Thursday, February 13, 2014

الأغنية السينمائية من الطفولة إلى النضج


كثيرا ما تتهم السينما المصرية بأنها كانت أسيرة لضرورة احتوائها على أغنيات، مما يقطع تدفق خطها الدرامي، وقد يكون ذلك صحيحا في بعض الحالات، لكنه ليس دقيقا تماما، لأن الأفلام والأغنيات دخلت معا في علاقة حميمة، أثرت فيها كل منهما على الأخرى، وكما شهدت السينما المصرية تطورا في مسيرتها، عاشت الأغنية نوعا مماثلا من التطور، ناهيك عن الخصوصية التي تتمتع بها السينما المصرية في هذا المجال. وليس غريبا أن تكتشف أن ذلك كان أيضا حال العلاقة بين السينما والأغنية في الأفلام الغربية، ويكفيك أن تراجع العناوين الأخيرة للأفلام الأمريكية على سبيل المثال، لتكتشف أنها احتوت على العديد من الأغنيات. كما أننا نعرف جميعا ذلك الارتباط الحميم بين السينما والأغنية في الأفلام الهندية أيضا.
ولكي ترى هذا التطور بقدر من الوضوح، دعنا نتأمل كيف أن الأغنية السينمائية قد تطورت خلال عقد واحد من الزمن. في فيلم محمد عبد الوهاب "يحيا الحب" (1937) أغنية "عندما يأتي المساء"، التي تقطع السرد تماما، ويمكنك أن تحذفها دون أن تفتقد شيئا، يغنيها عبد الوهاب وقد وضع يديه في جيبي سرواله، كما أن الصورة السينمائية اكتفت بالترجمة البصرية الساذجة للكلمات، فهي تعرض ما يفترض أنه سماء ونجوم، لكن الأهم هو أن أداء عبد الوهاب لم يخلُ من التطريب الصرف، مع تكرار سطور الأغنية. اختفى هذا التكرار بشكل جزئي في أغنية "حنانك بيا ياربي" من فيلم "رصاصة في القلب" (1944)، وإذا كان المطرب ما يزال يقف في بدلته الكاملة، فإن أداءه يقترب من دراما التعبير عن حيرة الحبيب الذي اكتشف أن محبوبته ليست إلا خطيبة صديقه. وسوف تجد مقارنة مشابهة مع أم كلثوم، بين أغنية "يا ليل نجومك شهود" من فيلم "وداد" (1936)، وأغنية "يا صباح الخير" من فيلم "فاطمة" (1947).
وسوف نقتصر الآن على شكل من الأغنية السينمائية، هو الأغنية الفردية، لنتأمل فيما بعد الأشكال الأخرى. وفي مثال طريف يوضح ذلك التطور، يغني عبد الحليم حافظ "يا سيدي أمرك" في فيلم "ليالي الحب" (1955)، في موقف يفترض فيه أنه مضطر لإرضاء رجل عجوز مرتبط بالغناء القديم، وتظهر قدرة عبد الحليم على أداء الأدوار والموشحات القديمة، مع كلمات ساخرة من نوع "خايف أقول على قد الشوق لتطلع روحي"، أو "وبأغني قديم وأنا إيه ذنبي، أعمل لك إيه يانا ياغلبي"!! لكن المفارقة كانت أن عبد الحليم (مع فريد الأطرش) ظل مرتبطا بالتطريب حتى في أفلامه وأغنياته الأحدث، من "الخطايا" (1962) وحتى "معبودة الجماهير" (1967)، فقد كانت أغنيات هذه الأفلام، مثل "الحلوة" أو "قل لي حاجة" أو "أحضان الحبايب" أو "الهوى هوايا"، أسيرة في أغلب الأحيان لاصطناع موقف للأغنية، التي ظلت طويلة بلا داعٍ، ولا تخلو من التكرار.
المفارقة الأهم هي أن التطوير حدث مع ما يمكن أن نسميهم مطربين أكثر شعبية، مثل عبد العزيز محمود ومحمد فوزي وكارم محمود، ولعلك تلاحظ أنهم في معظم أفلامهم أدوا شخصيات كانت غريبة على السينما من قبلهم، نجار أو سائق قطار أو بائع جرائد، كما أن أغنياتهم أصبحت أقصر وبلا تكرار، ودخلت عليها إيقاعات أكثر معاصرة مثل السامبا أو الرومبا أو التانجو (بينما كان لإيقاع الفالس تاريخ ممتد في الموسيقى الكلاسيكية العربية). ولعل المثال الأوضح على ذلك أغنية عبد العزيز محمود "شباك حبيبي" من الفيلم الذي يحمل ذات الاسم (1951)، فالمطرب يغني الأغنية في ورشة نجارته، وهو يصنع شباكا لحبيبته، وتصبح الأغنية هي مشهد نزول العناوين أيضا، مصحوبة بكل تفاصيل مراحل صنع الشباك وتركيبه، مع كلمات رقيقة قد تفتقدها تماما في أغنياتنا المعاصرة، مثل "يا ضرفتين من تيه ودلال"، أو "ما لوش في دنيا الحب نظير، ندرن عليا إن نلت مرامي، لأعمل ستايره حرير في حرير". وفي نفس الفترة تقريبا يغني فوزي "ليا عشم وياك يا جميل" مخاطبا الحصان الذي تقتنيه حبيبته، التي تهوى تربية الخيول، في فيلم "ورد الغرام" (1951)، كما يغني كارم "أمانة عليك يا ليل طول" في فيلم "عيني بترف" (1950)، وهو لا يدري أن محبوبته بائعة الفجل (تحية كاريوكا) ترقص على ألحانه.
ولعل التطور يظهر أكثر وضوحا في أغنيات المطربات، اللائي جاء الكثير منهن من البلاد العربية، خاصة سوريا ولبنان. إن سعاد محمد تغني قصيدة بالفصحى في فيلم "أنا وحدي" (1952)، تعتمد تماما على بلاغة وبساطة كلمات صالح جودت وألحان السنباطي، بما يذكرك بأغنية "أصون كرامتي" قبل خمس سنوات فقط في فيلم "فاطمة"، مع أم كلثوم ورامي والسنباطي. كما تغني سعاد محمد في نفس الفيلم أغنية خفيفة الظل، هي "القلب واللا العين" لمأمون الشناوي ومحمود الشريف، هذه المرة في تلميح لعلاقات الحب التي كانت تتشكل في سياق الدراما. وتلك هي خفة الظل ذاتها التي تراها وتسمعها من نجاح سلام في فيلم "دستة مناديل" (1954)، لفتحي قورة وكارم محمود، وهي أغنية "صبح الصباح"، التي يبرع المخرج عباس كامل في ترجمتها بصريا مع طقوس الصباح اليومية، من بائع الفول المدمس إلى إعداد مائدة الإفطار وحتى ارتداء الملابس، كما تحتشد الأغنية بكلمات بالغة الرقة والبساطة معا: "تبارك الخلاق، مقسم الأرزاق، إذا أراد أو شاء، تفرج بإذن الله"، أو "سر الحياة في الكون، تشهد على قدرتك، تقول له كن فيكون، وتديره بحكمتك".
كانت تلك كلمات فتحي قورة، الذي كتب أغلب أغنيات الأفلام المصرية على اختلاف أنواعها، ولتقارن ذلك مثلا مع أغنية شادية "إن راح منك يا عين" في فيلم "إرحم حبي" (1959)، والتي تعبر عن مرارة فقدان الحبيب الذي هجر، والتوعد له بالويل والثبور. كذلك الأغنية الفريدة في السينما المصرية على الإطلاق، والتي تغنيها هدى سلطان في فيلم "امرأة في الطريق" (1958) بعنوان "يا صابر"، والتي برع فيها الملحن منير مراد في استخدام طبقة صوت منخفضة، تغوي بها المرأة حبيبها (رشدي أباظة)، ويصورها عز الدين ذو الفقار باستخدام تناقض حاد بين النور والظلام.
وإذا كانت صباح تحتل مكانة قوية في الأغنية السينمائية المصرية على اختلاف أنواعها، فهي أيضا التي قدمت شكلا جديدا مع صلاح جاهين وسيد مكاوي في أغنية "أنا هنا يا ابن الحلال" في فيلم "العتبة الخضراء" (1959)، وهو شكل يعتمد على البساطة الشديدة، التي تعكس دلال الفتاة المصرية حين تمزج بين التصريح والتلميح في حبها، "با أحلم بعش، أملاه أنا، سعد وهنا، وأنا هنا، يا ابن الحلال". تلك هي البساطة ذاتها التي سوف يأخذها جاهين، هذه المرة مع كمال الطويل، إلى مدى أبعد في أغنية سعاد حسني "يا واد يا تقيل" من فيلم "خللي بالك من زوزو" (1972)، لكن هذا الثلاثي سوف يقدم في فيلم "شفيقة ومتولي" (1978) أغنية عميقة السخرية والمرارة، هي "بانوا على أصلكو بانوا"، التي تنقد مجتمعا ذكوريا، يخفي أخطاءه وخطاياه بقمع المرأة واستغلالها.
هناك أخيرا استخدامات متفردة للأغنية في السينما. ولعل أشهرها أغنية سيد اسماعيل "يا صحرا المهندس جاي" من فيلم صلاح أبو سيف "الصقر" (1950)، فللوهلة الأولى تبدو الأغنية ترحيبا بتعمير الصحراء (وكانت تذاع في الإذاعة بهذا المعنى)، لكنها في سياق الفيلم تعبر عن غفلة أصحاب الأرض، الذين تركوا الأجنبي يتسلل إليها تحت هذا الزعم. بل إن ممثلين (غير مطربين) قدموا أغنيات سينمائية مهمة، وربما لا يعرف الكثيرون أغنية محمود الجندي "أهي دنيا" من فيلم "المرشد" (1989)، لسيد حجاب وعمار الشريعي، والتي تعبر عن "فلسفة" الهامشيين، الذين لا يملكون شيئا سوى التحايل على الحياة، وقد يبدون مستسلمين لكنهم يخفون تمردهم تحت السطح: "الدنيا دي إيه غير بتاعة، والناس دي عبارة عن بتوع، فيه ناس واكلينها بالنطاعة، وقال إيه عايزينا نبقى طوع"!!
لكننا لا يمكن أن ننسى أغنية عبد المنعم مدبولي في فيلم "مولد يا دنيا"، بأداء تمثيلي بالغ الرهافة والبراعة، لشخصية سائق الحنطور الذي تجاوزه الزمن ليصبح معدما وحيدا. وبكلمات مرسي جميل عزيز وألحان كمال الطويل وإخراج حسين كمال، تتحول المناجاة الذاتية التي ترثي الحال إلى أغنية: "إحنا اللي كانوا الحبايب، بيسافروا بينا القمر، بقينا أنتيكة، دقي يا مزيكا.... طيب يا صبر طيب".
لقد ظُلمت السينما المصرية كثيرا، باتهامها بحشر أغنيات، لكن الحقيقة أنها كانت تقوم في أحيان كثيرة بتوظيفها على نحو له خصوصيته بين صناعات السينما الأخرى، وليس من الضروري أو من المفيد أن تبحث لمثل هذا التوظيف عن تعريف، يطابق ما هو موجود في السينما الأمريكية على سبيل المثال، وهو الأمر الذي يتأكد مع أشكال أخرى عديدة للأغنية السينمائية في السينما المصرية.                                       

No comments: