مع انتشار الثقافة السينمائية لدى قطاع من شباب جمهورنا
في الآونة الأخيرة، تزايد الاهتمام كثيرا لديهم تجاه نتائج جوائز الأوسكار، خاصة
مع إذاعة حفل توزيع الجوائز على الهواء في العديد من بلدان العالم المختلفة. لذلك
أصبحت هذه الجوائز تحقق أحيانا نوعا من الرضى لتطابقها مع توقعاتهم، لكنها تثير
السخط أحيانا أكثر عندما تتناقض مع هذه التوقعات. لذلك يبدو السؤال القديم جديدا
حول هذه الجوائز: ما هي المعايير التي يتم بها "توزيع" الجوائز؟
وقد وضعنا كلمة "توزيع" بين قوسين، لأنها
الأكثر دلالة على هذه المعايير، فهي لا تُمنح للاستحقاق والإنجاز الفنيين، بقدر ما هي دلالة على
توازنات عديدة، فنية وتجارية وسياسية، وليس ببعيد عنا نتائج الأوسكار في سنوات
سابقة، تم فيها منح الجوائز لأفلام انتهت إلى زوايا النسيان، لمجرد الرغبة في
التأكيد التجاري على نمط فيلمي معين، مثل الفيلم الغنائي الاستعراضي "شكسبير
عاشقا"، أو بسبب الانبهار بتجربة غير قابلة للتكرار مثل الفيلم الصامت
"الفنان"، أو لمواكبة أحداث سياسية وعسكرية مثل فيلم "آرجو"،
الذي يتناول على نحو سلبي ممارسات إيران تجاه أمريكا والأمريكيين.
وقد تأتي النتائج مثيرة للتساؤل في الكثير من الأحيان.
وإن أردت مثالا في أوسكار 2014 فليس هناك دليل أكثر من عدم منح جائزة أفضل ممثلة
للنجمة ميريل ستريب، عن دورها بالغ الإتقان في فيلم "أغسطس: مقاطعة
أوساج"، وأفضل ممثلة مساعدة لجوليا روبرتس عن نفس الفيلم، الذي يصور علاقة
عاصفة بين أم على حافة الاحتضار، وابنتها المتفانية في حبها، ويبدو أن السبب في عدم
حصولهما على الجائزة أنه قد سبق لهما الحصول عليها، لتذهب إلى كيت بلانشيت عن
دورها في فيلم "ياسمين أزرق"، الذي جسدت فيه النمط الذي يفضله المؤلف
المخرج وودي ألين، للشخصية القلقة التي تعاني من وجودها في مجتمع لا تستطيع
التواؤم معه، هو هنا مجتمع لوس أنجلس على الساحل الغربي للولايات المتحدة، بينما
أتت البطلة من نيويورك في الشرق، لكن ألين ينجح عندما تكون الشخصية الرئيسية بطلا،
ولا يحقق مثل هذا النجاح إذا كانت امرأة، خاصة أن الفيلم اكتسى بكآبة لا تتوقعها
من ألين، وغموض ناتج عن قفزات عشوائية في الزمان والمكان. لذلك كان المعيار هنا أن
تحصل بلانشيت على الجائزة هذه المرة، لأنها ببساطة لم تحصل عليها سوى مرة واحدة من
قبل!!
كما أن جائزة أفضل ممثل وممثل مساعد شهدت صراعا فنيا
آخر، بين بطلي فيلم "نادي دالاس بايرز"، وأبطال أفلام مثل "احتيال
أمريكي" و"ذئب وول ستريت" و"12 سنة عبدا". وحصل ماثيو
ماكهوني وجاريد ليتو على الجائزتين عن الفيلم الأول، الذي يحكي عن مرضى الإيدز،
وتحول البطل ذي البنية القوية والشخصية القاسية إلى قدر أكبر من الرقة الإنسانية،
عندما أصيب بالمرض، وتقابل مع مريض آخر يمثل ضعفا نفسيا منحرفا. وربما كانت مثل
هذه القضية ذات أهمية منذ عشرين عاما مضت (مثل فيلم "ساعات" على سبيل
المثال)، بالمقارنة مع قضايا معاصرة تناولتها الأفلام الأخرى المنافسة، خاصة الشره
الشرير الذي يحكم سوق المال والأعمال في أمريكا، ويترك أثره على العالم كله، أو
التاريخ العنصري الذي يمتد في الثقافة الأمريكية، وما يزال يتجلى حتى اليوم في
النظرة الأمريكية إلى شعوب العالم الأخرى.
لذلك كان من الغريب أن يحصل فيلم "12 سنة
عبدا" على جائزة أفضل فيلم وسيناريو مقتبس عن كتاب وممثلة مساعدة، بينما
تفوته جوائز أفضل ممثل وأفضل إخراج، وكأن المطلوب هو إثبات عدم تجاهل الفيلم، دون
منحه عددا كبيرا من الجوائز، لأنه يسجل لواقعة حقيقية حدثت في منتصف القرن التاسع
عشر، عن "اختطاف" رجل زنجي حر من أسرته وعالمه، ليباع في سوق العبيد،
ويقضي أفضل سنوات حياته أسيرا، في مجتمع وثقافة يزعمان الدفاع عن الحرية. لكن مصير
الفيلم كان أفضل على أية حال من واحد من أفضل أفلام سبيلبيرج منذ عشرين عاما، وهو
"أميستاد" الذي يسجل تاريخا مشابها، لكنه قوبل بالتجاهل التام والمتعمد.
ولعل أكثر الجوائز إثارة للاهتمام والجدل، كانت تلك التي
حصل عليها فيلم "جاذبية"، فقد نال جوائز أفضل مخرج وتصوير ومونتاج صوت
ومزج صوتي ومؤثرات بصرية ومونتاج وموسيقى. فالفيلم يدور في الزمن الحقيقي: ساعة
ونصف من فقدان رائدة الفضاء الأمريكية (ساندرا بولوك) اتصالها بالسفينة الأم،
ومحاولاتها – التي نجحت في النهاية – للعودة إلى الأرض. والحقيقة أن الفيلم نجح في
خلق التشويق من هذه المادة البسيطة (ليس هناك في الفيلم أي حبكات فرعية أخرى)،
خاصة أنه جسد حالة الوجود في مجال انعدام الجاذبية (على عكس عنوانه)، لذلك فإن
المخرج ألفونسو كوارون صنع الفيلم بكامله بالتقنيات الكومبيوترية، بإتقان يجعل
المتفرج يصدق تماما سباحة البطلة في الفضاء دون أن تربطها جاذبية ما. وكان من أطرف
التعليقات عن الجوائز هي الخاصة بالصوت، باعتبار عدم وجود الأصوات أصلا في الفضاء،
لكن الحقيقة أننا – نحن المتفرجين – كنا نسمع ما تسمعه البطلة التي ترتدي بدلة
تتيح لها ذلك، وكانت لحظات فقدانها لهذه البدلة تغرقنا في صمت كابوسي مطبق!
وربما كان هذا الإبهار البصري يفسر لك أيضا (بالإضافة
لحساسية موضوع توظيف الأموال في أمريكا) عدم حصول المخرج مارتين سكورسيزي، والممثل
ليوناردو ديكابريو (الذي نضج كثيرا) على جائزتين عن فيلم "ذئب وول
ستريت"، بقدر ما يفسر لك الانبهار بسيناريو فيلم "هي" الذي كتبه
المخرج سبايك جونز، فهو يمثل حالة أخرى من عدم التوازن وانعدام الجاذبية مع البشر
الحقيقيين، بينما يجد البطل (يواكين فينيكس) أن عاطفة الحب تنمو لديه تجاه برنامج
كومبيوتر (!!)، تؤدي صوته الممثلة سكارليت جوهانسون (التي لا تظهر أبدا على
الشاشة، في درس قد يتعلم منه بعض نجومنا). وهذا الإبهار والغرابة يكونان سببا في
أن أفلاما تدور في الواقع اليومي، عن أشخاص عاديين من الذين نقابلهم في حياتنا، لا
تجذب من يمنحون جوائز الأوسكار، رغم أن مثل هذه الأفلام قد تكون إنجازا فنيا
حقيقيا، مثل فيلم المخرج ريتشارد لينكليتر "قبل منتصف الليل"، الذي أكمل
فيه قصة رجل وامرأة تقابلا منذ سنوات وشاهدناهما في فيلمين، تفصل بينهما سنوات
تسع، هما "قبل الشروق" و"قبل الغروب"، أو مثل فيلم المخرج
ألكسندر باين "نيبراسكا"، عن رحلة زوجين عجوزين عبر البلاد، وهي الرحلة
التي تفتن هذا المخرج دائما، كما في فيلميه "عن شميت" و"على نحو
مائل".
ذهبت جائزة أفضل فيلم أجنبي للفيلم الإيطالي
"الجمال العظيم"، وهو نموذج على إصابة المتفرج بالملل لكي يجعله يشعر
بملل الحياة الخاوية من المعنى، وهو ما يذكرك على نحو ما بفيلمي فيديريكو فيلليني
"الحياة اللذيذة" و"روما فيلليني". وإذا كان الفيلم الفلسطيني
"عمر" لم يحقق جائزة في هذا التصنيف، فإنه أثار لمجرد وصوله إلى
التصفيات النهائية إحساس الفخر لدى العرب، وإن كان لا يبتعد كثيرا عن سابقه
"الجنة الآن" للمخرج هاني أبو أسعد. إن أفلامنا التي تعجب الأمريكيين هي
التي لا تشير مباشرة إلى جوهر المشكلة "السياسية"، بل تقصيها إلى
الهامش، فالبطل الذي كان مناضلا يضطر تحت وطأة التعذيب للاعتراف على زملائه وأصدقاء
عمره، ويصبح عميلا لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي، لكن هذا الاحتلال يتوارى إلى
جانب حبكة تتحدث عن العشق بين البطل عمر وشقيقة صديقه وزميله فى المقاومة، لينتهي
الفيلم إلى فكرة إلقاء اللوم – على الأقل بالمشاركة – على الفلسطينيين أنفسهم،
ويؤكد أن "الجدار العازل" لا يحاصر الفلسطينيين، بل إنه يقف عازلا بين
الفلسطينيين والفلسطينيين!!
إن وصول الأفلام العربية لمسابقة الأوسكار يحتاج إلى
وقفة تأمل: هل هذه المسابقة تخلو حقا من توجهات سياسية؟ وهل تعبر حقا عن تميز بعض
أفلامنا أم أنها تعبر أكثر عن مطابقة هذه الأفلام لهذه التوجهات؟ ليس هناك مثال
أكثر وضوحا من الفيلم التسجيلي المصري "الميدان"، الذي يروي قصة ما يحث
في مصر الآن من وجهة النظر التي تلائم وجهة النظر الأمريكية تماما، ووصل للمسابقة
النهائية للجوائز رغم أنه لا يتمتع بأى عمق، سواء على مستوى الشكل أو المضمون.
لذلك يجب ألا نتعجب من نتائج الترشيح لهذه المسابقة أو الحصول على الجوائز، فهي في
النهاية جوائز أمريكية، ذات معايير أمريكية خالصة.