Sunday, April 24, 2016

المجرم بطلا مأساويا



من الأنماط الفيلمية الشهيرة ذلك النمط الذي يثير كثيرا من التساؤل، وهو أفلام رجال العصابات، التي يقوم ببطولتها نجوم مشهورون، يُفترض أن يتوحد معهم المتفرج، أو يتعاطف معهم على الأقل، ليثور السؤال: هل من الممكن أن يكون المجرم بطلا مأساويا؟
لعل الإجابة تكمن في تأمل الفترات التي تتزايد فيها الأفلام من هذا النمط، وربما كانت البداية الحقيقية والواضحة – بعد عدة محاولات قليلة متناثرة – هي نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن العشرين في السينما الأمريكية. لقد كانت تلك هي حقبة ما عرف باسم "الكساد الكبير"، عقب انهيار مدمر في سوق الأوراق المالية، أُغلقت المصانع والمتاجر على أثره، وباتت البطالة شبحا يهدد الجميع. وكان أمام هوليوود حل من اثنين: إما أن تقدم أفلام تسلية هروبية، تحتشد بالرقصات المبهرة والغناء، أو أن تصنع أفلاما عن عالم المجرمين، الذين ولدتهم الظروف الاقتصادية الصعبة، وعملوا في تجارة المخدرات وتهريب الخمور.
وهكذا ظهرت أفلام مثل "القيصر الصغير" من بطولة إدوارد جي روبينسون، و"عدو الشعب" من بطولة جيمس كاجني، و"الوجه ذو الندبة" من بطولة بول موني (وهو الفيلم الذي أعيد صنعه في الثمانينيات من بطولة آل باتشينو). وأصبح هؤلاء الممثلون نجوما يتمتعون بشعبية جارفة، إذ أنهم يجسدون رد فعل متمردا على السياسات الحكومية العاجزة، عندما استفادوا من هشاشة النظام الاقتصادي والاجتماعي. ولأن هذه الأفلام كانت تصور رحلة صعود "البطل" من الفقر والهامشية إلى الثراء والشهرة، فقد خلقت موجة من الرفض من جانب مؤسسات دينية وأخلاقية، لكن هوليوود – بخبثها المعهود – وجدت الحل: أن يموت هذا البطل في النهاية، كعلامة على انتصار الخير على الشر، ولكن بعد أن يكون المتفرج قد شاركه طوال ساعتين المتعة في ارتكاب جرائمه!!
وفي الأربعينيات ازدهر نمط يسمى "الفيلم نوار"، يدور في أجواء كئيبة قاتمة، عن بطل مناقض هذه المرة، إذ أنه يمثل القانون الذي يحارب الجريمة، لكنه يجد الفساد والشر قد استشريا إلى درجة الطوفان، إشارة لحالة من التشاؤم، لكنها كانت إشارة غير مباشرة، لذلك لم تثر احتجاجات كموجة الأفلام السابقة، لكن ازدهرت معها شهرة نجوم جدد، عُرفوا بشخصية المخبر الخاص الذي يحقق في جريمة، وكان على رأسهم آنذاك همفري بوجارت، غير أن هذا البطل يقع في براثن امرأة فاتنة قاتلة، تكون في العادة سببا في نهايته المأساوية، وجسدت هذه الشخصية نجمات مثل لورين باكال وريتا هيوارث وباربرا ستانويك.
بين الستينيات والسبعينيات عادت موجة جديدة من أفلام الجريمة، مثل "الحي الصيني" الذي كان نموذجا للفيلم نوار الجديد، وكان من بطولة جاك نيكولسون وفاي دوناواي، لكن الفيلم الذي دشن مرة أخرة صورة المجرم كبطل كان "بوني وكلايد" من بطولة وارين بيتي وفاي دوناواي أيضا، ففي نهاية هذا الفيلم مشهد بالغ الإبهار، حين يموت البطلان وسط الرصاص في تصوير بالحركة البطيئة، فكأنهما يرقصان رقصة الموت الأخيرة. واعتبر النقاد هذا الفيلم إشارة لثقافة جديدة بين الشباب، تدعو للتمرد على المؤسسات القائمة، العاجزة عن تقديم حلول حقيقية.
عادت أفلام الجريمة بين الحين والآخر، وكان أشهرها سلسلة أفلام "الأب الروحي"، الذي يصور قصة صعود المافيا في أمريكا. ولعل الجزء الثاني هو أكثرها تأثيرا وتعقيدا، أذ يحكي في مونتاج متوازٍ طوال الفيلم عن الأب (روبرت دي نيرو)، والابن (آل باتشينو)، وكل منهما يمثل رحلة صعود وهبوط في عالم الجريمة. بينما يأتي فيلم مثل "الطريق إلى الهلاك" في بداية القرن الحادي والعشرين، عن أب مجرم (توم هانكس)، يقرر التوبة والهروب بابنه من هذا العالم الشرير، لكنه يعيش رحلة مريرة قاسية، لأن الأشرار لا يريدونه أن يكون شاهدا عليهم.
أنت مع هذه الأفلام أمام عدة مفارقات، أن تصور بطلا شريرا يتعاطف معه المتفرج، وأن تجعل لشره جذورا في سياق اجتماعي ظالم، وأن تعاقبه في نهاية الفيلم بالموت. وربما كانت هذه العناصر موجودة في أفلام رجال العصابات التي صنعتها السينما المصرية، لكنك سوف تكتشف أن هذه السينما لم تستطع أن تتخلص من الحبكة بالغة الميلودرامية، والتي تبتعد عن الخط الرئيسي لتدخل منعطفات لا علاقة لها بالفكرة الرئيسية.
وكان أول هذه الأفلام هو "عدو المجتمع" (1947) لابراهيم عمارة، والذي يحكي عن البطل (عباس فارس) الذي تحول إلى عالم الجريمة تحت ضغط الحاجة، ويدخل السجن ليخرج منه تائبا باحثا عن زوجته وابنه، وعندما يكون على وشك العثور عليهما تقتله العصابة انتقاما منه. لكن هذه الحبكة تكتسي بظلال أفلام الرعب التي تثير السخرية أكثر مما تثير من الخوف، في فيلم عز الدين ذو الفقار "أجازة في جهنم" (1949)، إذ يوهم البطل المجرم التائب بقية أفراد العصابة أنهم انتقلوا إلى الآخرة!!
وجاءت ذروة هذا النمط من الأفلام في السينما المصرية مع الخمسينيات، التي يمكن اعتبار نموذجها الأهم هو فيلم نيازي مصطفى "حميدو" (1953)، عن البطل (فريد شوقي) الصياد الفقير، الذي تغريه ثروة الاتجار في المخدرات، حتى أنها تنزع عنه إنسانيته، ويُغرق حبيبته (هدى سلطان) في البحر، خوفا من أن تفشي سره، قبل أن ينتهي صريعا على يد الشرطة. أتت بعد ذلك أفلام مثل "ريا وسكينة" (1953) لصلاح أبو سيف، و"الوحش" (1954) لأبو سيف أيضا، وفيهما كليهما يلعب أنور وجدي دور ضابط الشرطة، الذي يواجه العصابات والمجرمين، ولعل تلك كانت أول مرة لبطولة ممثلات في أدوار المجرمات (زوزو حمدي الحكيم ونجمة ابراهيم في الفيلم الأول)، كما كان الفيلم الثاني تدشينا لصورة محمود المليجي كما عرفتها السينما المصرية آنذاك، في دور الرجل الأكثر شرا، والذي سوف يواجهه البطل الأقل شرا فريد شوقي في العديد من الأفلام، مثل "سواق نص الليل" (1958) و"سوق السلاح" (1960).
لقد بدت السينما المصرية في تلك الفترة كأنها تبحث عن معادل مصري لأفلام الجريمة والويسترن (الكاوبوي) معا، خاصة في اللقاء الأخير بين البطل وخصمه، أو في وجود امرأة (في الأغلب كانت هدى سلطان) حائرة بين الرجلين، لكنها تتمنى لو هربت من عالم الشر. كما أن السينما المصرية عرفت توليفة جديدة، مجسدة في بطولة المعلمة زوجة زعيم العصابة (كانت في الأغلب أيضا تحية كاريوكا)، التي تقع في فيلم حسن الصيفي "سمارة" (1956) في حب ضابط المباحث (محسن سرحان) الذي نجح متنكرا في التسلل إلى العصابة، فتبدو أنها تبحث عن طريق للخروج من ظلمات الشر إلى نور الخير، لولا أنها تلقى مصرعها في النهاية. ومن الغريب أن تقدم السينما المصرية محاكاة شبه هزلية للفيلم في فيلم "عفريت سمارة" (1959)، إذ يصبح شبحها بعد موتها رفيقا لضابط المباحث، في سعيه للإيقاع بالعصابة، تماما كما تحول فيلم "ريا وسكينة" إلى "اسماعيل ياسين يقابل ريا وسكينة" (1955)!!
كانت المحاولات المتناثرة للسينما المصرية في العقود التالية تقليدا لأفلام التشويق في هوليوود، لعل من أهمها كان "الرجل الثاني" (1959) لعز الدين ذو الفقار، فهو فيلم جيد من الناحية الحرفية، ويحتشد بالنجوم، لكنه يخلو من أي بعد اجتماعي، بل يعمد مرة أخرى إلى خلق علاقة غرامية بين رجل المباحث المتنكر (صلاح ذو الفقار)، والمرأة الفاتنة (صباح)، ويزيد هذه العلاقة اشتعالا أنه متنكر في هيئة شقيقها. كما قام المخرج طارق العريان بتمصير فيلم "الوجه ذو الندبة" في فيلمه "الإمبراطور" (1990) من بطولة أحمد زكي، الذي لم يصدقه الجمهور، لأنه كان فيلما مستوردا في كل تفاصيله.
وإنك لو تأملت أفلام رجال العصابات المعاصرة فسوف تجد عجبا، والغريب أن معظمها من بطولة أحمد السقا، فمرة أخرى يتم استيراد حبكة أمريكية عن سلسلة من الانقلابات الدرامية بين عصابتين في "حرب أطاليا" (2005)، أو يجعل المجرم من نفسه بديلا للقانون في "الجزيرة" (2007)، أو يتحول البطل إلى بلطجي بالمعنى الكامل للكلمة في "ابراهيم الابيض" (2009)، متذرعا بحجة الانتقام لأبيه بالتسلل إلى عالم العصابة التي قتلته،
وهي حبكة ترددت كثيرا في أعمال نجيب محفوظ، مثل "الحرافيش". لكن الفيلم الذي لا يمكن أن ينسى بحق فهو المأخوذ أيضا عن رواية لنجيب محفوظ، وهو فيلم كمال الشيخ "اللص والكلاب" (1962)، الذي كان دراسة بالغة الجدية في العالم النفسي لشخص بريء (شكري سرحان)، تحول إلى الجريمة بإغراء كلمات الصحفي المثقف (كمال الشناوي)، وعانى من خيانة زوجته وصديقه، ليصبح أصدقاء الماضي كلابا تنبح عليه وهم الذين شاركوا في صنعه، وربما كانت تلك هي المرة الوحيدة التي كان فيها المجرم بطلا مأساويا بحق في السينما المصرية.                                          

No comments: