة تشى بالثقة المفرطة فيما يقولون، سواء فى
الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة، وكثيرا ما يبدأون كلامهم بأن لديهم "أمرا
مهما للغاية"، لكنك تكتشف أنه ليس مهما "ولا حاجة"!
هذه العقلية السائدة تجعلنا معرضين فى الأغلب للوقوع فى
مأزق "السفسطة" التى لا طائل من ورائها، وربما كان الأهم هو أنها تحاول
أن تفرض مصطلحات ومفاهيم بعيدة كل البعد ليس عن الواقع فقط، وإنما عن المنهج
العلمى فى دراسة الأمور. لقد جاء وقت فى زمن مضى كان ينظر إلى السينما فيه
باعتبارها لا ترقى لمصاف الفنون الرفيعة (وما تزال كذلك حتى الآن بالنسبة لنا، حيث
أن الضريبة عنها تسمى "ضريبة الملاهى")، لذلك سعى بعض الدارسين فى أنحاء
مختلفة من العالم إلى إضفاء صفة الجدية عليها، وكان من بينهم أدولف آرنهايم، وبيلا
بالاش، وسيجفريد كراكاور، وكانت لهم كتاباتهم النظرية فى هذا المجال التى خرجت فى
هيئة كتب، أسماها جميعهم "نظرية السينما" بالألف واللام، وحتى الفرنسى
أندريه بازان الذى كان ناقدا أكثر منه صاحب نظرية، تم جمع بعض مقالاته فى مجلدين
يحملان عنوان "ما هى السينما؟".
ولأننا فى الأغلب نعشق حرفى الألف واللام، تعلق الكثيرون
منا بهذه النظريات القاطعة المانعة، بل ذهب الأمر إلى أن بعضنا أخذ سطرا من نظرية
إلى جانب سطر من نظرية أخرى، دون أن يدرك التناقض الهائل بين النظريتين، لأن ما
يهمه هو أن كلا منهما تحمل عنوان "نظرية السينما"، بصيغة التعريف لا
بصفة النكرة. لكن النقد السينمائى فى العالم كله أدرك منذ أواخر الستينيات خطر هذه
الصيغ، وبدأت فى الظهور كتابات جديدة جادة تحمل جميعا عنوان "نظرية
للسينما"، باعتبارها ليست إلا منهجا من بين مناهج عديدة لدراسة السينما
وتناولها، وكتب جيرالد ماست مثلا كتابا بعنوان "تاريخ موجز للسينما"،
كما اهتم جيمس موناكو بالمنهج أكثر من اهتمامه بالنتائج، وفى كتابه المهم
"كيف تقرأ فيلما" عرض لمختلف الرؤى التى يمكن أن توصلك لتذوق
"جانب" من جوانب عديدة، سوف تراها إذا غيرت زاوية رؤيتك (مرة أخرى أعرف
أن ناشر ترجمتى له سوف يجعله يحمل عنوان "كيف تقرأ الأفلام"، لأن هذا
العنوان الأخير أكثر يقينا بما يحمله من ألف ولام!)، بل إن الكثير من الكتب التى
تدرس السينما بعمق حقيقى أصبحت تحمل عنوان "مقدمة لـ.."، لأنها تعرف
أنها ليست إلا رؤية من بين رؤى عديدة، سوف تظهر ما دامت هناك سينما وأفلام جديدة.
وإحدى المحاور الرئيسية لهذه الاتجاهات الجديدة هو
السؤال: هل تستطيع أى نظرية للسينما أن تفرض عليها مواصفات جاهزة لما تصنعه من
أفلام؟ وكانت الإجابة: إنك لا تستطيع أن تقول للسينما ما "يجب" عليها أن
تفعله، ولكن عليك أن تتركها تصنع ما "يمكنها" أن تفعله، لذلك أصبحت
الأفلام الآن تسبق أى نظرية. لكن الواقع عندنا مختلف كثيرا، وأكثر ما يدهشنى حقيقة
هو استخدام مصطلحات لا أفهم معناها (وهنا أضرب أمثلة لنقاد كبار وتلاميذهم
الصغار)، مثل "السينما الخالصة" و"السينما الحقيقية"
و"السينما الأصيلة"، وكلها كما ترى مصطلحات رنانة تعشق الألف واللام،
لكنها فى الحقيقة لا تقول شيئا على الإطلاق، بل إنى أذكر قولا ساخرا لأحد النقاد
الأمريكيين، بأن "السينما الخالصة" هى شريط السليولويد الخالى تماما من
أى صورة أو صوت!
وربما يكون سابقا للأوان أن نحلم بنظريات عربية للسينما
(هناك بعض المحاولات غير المكتملة أو المبتسرة)، لكن ألا يحق لنا أن نحلم بكتابة
"تواريخ" للسينما المصرية والعربية، فمعظم الكتابات التى زعمت أنها
تتناول "تاريخ السينما" فى مصر، تكرر أنها كانت تقليدا باهتا لسينما
هوليوود، أو كانت تعلى من شأن أفلام بعينها حتى لو كانت أفلاما ردئية، لأن ذلك هو
المكتوب فى "التاريخ"، أو تقلل من شأن أفلام أخرى كانت فى جوهرها بحثا
عن صيغة سينمائية مصرية، لأن ذلك هو أيضا ما قرأناه فى "التاريخ" عنها.
نحن فى حاجة للتخلى عن عشق يقين الألف وللام، بما
يستتبعه ذلك من إعادة النظر فى أفكار ومقولات ومصطلحات جاهزة. نحن فى حاجة إلى أن
نرى الواقع من مختلف زواياه، وليس فقط الزاوية التى فرضوا علينا النظر من خلالها.