ظلت تهمة حشر الأغنيات في الأفلام السينمائية تجري على
لسان النقاد، ربما بسبب العدد الهائل من المطربين والمطربات الذين ظهروا واحدا بعد
الآخر في السينما المصرية، بل كثيرا ما كان الفيلم الواحد يجمع بين مطرب ومطربة،
بما عرف أيامها باسم "الدويتو" أو الأغنية الثنائية. ومن هنا بدا للوهلة
الأولى أن السينما المصرية أصبحت أسيرة للأغنية، وهو الأمر الذي تأكد أيضا بسبب
اشتراك أصحاب شركات الاسطوانات في تمويل الأفلام، لأن الصناعتين – السينما والاسطوانة
– كانتا في الحقيقة في خدمة إحداهما الأخرى.
لكن المتأمل لتلك المسيرة يدرك كم كانت الفائدة أعمق من
مجرد جني الأرباح. فبعد حوالي عقدين فقط من مولد السينما المصرية الروائية، يمكنك
أن تشهد وتسمع نموذجا طريفا لأغنية ثنائية لم يكن أحد يتخيل قبلها أنها سوف تتحقق بهذه
السرعة على الشاشة. فبدلا من حوار بين بطلة شابة هاربة من أسرتها، بصحبة رجل كهل
يحبها في صمت ولا يريد أن يتركها وحدها، تجد في فيلم "غزل البنات"
(1949) للمرة الأولى ممثلا له صوت أجش يغني، وكان ذلك الممثل هو نجيب الريحاني،
الذي شارك ليلى مراد أغنية "عيني بترف". والطريف أن ملحنها هو محمد عبد
الوهاب الذي كان يميل عادة إلى التطريب، لكنه هنا اهتم بالتعبير الدرامي، في جمل
لحنية قصيرة، وإيقاع سريع. والأطرف أن هناك حكاية تقول إن الريحاني عند تسجيل
الأغنية لم يتمالك نفسه في نهايتها، ليصعد إلى طبقة صوتية أعلى وهو يردد:
"علشانك انتى أنكوي بالنار وألقح جتتي"!!
غير أن هذا التعبير الدرامي لم يظهر فجأة في الأغنية
الثنائية السينمائية. لقد كان عبد الوهاب نفسه في عام 1937 ما يزال ملتزما
بالتطريب، وهو ما يظهر واضحا في أغنيته مع ليلى مراد "ياما أرق النسيم"
في فيلم "يحيا الحب"، وربما بدا في هذه الأغنية عشق عبد الوهاب للإيقاعات
اللاتينية والغربية، لكن الألحان ظلت تطريبا صرفا، لمناجاة بين الحبيبين، اللذين
يظهران على الشاشة في الأغلب في لقطات عامة من بعيد، إلا عندما يريد المخرج محمد
كريم أن "يترجم" على نحو حرفي كلمات الأغنية، فيقطع إلى لقطة قريبة جدا
لعيني ليلى مراد وهي تغني: "خد الجواب من عينيا". ولم تبتعد أم كلثوم
أيضا في بداياتها عن هذا التطريب، كما يظهر في فيلم "عايدة" (1942)،
الذي شاركت بطولته وأغنياته الثنائية مع المطرب المسرحي المشهور آنذاك ابراهيم
حمودة، خاصة أن الملحن محمد القصبجي كان مشغولا وقتها بالبحث عن صيغة شرقية للموسيقى
الأوبرالية، لكن مع قدر أكبر من التعبير العاطفي الواضح عن المشاعر، أكثر كثيرا من
محمد عبد الوهاب في مرحلته الأولى.
لكن عبد الوهاب نفسه قفز مع السينما وتعبيرها الدرامي
قفزة كبرى في فيلم "رصاصة في القلب" (1944)، حين شارك الممثلة – وليست
المطربة – راقية ابراهيم أغنيتين متقاربتين لكنهما كانتا على العكس تماما في
الموقف الدرامي. الأولى هي "حكيم عيون" التي يغازل فيها المرأة التي
عشقها من أول نظرة، لكي يكتشف مصدوما أنها خطيبة صديقه، بينما كانت الأغنية
الثانية "أقول لك إيه عن أحوالي" تعبر عن اكتشاف المرأة أنها لا تحب
الخطيب الطامع في ثروتها، وها هي تحاول تذكير البطل بلقائهما الأول، لكنه يتهرب من
الإجابة. وسوف تلحظ تماما كيف أن اللحن جاء في خدمة الموقف الدرامي، حتى أن بعض
الجمل الحوارية داخل الأغنية يتم إلقاؤها بأداء تمثيلي صرف.
شهدت هذه الأغنيات الثنائية السينمائية نضجا واضحا في
الفترة اللاحقة. ومن المثير للدهشة حقا أن فريد الأطرش، المشهور بميله الواضح
للتطريب في أغنياته الفردية، استطاع بخفة ظل بالغة الرهافة أن يقدم أغنيات ثنائية
أصبحت من علامات السينما الغنائية المصرية. ففي فيلم "ما تقولش لحد"
(1952) يضطر البطل إلى اصطحاب الفتاة التي تطارده بحبها (نور الهدى)، ليشتركا معا
في أغنية "ما لكش حق"، ذات الجمل اللحنية القصيرة والإيقاع الراقص (على
واحدة ونص كما يقال في العامية المصرية)، وتُلقى جمل الحوار وأبيات الأغنية وحتى
الهمهمات في نسيج طريف. وقريبا من هذه التجربة تجد أغنيته الثنائية مع شادية
"يا سلام على حبي وحبك" من فيلم "أنت حبيبي" (1957)، والتي
يحاول فيها الزوجان "تمثيل" الحب أمام أسرتيهما، وهنا أيضا يتداخل
الأداء التمثيلي مع الغناء على إيقاع مرح، خاصة أن كلمات فتحي قورة تمتعت كما كانت
دائما بخفة الظل، لتنتهي الأغنية بجملة "كفاية حب كفاية، أحسن يضر
صحتي"!!
لقد كانت شادية قد شاركت أيضا عبد الحليم حافظ في
بداياته في أغنية "تعالي أقول لك"، من فيلم "لحن الوفاء"
(1955)، وفيها يحاول الحبيبان الإفصاح عن حب كل منهما للآخر (وهي التيمة التي
تتكرر كثيرا في الأغنيات الثنائية السينمائية)، في ألحان قصيرة وإيقاع طروب،
وتعبيرات تلمح ولا تصرح. لكن بعد حوالي عقد من الزمن يكرر المطربان التجربة في
فيلم "معبودة الجماهير" (1967)، في أغنية "حاجة غريبة"، التي
كتب كلماتها التقليدية هذه المرة حسين السيد، بما كان يفتقد خفة ظل قورة في
الأغنية الأولى. وبرغم أن ملحن الأغنيتين كان منير مراد، فقد افتقدت الأغنية
الثانية قدرا كبيرا من الحيوية، وكانت المفارقة أنها عادت إلى التطريب.
ولعل الأكثر تأثيرا في مجال الأغنية الثنائية السينمائية
كان محمد فوزي، الذي كان متعدد المواهب بحق، مما ساعده على تقديم مختلف أنواع
الأغنيات. وربما كانت الأغنية الثنائية الأشهر في هذا المجال هي "شحات
الغرام" من فيلم "ورد الغرام" (1951). وفي موقف بالغ الابتكار تقدم
الأغنية تنويعا على مشهد الشرفة من مسرحية شكسبير "روميو وجولييت"،
والحبيب هنا يصطنع أنه شحاذ أمام حبيبته ليلى مراد. إنه يتوكأ على عصا شجرة،
ويتسول: "إرموا له نظرة، واللا ابتسامة، حسنة وتنفع يوم القيامة". وهي
تصده في البداية وإن كانت تخفي إعجابها به، فيرق له قلبها: "يظهر صحيح اللي
بتشكيه، غلبان يا روميو الشحاتين"، وتعطيه موعدا في الغد!! أما في فيلم
"فاعل خير" (1953) يمكنك أن تجد نموذجا آخر على رغبة الحبيبين فوزي
وصباح في الإفصاح عن الحب، فيتحدث كل منهما عن افتراض يبدأ وينتهي دائما بكلمة
"مثلا"، التي يستمر التلاعب بها طويلا في الأغنية، على نحو لم يتكرر
كثيرا إلا في القليل من أفلامنا السينمائية.
هناك في النهاية نماذج فريدة في الأغنية الثنائية
السينمائية، مثل الفيلم الوحيد الذي قام ببطولته الملحن الرائع رياض السنباطي
"حبيب قلبي" (1952)، وهناك في الفيلم أكثر من أغنية ثنائية مع هدى
سلطان، ربما كان أشهرها "عندي سؤال"، وفيها يتساءل كل منهما عن السبب
الذي جعل الآخر يقع في حبه، في أداء يجمع بين الغناء والإلقاء التمثيلي. كما تشترك
الممثلة فاتن حمامة بالغناء مع شادية في أغنية "ألو ألو احنا هنا" من فيلم
"موعد مع الحياة" (1953)، في لحن منير مراد بالغ البساطة لكي يلائم صوت
فاتن، وكلمات قورة التي تتحدث عن كيف قامت البطلتان بالنجاح في الامتحان الدراسي، مع
لمسة كوميدية على طريقة "هل تعرفي كان وأخواتها؟ وأعرف عماتها آه
وخالاتها"!!
وفي تجربة لم تتكرر في السينما المصرية، أراد المخرج
داود عبد السيد أن يصنع فيلما موسيقيا (أو شبه موسيقي بمعنى أدق) في "سارق
الفرح" (1995)، فجعل الممثلين (وليسا مطربين بأي حال) لوسي وماجد المصري،
يلقيان بعض سطور الحوار على خلفية موسيقية، وهي سطور لا تقصد أن تكون "أغنية"
بالمعنى المألوف، فهي تخلو من الوزن والإيقاع، فجاءت التجربة على طرافتها أقرب إلى
"التغريب"، مما أبعد المتفرج عن التفاعل مع العالم الذي يراه على
الشاشة.
لكن هناك تجربة أكثر أهمية وإن كانت مجهولة بالنسبة
للكثيرين، من فيلم المخرج الكبير الراحل توفيق صالح "السيد البلطي" (1967)،
ففي لحظة نشوة وصفاء للروح، يعبر الممثلان عبد العظيم عبد الحق ومحمد نوح (وكلاهما
ملحن قدير)، في أغنية ثنائية لحنها الأول، ومن كلمات صلاح جاهين، عن حلمهما بتحقيق
عالم أكثر جمالا وعدلا. والأداء هنا أقرب إلى الموال الهادئ، الذي يلائم جو
التمني: "إن فقير زي حالاتي اللقمة ما تكتفوش، والجميع على الموايد ينسوا
الهموم الصغيرة، واللي له نفس ياخد، واللي نشوان يغني، واللي مغرم بواحد ما يروحش
عمره في تمني".....
وهكذا
شهدت الأغنية الثنائية في السينما المصرية رحلة طويلة، كان من المأمول أن ترقى في
الفترة اللاحقة إلى أشكال درامية بحق، لكي تتلاءم مع سياق السرد، لكنها مؤخرا باتت
أقرب إلى "المونولوج"، وإن كان المونولوج في شكله التقليدي الذي نعرفه
أخف ظلا، وأعمق أثرا.