Friday, March 18, 2016

فيلم "الأمير الصغير"... الرحلة الدائمة للبحث عن الطفولة

لعلك سوف تسأل نفسك بعد أن تشاهد فيلم التحريك "الأمير الصغير" The Little Prince، هل هو فيلم موجه للأطفال حقا؟ فالفيلم يكاد أن يخلو من الألاعيب السينمائية التي تشد انتباه الأطفال في هذه النوعية من الأفلام، مثل مشاهد المطاردات التي تشبه ركوب أرجوحة مدينة الملاهي، أو النكات السطحية التي لا تتطلب التفكير كثيرا، بل هو على العكس من ذلك كله، فيلم متأمل ذو إيقاع متمهل، يحتشد بالكثير من الفلسفة الصافية، لذلك كله أنصحك أن تصحب طفلك وهو يشاهد الفيلم، لتشرح له تلك الأبعاد التي هي من المؤكد أبعد من إدراكه.
ليس هذا عيبا في الفيلم، لكن سببه الوحيد أنه فيلم تحريك فرنسي، يختلف تماما عما اعتدناه مع أفلام الأسلوب الأمريكي. كما أنه يعتمد على قصتين في وقت واحد، يغزلهما معا طوال الوقت، مما قد يثير بعض الغموض لدى المتفرج. ولعل من المهم في البداية أن نشير إلى أن "الأمير الصغير" رواية قصيرة كتبها الأديب والطيار الفرنسي المغامر أنطوان دي سانكسبيري، ويعتبرها الفرنسيون أفضل عمل أدبي لديهم طوال القرن العشرين، وترجمت إلى لغات عديدة، وحققت أرقام مبيعات قياسية، ومع ذلك كله فليس الفيلم نسخة سينمائية من الرواية، بل هو عمل يستخدم الرواية كرواية باعتبارها أحد خيطين سرديين، يكون فيهما الخط الرئيسي هو قصة يفترض أنها الواقع، لذلك استخدم الفيلم أسلوبين مختلفين في التحريك: محاكاة الواقع في القصة الأشمل، والتحريك كادرا وراء كادر للقصة الداخلية لما يبدو أنها عرائس مصنوعة من الورق.
في تجربة واقعية خلال الثلاثينيات كان الطيار دي سانكسبيري – في محاولة منه لتحقيق رقم قياسي في سرعة الطيران - قد تعرض للسقوط بطائرته في الصحراء الكبرى فى أفريقيا، ليضل فيها الطريق أياما حتى أنقذه أحد البدو من الموت، لكن التجربة المريرة جعلته يعيد النظر في الكثير من أساسيات الحياة. وبعدها بسنوات، خلال بداية الأربعينيات، ومع سقوط فرنسا في أيدي النازيين، اختار دي ساكسبيري منفى اختياريا في أمريكا الشمالية، حيث كتب هذه الرواية القصيرة، وزودها برسوم ملونة بسيطة، لكن الرواية كانت في الحقيقة تأملا منه للحياة، والكون. ويمكنك أن تلخص الرواية في كلمات بسيطة: طيار هائم على وجهه، يقابل فتى صغيرا في الصحراء يقول أنه أتى من كوكب آخر، ليتعلم الرجل على يد الطفل الكثير من دروس الحياة.
كان من الصعب تماما تحويل هذه الرواية إلى فيلم، لذلك فليس لها – رغم شهرتها الفائقة – إلا نسخة سينمائية واحدة بالتمثيل الحي وليس بالتحريك، تعود إلى عام 1974، لم تترك أثرا كبيرا في تاريخ السينما، ذلك لأن الرواية خالية من الأحداث، مليئة بالأفكار المجردة. ومن هنا بدأ كاتبا السيناريو إيرينا برينيول وبوب بيريشيتي، والمخرج مارك أوزبورن، فكرة أن يدور فيلم التحريك ليس عن الرواية ذاتها، بل عن الأثر الذي يمكن أن تتركه في الأطفال.
لذلك يتشابك الواقع مع الخيال في الفيلم، فقصته الرئيسية عن طفلة، هي مثل كل الشخصيات هنا بلا اسم محدد (تقوم بصوت الشخصية ماكيني فوي، في النسخة الناطقة بالإنجليزية المعروضة لدينا)، تتعرض لسيطرة كاملة من أمها (صوت راشيل ماكادامز)، التي تخطط لمستقبل الابنة بالمسطرة والقلم، وتضع لكل خطة بدائل، ولكل منها توقيتها الدقيق، وحلمها أن تلتحق الابنة بمدرسة ذات سمعة وشهرة، مما يشكل ضغطا عصبيا شديدا على الطفلة، التي تكاد ألا تعيش طفولتها.
ولأن الأم تفشل في العثور على منحة دراسية مجانية للطفلة، فإنها تضطر لبيع المنزل، والحياة في منزل يبدو متقشفا تماما، بل قل إنه يخلو من الحياة. وذات يوم تعرف الطفلة بوجود جار عجوز (صوت جيف بريدجز)، لديه طائرة قديمة في فنائه الخلفي، ويحاول أن يطير بها، لكنه يخفق مسببا بعض الأضرار، التي لا تثنيه أبدا عن تكرار المحاولة. إن الرجل العجوز يبدو وحيدا، يبتعد عنه الجيران، وهو يبحث عن صديق، يحكي له بعض حكاياته، فيلقي بورقة من رواية "الأمير الصغير" لتسقط أمام الطفلة، التي تخاف في البداية، ثم تطمئن عندما يعطيها العجوز كمية كبيرة من العملات المعدنية، تعويضا عن الزجاج الذي كسره بمروحة طائرته، لتجد الطفلة بين العملات تمثالا صغيرا للأمير الصغير، المرسوم في الورقة التي ألقى بها العجوز إليها.
يدفع الفضول الفتاة الصغيرة إلى أن تتسلل إلى منزل الرجل العجوز، فإذا به على النقيض تماما من منزلها، ربما قد تبدو الفوضى سائدة، لكن المكان يتنفس بالحياة. ومن هنا يبدأ تداخل القصة شبه الواقعية للطفلة، مع القصة الخيالية للأمير الصغير، وكل منهما يستخدم أسلوبا مختلفا في التحريك. يحكي لها الطيار العجوز أن الأمير الصغير (صوت بول رود) قد جاء من كوكب بعيد، حيث ترك وردة يانعة كانت صديقته ليطوف في الدنيا الواسعة، ويمر بعوالم مختلفة، لا يأتي اختلافها من أشكال الكائنات الفضائية التي عهدناها في الأفلام، وإنما من "الأخلاقيات"، فهذا هو كوكب الرجل المغرور المتباهي بنفسه، كأن الكون قد خلق من أجله وحده، وذاك كوكب رجل الأعمال، الذي لا تعني له الحياة شيئا إلا تراكم الثروة، وأخيرا يصل إلى الأرض، إلى الصحراء الكبرى، حيث الطيار في شبابه قد انقطعت به السبل، وبدا أنه على حافة الفناء.
يقضي الطيار الشاب والأمير أياما في الصحراء، تبدو خلالها براءة الأمير الطفل كأنها بوابة سحرية لإثارة الكثير من الأسئلة، فعندما يطلب من الطيار أن يرسم له خروفا لا يقتنع بأي رسم منها، ويقنع برسم لصندوق مغلق يتخيل أن الخروف بداخله، قائلا: "إن ما هو جوهري غير مرئي للعين، بالقلب فقط يمكنك أن ترى الأشياء على حقيقتها"، فكأنها إشارة لخيال الطفولة، الأكثر ثراء من جفاف الواقع. ولأن الأمير لابد أن يرحل يوما، عائدا إلى كوكبه ووردته، فإن الطفلة تصاب بالصدمة، وتعلن رفضها لقصة الأمير الصغير، وتعود إلى حياتها المعتادة، كما رسمتها أمها تماما، خالية من الخيال.
لكن عندما يسقط الرجل العجوز مريضا، ويُحمل إلى المستشفى وحيدا، تدرك الطفلة أنه بحاجة حقيقية إلى صديق، فتقرر أن تبحث بنفسها عن الأمير الصغير. وهنا يتضح المعنى الأهم في الفيلم كله، إنه يتحدث عن التحول من الطفولة إلى النضج، وما نفقده خلال هذا التحول، الذي يأتي على شكل رحلة بحث، تقوم بها الطفلة، تنتهي بها إلى كوكب رمادي تماما، كل ما فيه ينضح بالكآبة، يمتلكه رجل الأعمال الذي قرر أن يشتري كل النجوم، وشرطي الكوكب هو الرجل المغرور الذي يشعر بالسعادة المريضة وهو يسجل المخالفات للناس ويقبض عليهم، أما الأمير الصغير فقد أصبح فتى، يعمل عامل نظافة!!
لا يقتصر الأمر فقط على العمل المتواضع الذي انتهى إليه الأمير، لكنه نسي أيضا ماضيه، وكوكبه الذي جاء منه، ووردته التي تركها فيه. وفي مشهد التشويق الوحيد القصير في الفيلم، ينجح الأمير والطفلة في الهرب من الكوكب الرمادي، والعودة إلى كوكب الأمير، الذي تحول بدون وجوده إلى أعشاب جافة، وذبلت وردته، ما كاد أن يمسك بها حتى تفتت بين أصابعه. لكنه مع شروق الشمس على الكوكب يعود طفلا مرة أخرى، ليبقى السؤال حول إذا ما كان قد غادر الكوكب، وغادر الطفولة معا، وهل لابد أن يعود إليهما؟
لكل منا كوكب طفولته، الذي كان فيه خياله يُكمل صورة الواقع، هذا الخيال الضروري للحياة، حتى لو فرضت علينا هذه الحياة رحلة في أرض قاحلة. ولا يخلو الفيلم والرواية من روح صافية، حين يبدو كأنه يشير بطرف خفي إلى أن النضح يحتم علينا أحيانا أن نقبل صاغرين برحيل الآخرين، كل أنواع الرحيل، لكنه يذكرك أن ذلك يشبه أن تترك صَدَفة، أو قشرة قوقعة، لتبدأ رحلة جديدة، فالحياة والموت لا يتوقفان أبدا عن إثارة الخيال، حول الترحال والسؤال.                                                     



No comments: