ضحكات ممتزجة بالدموع
على الخط الفاصل
بين التراجيديا والكوميديا، أو بين المأساة والملهاة، يقع نوع من الفن يجمع
بينهما، وهو "الكوميديا السوداء"، التي وجدت تجليات عديدة في الوسائط
الفنية المختلفة، من الأدب إلى المسرح إلى السينما، وهو نوع فني يحتاج إلى قدر
كبير من الرهافة، وإلا تحول إلى نوع من التهريج السقيم، أو السخرية المجانية من كل
شيء.
في الكوميديا
التقليدية نرى مسحة من السخرية من الشخصيات، على نحو ما نرى مثلا في شخصيات
"البخيل" أو "محدث النعمة" أو "المريض بالوهم"، لكن
مصائرهم تنتهي دائما في الكوميديا إلى تنوير الشخصية، وتخلصها من صفاتها السلبية،
لتعيش بعد ذلك "في التبات والنبات". لا تعرف الكوميديا السوداء مثل هذه
النهايات السعيدة، بل إنها تنتهي إلى نهاية قاتمة، لأنها في جذورها تعكس رؤية
متشائمة حول المصير الإنساني، أو بكلمات أخرى "مفيش فايدة"!!
لذلك تتسم
الضحكات في الكوميديا السوداء بقدر هائل من المرارة، واليأس من إصلاح الأخطاء،
وربما أيضا انتصار الشر على الخير. وهي بهذه المرارة قد تطيح بكل الأصنام
التقليدية التي يخشى الفن عادة من الاقتراب منها، وتتناول موضوعات لا يمكن
اعتبارها "مسلية" أو "مضحكة" بأي حال، مثل الموت، أو القتل،
أو الاكتئاب، أو الخوف، أو الهزيمة. وقد يصل بها الحد إلى أن تقف على حافة ما يسمى
"الكوميديا المقرفة" أو المثيرة للغثيان، التي تخصص فيها مثلا الأخوان
بوبي وبيتر فارلي، وتزعم أنها تثير الضحك من خلال اللغة السوقية، والحديث عن
السوائل البشرية، كما في فيلم "هناك شيء حول ماري" من بطولة كاميرون
دياز.
لكن النزعة
العبثية في الكوميديا السوداء الراقية لا تلجأ إلى مثل هذه الضحكات الرخيصة، بل
إنها تسعى بما فيها من قتامة وعبثية إلى إثارة ذهن المتفرج، بما يدفعه إلى طرح
الأسئلة حول كل ما اعتبره أمرا مفروغا منه في حياته، وهي تخلط بين الأماكن
والأزمنة، بما يعطيها أيضا صبغة سيريالية، تشعر معها أحيانا كأنك في حلم، وفي
أحيان أخرى كأنك في كابوس. ولعل أشهر من تخصصوا في هذا النوع من الكوميديا فرقة
"مونتي بايثون" (ومعناها "الثعبان الأقرع")، الذين عملوا في
كل المجالات مثل المسرح والتليفزيون والسينما، وحتى الكتب أيضا، وتميزت الكوميديا
االسوداء عندهم بتخطي كل الحواجز، والسخرية من الذات أحيانا، وأشهر أفلامهم في هذا
المجال كان "حياة برايان".
وليس غريبا أن
يأتي بعض ممثلي هذا النوع من الكوميديا من عالم "الاستانداب كوميدي"،
حيث يقف المؤدي ساعات طويلة أمام جمهور متنوع، ليثير الضحك من أنفسهم. وفي هذا
المجال يبرز الممثل والمؤلف الزنجي ريتشارد برايور، الذي شارك ميل بروكس في كتابة
فيلم "السروج الملتهبة"، الساخر من أفلام الويسترن وبطولة
"الشجيع" الأسطورية الزائفة، لكن أهم أعماله في الفن والحياة معا كان
الانتقاد المرير للعنصرية الأمريكية ضد الزنوج، وللتناقضات الاجتماعية الظالمة،
ولم يكن يتورع عن استخدام الألفاظ السوقية أحيانا.
بقدر أكبر من
الرهافة، تميل معظم أفلام الأخوين كوين إلى الكوميديا السوداء، في محاكاتها
الساخرة لأنماط فيلمية تقليدية، فهما في "تربية أريزونا" يحكيان قصة
زوجين لصين يحاولان سرقة طفل من رجل ثري رُزق عددا كبيرا من التوائم، وفي
"فارجو" قصة بوليسية تدور في أقصى الشمال الأمريكي وسط الثلوج، لكنهما
يجعلان الشرطي هنا زوجة حاملا في شهورها الأخيرة. ولعل أرقى الأمثلة على الكوميديا
السوداء هو فيلم المخرج ستانلي كوبريك "دكتور سترينجلاف، أو كيف توقفت عن
القلق وأحببت القنبلة"، ويصور فيه مخاوف الجانبين الأمريكي والسوفييتي من
اندلاع حرب نووية بينهما، لكن عالما مجنونا (بيتر سيلرز) يريد تجريب نظام الدفاع
النووي، بينما يوجد أيضا جنرال أمريكي يعاني عجزا جنسيا، ويجد النشوة في ركوب
قنبلة والانطلاق بها، بما يعني أن الحرب قد وقعت بالفعل.
من بين العديد
من الأفلام الأخرى نذكر مثلا فيلم شارلي شابلن "مسيو فيردو" الذي يخلق
الكوميديا من قصة حياة سفاح، أو فيلم هيتشكوك "المشكلة مع هاري"، حيث
جثة ترفض أن تُدفن، كذلك الفيلم الذي قدم محاكاة لفيلمه القاتم "غريبان في
قطار"، هذه المرة باسم "إرمِ ماما من القطار"، وكان من إخراج داني
دي فيتو. تلك الكوميديا القاتمة من الصعب أن توجد في السينما المصرية، لأن الجمهور
المصري والعربي لا يعرف سوى الكوميديا الصريحة والميلودراما الفاقعة، لكن توجد بعض
الاستثناءات التي برزت في السنوات الأخيرة.
يأتي على رأسها
رأفت الميهي، الذي تتردد في أفلامه عبارات يائسة مثل "في مجتمع غير علمي مش
ممكن تلاقي حل علمي"، أو "ما حدش فاهم حاجة خالص"، ولعل اللقطة
الأخيرة من فيلم "سمك لبن تمرهندي" تلخص هذه الرؤية، لرجل يحمل على كتفيه
رأس حمار!! وفي هذا الفيلم حبكة عن شرطي دولي يدعى "ملاك" (يوسف داود)،
ويطارد البطلين (محمود عبد العزيز ومعالي زايد) بحجة أنهما متمردان، ويصمم على
إجرائهما عملية لغسل الدماغ، وفي المستشفى نشاهد كيف يأكل الأطباء أجساد المرضى
بعد شيها!! وفي "الأفوكاتو" محامٍ يدعى حسن سبانخ (عادل إمام)، يكتشف
أنه يجب عليه أن يصبح "فهلويا" لكي يستطيع تحقيق نجاحه، فيسعى للدخول
إلى السجن حيث يجري صفقاته التي تتلاعب بالقانون.
كما أن أفلام
كاتب السيناريو ماهر عواد تتسم بهذه المسحة القاتمة، فهو في "الدرجة
الثالثة" يقدم اثنين من مشجعي الدرجة الثالثة (أحمد زكي وسعاد حسني) يطالبان
بحق جمهور هذه الدرجة في الكأس التي فاز بها فريقهم، لأنه الجمهور الحقيقي الذي
يتحمل الصعاب، ويخرج دائما خاوي الوفاض. لكن أفلامه الأخيرة تبلغ درجة من السخرية
تكاد أن تطيح بكل شيء، أو بالمعنى ذاته، فهو في "يا مهلبية يا" يسخر من
"كل" النضال الوطني باعتباره "لعب عيال"، كما يجعل مركز
المقاومة ناديا ليلا تملكه البطلة الراقصة (ليلى علوي)، حيث تصبح "فلسطين هي
النادي الليلي المجاور"!!
إن هذا يؤكد مرة
أخرى على ضرورة التناول المرهف للكوميديا السوداء، فقد تنتقل فجأة إلى اللا معنى،
والتشكيك في كل شيء بما يجعل الوجود الإنساني ذاته أمرا مشكوكا فيه. إن هذا الخط
المرهف الذي وقع من فوقه ماهر عواد هو نفسه الذي ارتبك عليه كاتب السيناريو
والمخرج محمد أمين، فهو في فيلم "فيلم ثقافي" يقدم قصة طريفة لثلاثة
شبان يبحثون عن مكان يشاهدون فيه فيلما فضائحيا، لكنه يستخدم هذه الحبكة لكي يطوف
بكل طبقات وشرائح المجتمع، لكي يؤكد في النهاية على أن الحرمان الذي يعاني منه
الشباب يعود إلى أسباب اجتماعية. إنه على النقيض في "ليلة سقوط بغداد"
يعزو الغزو الأمريكي للعراق إلى حرمان الشعب العربي من حرية الجنس وتعاطي المخدرات
(!!)، ليصبح الفيلم كله سلسلة من "الإفيهات" السوقية التي تخلو تماما من
أي بعد سياسي حقيقي، قد يلقي ضوءا على الواقع المرير.
أخيرا هناك مخرج
ننساه كثيرا، برغم إسهاماته بالغة الأهمية في عالم تمصير الكوميديا ذات الطابع
الشعبي، والسابقة لزمانها، وهو عباس كامل الذي كان يسخر من السينما المصرية ذاتها
في أفلامه. وهو في فيلمه الأخير "كان وكان وكان" يكاد أن يقدم مرثية
لنفسه. يحكي الفيلم عن بطل (فؤاد المهندس)، أديب وفنان مغمور، يضطر إلى أن يبيع
مؤلفاته لأسماء كبيرة مقابل مبالغ زهيدة، وبينما يرتفع نجمهم في سماء الأدب والفن
يظل هو مجهولا، حتى يأتي يوم يتصور الجميع أنه قد مات غرقا، فيقيمون له حفلات
التأبين، التي يفرح بها ويريد الإعلان عن أنه ما يزال حيا، لكنهم ينصحونه بالبقاء
في عداد الموتى، لكي يضمن الشهرة التي لم يحصل عليها قط في حياته!!
ضحكة مبللة بالدموع، هذه هي الكوميديا السوداء
الراقية، التي لا تنجح كثيرا لدى جمهورنا العربي، ربما كما قلنا لأنه يفضل
الكوميديا الصريحة، وربما لأن حياتنا الحقيقية ذاتها ملأى بالضحكات المبللة
بالدموع!
No comments:
Post a Comment